وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الإصبع المتحرك: لمحاتٌ من حياة رباعية فارسية

رباعية فارسية
صورة تم التقاطها يوم 8 يونيو 2012 من عرض تم تنظيمه تكريماً لروح الشاعر الفارسي عمر الخيام على هامش النسخة الثامنة عشر من فعاليات المهرجان العالمي للموسيقى المقدسة بمدينة فاس المغربية. المصدر: ABDELHAK SENNA / AFP

الأستاذ الدكتور علي أصغر سيد غراب

كيف وجدت الرباعيات المنسوبة إلى فيلسوف العصور الوسطى عمر الخيام طريقها إلى سفينة تيتانيك وصارت موضوعاً لمحاكاة ساخرة من مارك توين وجزءاً من خطاب الرئيس بيل كلينتون؟

إنّ إصبع الدّهر المتحرّك كتب ولا يزال يكتب،

وحكمه نافذ حازم صارم،

ليس في مقدور أحد أن يشطب منه شيئاً، ولا تُمْحى منه كلمة واحدة،

ولو هطلت دموع العالم بأسرها.

(ترجمة نويل عبد الأحد)
على جدران معهد لايدن لدراسات المنطقة (LIAS) في جامعة لايدن، نُقشت هذه الرباعية لتجميل المباني الموجودة بشارع ماتياس دي فريشوف. وتلك إحدى الرباعيات الكثيرة التي تُنسب إلى عالم الفلك والفيلسوف الفارسي عمر الخيام (1048-1131)، وقد تحمّس إدوارد فيتزجيرالد (1809-1883) لإنجاز ترجمتها وصدرت في عام 1859. لكن أصالة رباعيات الخيام محل خلاف لأن معظمها نُسب إليه بعد قرون. لكن ترجمة فيتزجيرالد لهذه الرباعيات الفارسية ألهمت أجيال من الشعراء والفنانين والفلاسفة والسياسين الذين استعملوها في سياقات متعددة.

تكتسي هذه الرباعيات بطيفٍ من الغموض؛ فهي موجزة العبارة، وبارعة في الكشف عن حكمة كونية، لكن لها كذلك نظرة عالمية تلذذية، وتبشر بفلسفة عيش اللحظة (carpe diem). وقد كان هذا المزيج هو السبب في جعل هذه الرباعيات رائجة بين أجيال من القراء وعبر ثقافات مختلفة. ويعتبر تقديم فيتزجيرالد فريداً من نوعه في الأدب المترجم، وألهم أكثر من ألف شاعر لترجمة هذه الرباعيات على طريقتهم وبلغات مختلفة حتى أصبحت الرباعيات مذهباً في أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية مطلع القرن العشرين ثم في بقية أنحاء العالم.

مذهب الرباعيات

رغم أن هذه الرباعيات قد أصبحت واحدة من أشهر الأشعار في العالم، فإن الطبعة الأولى فشلت تماماً. ترجم فيتزجيرالد 75 رباعية ونشر 250 نسخة واشترى بنفسه أربعين نسخة. وأُرسلت النسخ إلى مكتبة برنارد كواريتش، لكنها لم تبع، لدرجة أن المكتبة أعلنت عن تخفيض أسعارها. اكتشف ويتلي ستوكس وجون أورمسبي الكتاب في عام 1861.

واشترى ستوكس عدة نسخ من الرباعيات لصديقه دانتي غابرييل روسيتي، وكان آنذاك عضواً في رابطة ما قبل الرفائيلية. كان تلقّى الرابطة لهذه الترجمة تلقّياً إيجابياً مما أدى إلى نشر الطبعة الثانية من الرباعيات في عام 1868. واشتملت الطبعة الثانية على 110 رباعية. وقد قام جون راسكن بحفاوة شديدة، وهو أحد المنتمين إلى الرابطة، بكتابة رسالة إلى فيتزجيرالد في 2 سبتمبر 1863 قال فيها:

سيدي العزيز جداً،

إنني وإن كنت لم أعرفك إلا أنني أتضرع إلى الله أن يساعدك حتى تجد وتترجم لنا أعمالاً أخرى لعمر الخيّام. لم يسبق لي قط حتى يومنا هذا أن قرأت شيئاً فتن قلبي كما فعلت هذه القصيدة… وإن هذا وذاك هو كل ما يمكن قوله عنها.

أرجوك قدم لنا المزيد والمزيد من هذه الأعمال. وإنني ممتن لك أيما امتنان، لك مني كل تقدير.

وهكذا نُشرت الرباعيات حتى النسخة الخامسة (1872- 1879) وكانت الأخيرة قد نُشرت في عام 1889 بعد وفاته.

ربما تكون الرباعيات من أكثر الأعمال الأدبية المترجمة عن الثقافة الإسلامية في العصور الوسطى. فقد تُرجمت إلى جميع اللغات الرئيسية تقريباً في العالم. وصارت عدة عبارات مبتكرة من فيتزجيرالد أمثالاً باللغة الإنجليزية: “خذ النقد ودع الدَيْن يبتعد”، أو “جرّة خمر ورغيف خبز، وأنت” المقتبسة من الرباعية التالية:

كتاب آيات تحت الغصن،

جرّة خمر ورغيف خبز، وأنت

إلى جانبي تغني في البرية…

البرية التي صارت جنة الآن!

لم تقتصر شعبية الرباعيات على الدوائر الأدبية التي أنتجت أعمال كثيرة تنوعت ما بين المحاكاة والأدب الساخر والتعليقات، لكن وصلت أيضاً إلى الثقافة المادية. فقد تم الاستشهاد بعبارات من الرباعيات في الإعلانات التجارية للتبغ والسجائر وأقلام الرصاص والقهوة والشوكولاتة والعطور وصابون الحمام والنبيذ والمقاهي والتقويمات وغيرها الكثير.

وهناك العديد من التقارير عن جنود في الحربين العالميتين احتفظوا بنسخ من الرباعيات في جيوبهم وحفظوا الرباعيات عن ظهر قلب. وقد أورد الكاتب يوس كاومانز في الببليوغرافية الأخيرة التي كتبها عن الخيام أن عدد طبعات ترجمة إدوارد فيتزجيرالد قد بلغت 1015 طبعة. ولكم هو مدهش أن تصل هذه الرباعيات إلى هذه الشعبية الجارفة.

تايتانك والرباعيات

من المفارقات أن شهرة الرباعيات قد زاد عندما غرقت مع سفينة تايتانك. وقدمت شركة سانجورسكي وساتكليف لتغليف الكتب واحدة من أنفس النسخ للرباعيات واستمر العمل عليها قرابة عامين ونصف. وهكذا صُنعت نسخة عمر العظيم (the Great Omar – A Copy of The Rubáiyát of Omar Khayyám).

أمر جون ستونهاوس بالتالي: “أحسن صنعه وضع على الغلاف كل ما تريد، لا حدود لذلك، افعل ما تريد كلما زاد السعر سرّني ذلك، فقط طالما أنه مفهوم وأن ما تفعله وما تطلب ثمنه سيكون مبرراً في العمل النهائي، وأن يكون الكتاب بعد اكتماله أعظم غلاف حديث في العالم، تلك هي التعليمات فقط”.

وقد رُصّع الغلاف بآلاف الجواهر. وزُيّنت اللوحة الأمامية بثلاثة طواويس تحت قوس فارسي، تجلس على “شكل قلب”، ذيولها مطعمة بجواهر وذهب يكاد يغطي الغلاف بالكامل. “عيون الريش مرصعة بـ 97 حجر توباز كريم، (…)، وزُيّنت أعين الطيور بـ18 لون فيروزي ورُصّعت بالياقوت”.

واشترى الأمريكي غابرييل ويس الكتاب في مزاد. بدورها، حزمت دار مزادات سوثبي الكتاب وأرسلته إلى نيويورك على السفينة تايتانيك. لكن من المحزن أن الكتاب يقع الآن على الأرجح في قاع المحيط الأطلسي.

الرباعية المنسوبة لعمر الخيام على جدران معهد لايدن
الرباعية المنسوبة لعمر الخيام على جدران معهد لايدن لدراسات المنطقة بجامعة لايدن. الصورة التقطها صاحب المقالة.

الإصبع المتحرك

بالعودة إلى رباعية الإصبع المتحرك، أرى أنها واحدة من القصائد المفضلة في العالم الناطق باللغة الإنجليزية. ويقدم محرك البحث غوغل عدداً من النتائج تبلغ 940 ألف نتيجة عند البحث عن “Omar the Moving Finger”، أما البحث عن “the Moving Finger” فيظهر نتائج تصل إلى 74 مليون نتيجة من بينها رواية “الإصبع المتحرك” لأغاثا كريستي الصادرة عام 1942. وعلى حد علمي، استعمل مارتن لوثر كينغ (1929-1968) وبيل كلينتون، الرئيس الأمريكي بين عامي 1993 و2001 تلك الرباعيات.

واستشهد كينغ بعمر الخيام في خطابه “ما بعد فيتنام: آن زمان كسر الصمت” في عام 1967 للإشارة إلى مرور الزمن الذي لا يرحم، حيث قال: “قد نصرخ ونتضرع حتى يقف الزمن أو يتمهل، لكنه لا يبالي بأي رجاء ويندفع في طريقه. على العظام البالية والبقايا المتناثرة للعديد من الحضارات ترتسم كلمات حزينة (فات الأوان). ثمة كتاب لا نراه لهذه الحياة يسجل صحوتنا واستخفافنا بنزاهة. وقد أصاب الخيام حين قال: (إنّ إصبع الدّهر المتحرّك كتب ولا يزال يكتب)”.

واستشهد كلينتون بالرباعية في حديثه عن قضية مونيكا لوينسكي في عام 1998: “مثل أي شخص يواجه بصدق عار سلوك غير مشروع، أقول إنني سأفعل أي شيء حتى أعود وأمحي ما ارتكبت. لكن إحدى الحقائق المؤلمة التي عليّ التعايش معها هي أنه لا سبيل إلى ذلك”، ثم استشهد بالرباعية.

انتشار المحاكاة الساخرة للرباعيات

ألهمت شعبية الرباعيات طيفاً واسعاً من الشعراء والفنانين لعمل محاكاة ساخرة. وقد أنجز مؤلفون مشهورون مثل مارك توين (1835-1910) محاكاة ساخرة تُراوح بين معاناة الشيخوخة وفقدان القوة الجنسية، أو البقاء في السرير عند شروق الشمس، بدلاً من الأخذ بنصيحة فيتزجيرالد: “استيقظ! للشمس التي تفرقت في رحلة…”. ربما يكون مؤسس جمعية عمر الخيام الهولندية، الراحل يوس بيخستراتن، أحد القلائل الذين جمعوا عدداً كبيراً من هذه الإصدارات الثمينة وكتبوا مقالات أكاديمية عن هذه القصائد الرائعة.

هناك محاولات كثيرة لعمل محاكاة ساخرة عن رباعية الإصبع المتحرك التي أوردها هنا، أشكر يوس كاومانز على تزويدي بهذه المقاطع:

“إنّ إصبع القانون كتب ولا يزال يكتب،

وحكمه نافذ حازم صارم،

ليس في مقدور أحد أن يشطب منه شيئاً،

ليعطي الإنسان عذراً لإشعاله”

(رباعية أوهاو دريام – جي. إل داف)

“إنّ إصبع المتحرك كتب ولا يزال يكتب”،

“يا عزيزتي لديك الشجاعة بالتأكيد،

للخضوع ليد القدر،

حين تعجزين عن مساعدة نفسك ولو قليلاً”

(رباعية زوجٌ غاضب – جي. إل داف)

“المحرّك المتحرّك يسرع ويمضي قدماً

لا صرخات الرهبة ولا كلّ الصيحات

ستسوي ما حصل من ضرر،

حتى وإن بات الضحايا أنصاف موتى”

(رباعية سيارة – سي ويلز)

ختاماً، أقول إن فيتزجيرالد قد جعل رباعيات الخيام جزءاً من الأدب العالمي وتعلمنا منها كيف نعيش حياة طيبة، وهي لنا تذكرة بفنائنا، وعرفنا منها لِم يجب علينا أن نغتنم اللحظة الآنية بابتسامة نخطفها من زمان يمرّ ولا يرحم.

المصادر:

1 Aminrazavi, M., The Wine of Wisdom: The Life, Poetry and Philosophy of Omar Khayyam. Oxford: Oneworld, 2005.
2 Biegstraaten, J., “Omar with a Smile,” in Persica: Annual of the Dutch-Iranian Society, No. 20, 2004-2005, pp. 1-37.
3 Coumans, J., The Rubáiyát of Omar Khayyám: An Updated Bibliography, Leiden: Leiden University Press, 2010.
4 Karlin, D., FitzGerald Edward: Rubáiyát of Omar Khayyám, Oxford: Oxford University Press, 2009.
5 Seyed-Gohrab, A.A. (ed.), The Great Umar Khayyam: A Global Reception of the Rubáiyat, Leiden: Leiden University Press, 2012. (digitally available at https://library.oapen.org/
6 Shepherd, R., The Cinderella of the Arts. A Short History of Sangorski & Sutcliff, London and New Castle, DE: Shepherds and Oak Knoll Press, 2015.

ملاحظة

الآراء الواردة في هذا المقال تعبّر عن آراء الكاتب (الكتّاب)، وليس المقصود منها التعبير عن آراء أو وجهات نظر فَنَك أو مجلس تحريرها.

ملاحظة

تم  نشر هذه المقالة في الأصل على موقع  https://leidenmedievalistsblog.nl في 13 أبريل 2018

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles