وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الدول العربية الأكثر عرضة لمخاطر الدين العام الأمريكي

تتعرّض الدول العربيّة اليوم إلى خسائر كبيرة ناتجة عن تراجع قيمة سندات الخزانة الأميركيّة مؤخّرًا، بعد تضخّم الدين العام الأميركي وبلوغه سقفه القانوني.

الدول العربية عرضة لمخاطر
أفق دبي. كريم صاحب / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

تستثمر 11 دولة عربيّة، أبرزها المملكة العربيّة السعوديّة والكويت والإمارات العربيّة المتحدة، نسبة كبيرة من احتياطاتها الماليّة في سندات الخزانة الأميركيّة، أي الدين العام الحكومي للولايات المتحدة الأميركيّة.

وهذا تحديدًا ما يعرّض هذه الدول اليوم إلى خسائر كبيرة ناتجة عن تراجع قيمة هذه السندات مؤخّرًا، بعد تضخّم الدين العام الأميركي وبلوغه سقفه القانوني. كما تتعرّض هذه الدول العربيّة إلى مخاطر تخلّف الولايات المتحدة عن سداد ديونها على المدى المتوسّط، ما قد يضرب قيمة هذه السندات كليًّا في الأسواق.

مخاطر الدين العام الأميركي: تحذيرات جديّة وخطيرة

في السادس من شهر فبراير/شباط 2023 حذّر بريان موينيهان، المدير التنفيذي لثاني أكبر مصارف الولايات المتحدة الأميركيّة “بنك أوف أميركا”، من أنّ احتمال تخلّف الولايات المتحدة الأميركيّة عن سداد ديونها بات احتمالًا لا يمكن تجاهله. وعلى هذا الأساس، اعتبر موينيهان أنّ ” بلدانا أخرى حول العالم” يفترض أن تستعد لسيناريو تعليق سداد سندات الخزانة الأميركيّة، في إشارة مباشرة إلى مخاطر هذا الأمر على اقتصاداتها.

وزيرة الخزانة الأميركيّة جانيت يلين كانت أكثر دقّة في حديثها عن هذه المشكلة، حين أشارت بشكل مباشر إلى أنّ الولايات المتحدة قد تتخلّف عن الوفاء بالتزاماتها في أقرب وقت في شهر يونيو/حزيران 2023، إذا لم تتم معالجة أزمة بلوغ الدين العام الأميركي سقفه القانوني.

أمّا نتيجة هذا الحدث المحتمل، فلن تكون بحسب يلين أقل من “أزمة ماليّة عالميّة جديدة”. وفي الوقت الراهن، تحاول وزارة الخزانة تأخير هذا الاحتمال قدر المستطاع، عبر “إجراءات استثنائيّة” تسمح بمواصلة دفع الفواتير حتى معالجة الأزمة.

إشكاليّة السقف القانوني للدين العام الأميركي

يعود سبب المشكلة الأساسي إلى ارتفاع الدين العام الأميركي حاليًّا إلى حدود ال31.38 تريليون دولار أميركي، وهو ما لامس سقف الدين العام بحسب القانون الأميركي، أي الحد الأقصى المسموح به لهذا الدين، والبالغ 31.4 تريليون دولار.

وبمجرّد بلوغ الدين السقف القانوني، لن تملك الحكومة الأميركيّة صلاحيّة اللجوء إلى الأسواق الماليّة للاقتراض وتمويل العجز في ميزانيّتها، وتسديد فوائد ودفعات الديون المستحقّة أساسًا عليها. وهذا تحديدًا ما دفع موينيهان ويلين إلى الحديث عن سيناريو التخلّف عن سداد سندات الدين العام خلال الأشهر المقبلة.

الحل لهذه المشكلة، يفترض أن يمر بالكونغرس الأميركي، الذي يمتلك صلاحيّة زيادة الحد الأقصى القانوني للدين العام، أو تعليق العمل به مؤقّتًا. إلا أنّ الإدارة الأميركيّة فشلت حتّى اللحظة في انتزاع قرار كهذا من الكونغرس، في ظل إصرار الجمهوريين –الذين يملكون الأغلبيّة في مجلس النوّاب- على فرض خطّة لخفض الإنفاق الحكومي، قبل الموافقة على أية زيادة في سقف الدين القانوني.

في المقابل، لا يبدو الحزب الديمقراطي، الذي يسيطر اليوم على البيت الأبيض ومجلس الشيوخ، مستعدًا للتفاوض على خفض النفقات الحكوميّة، كما يطلب نوّاب الحزب الجمهوري. إذ من المفترض أن ترتبط خطة خفض النفقات –التي يطالب بها الجمهوريون- بإجراءات تقشّفيّة قاسية، وهذا ما سيثير النقمة الشعبيّة على الإدارة الأميركيّة والحزب الديمقراطي، وخصوصًا في ظل ارتفاع نسبة التضخّم وتراجع قدرة الأميركيين الشرائيّة.

وبذلك، دخل ملف زيادة سقف الدين القانوني في دوّامة لعبة عض الأصابع والضغط السياسي بين الحزبين، فيما يتقاذف الطرفان حاليًّا الاتهامات حول الجهة التي تتحمّل مسؤوليّة المأزق الراهن.

الدين العام الأميركي: قنبلة موقوتة؟

في الوقت الراهن، يشير العديد من التحليلات إلى أن تخلّف الولايات المتحدة عن دفع سندات الدين العام سيبقى احتمالًا قائمًا خلال السنوات المقبلة، حتّى لو تمّت معالجة المشكلة بشكل مؤقّت الآن، عبر رفع سقف الدين القانوني هذه السنة.

فارتفاع الدين العام الأميركي إلى حدود ال130% من الناتج المحلّي الإجمالي الأميركي، يتوازى هذه الفترة مع ارتفاع كبير في معدلات الفوائد العالميّة ما سيزيد من وتيرة ارتفاع هذا الدين على المدى المتوسّط. كما تتزامن هذه التطوّرات مع معدلات نمو اقتصادي متواضعة جدًا، مقارنة بسرعة نمو الدين العام، ما سيزيد من ثقل الدين على الميزانيّة العامّة الأميركيّة.

ولذلك، تشير هذه التحليلات إلى أنّ مسألة سقف الدين العام ستبقى قنبلة موقوتة ستنفجر حكمًا في المستقبل، فيما لن يؤدّي رفع سقف الدين العام القانوني حاليًّا إلّا إلى شراء بعض الوقت وتأجيل التعامل مع المشكلة، تمامًا كما جرى مرّتين خلال أعوام 2011 و2013. مع الإشارة إلى أنّ حجم الدين العام الأميركي ارتفع بنسبة 90% خلال العقد الماضي، في حين أن نسبة نمو الاقتصاد الأميركي طوال هذا العقد لم تتجاوز ال43%، ما يشير إلى حجم المشكلة التي يمثّلها تسارع نمو هذا الدين.

في الوقت نفسه، تشير معظم الترجيحات إلى أنّ الأزمة ستترك أثرها في الأشهر المقبلة على التصنيف الائتماني لسندات الخزانة الأميركيّة، كما حصل عامي 2011 و2013، خلال الأزمات السابقة المشابهة. وهذا التطوّر سيرفع -مجددًا- فوائد الاقتراض على الحكومة الأميركيّة، نتيجة ارتفاع مخاطر دينها، ما سيزيد أيضًا من تسارع تضخّم الدين العام الأميركي.

أضرار الأزمة على الدول العربيّة حتّى هذه اللحظة

بمعزل عن كل هذه التوقّعات، من الأكيد أن الأزمة الراهنة ألحقت حتّى هذه اللحظة الكثير من الأضرار بسوق سندات الخزانة الأميركيّة، وبالمستثمرين في هذه السندات، ومنهم الدول العربيّة. فهذه الأزمة أدّت عمليًّا إلى اهتزاز الثقة بالدين السيادي الأميركي، الأمر الذي أدّى إلى فقدان سندات الخزانة الأميركيّة 13% من قيمتها اليوم، مقارنة ببداية العام الماضي. وبذلك، خسرت الدول العربيّة التي استثمرت في هذه السندات جزءًا من استثماراتها، نتيجة تراجع القيمة السوقيّة للسندات.

أمّا الصدمة الأكبر، فستحدث في حال توقّف الولايات المتحدة عن سداد السندات، سواء خلال هذه السنة إذا لم يتم رفع سقف الدين القانوني، أو خلال السنوات المقبلة إذا جرى رفع هذا السقف وتكرّرت المشكلة مجددًا. ففي هذه الحالة، من المتوقّع أن تخسر سندات الخزانة الأميركيّة الجزء الأكبر من قيمتها السوقيّة، بعد أن يتهافت المستثمرون على التخلّص من هذه السندات ومحاولة بيعها. وفي حال تعليق سداد السندات، فمن المتوقّع أن يجري تجميد دفع فوائدها أيضًا، ما سيكبّد الدول العربيّة التي تستثمر في هذه السندات خسائر أكبر.

حجم استثمارات الدول العربيّة في سندات الخزانة الأميركيّة

تشير الأرقام إلى أنّ هناك 11 دولة عربيّة تستثمر ما تقارب قيمته ال258.2 مليار دولار في سندات الخزانة الأميركيّة، الأمر الذي يعني أنّ الدول العربيّة تملك 3.4% من استثمارات جميع دول العالم في الدين العام الأميركي. مع الإشارة إلى أنّ الدول العربيّة كانت تتمسّك بهذه السندات كاحتياطات إستراتيجيّة، بوصفها استثمارات آمنة على المدى الطويل. وتوزّع هذه الاستثمارات على الدول العربيّة على الشكل التالي:

– المملكة العربيّة السعوديّة: تحل في المرتبة الأولى بين الدول العربيّة من حيث حجم استثماراتها في الدين العام الأميركي، بقيمة تناهز حدود ال116.7 مليار دولار. وبذلك، يمكن القول إن المملكة تمتلك وحدها 45% من قيمة سندات الخزانة الأميركيّة المملوكة من دول عربيّة.

– الكويت: تحل في المرتبة الثانية، وباستثمارات تقارب قيمتها ال50.6 مليار دولار، ما يعني امتلاكها 20% من استثمارات الدول العربيّة في سندات الخزانة الأميركيّة.

– الإمارات العربيّة المتحدة: تحل في المرتبة الثالثة، باستثمارات تقارب قيمتها ال46.3 مليار دولار، ما يمثّل 18% من استثمارات الدول العربيّة في سندات الخزانة الأميركيّة.

– العراق: تحل في المرتبة الرابعة، وباستثمارات تقارب قيمتها 24.1 مليار دولار.

– قطر: تحل في المرتبة الخامسة، باستثمارات تقارب قيمتها 5.7 مليار دولار.

– سلطنة عمان: تحل في المرتبة السادسة، باستثمارات تقارب قيمتها 5.3 مليار دولار.

– المغرب: تحل في المرتبة السابعة، باستثمارات تقارب قيمتها 3.7 مليار دولار.

أمّا سائر الاستثمارات العربيّة في سندات الخزانة الأميركيّة فتتوزّع على مصر (2.2 مليار دولار) والبحرين (1.5 مليار دولار) وموريتانيا (1.3 مليار دولار) والجزائر (680 مليون دولار).

هكذا، يبدو من الواضح أن دول مجلس التعاون الخليجي بالتحديد ستكون في مقدمة الدول التي ستتأثّر بأزمة سندات الخزنة الأميركيّة، خصوصًا كونها تملك مجتمعة ما قيمته 226.1 مليار دولار من هذه السندات. ولهذا السبب، من المتوقّع أن تسعى هذه الدول خلال المرحلة المقبلة إلى تنويع استثماراتها في سندات الدين السياديّة بشكل أكبر، بما يعني اتجاهها إلى شراء سندات دين صادرة عن حكومات أخرى، إلى جانب سندات الدين الأميركيّة. وبهذا الشكل، ستكون حكومات دول الخليج قد خففت من المخاطر التي يمكن أن تنتج عن الإفراط في الاعتماد على الاستثمار في الدين العام الأميركي.