وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

صناديق الضمان العربيّة: ثغرات ومخاطر كبيرة

اليوم، تُعتبر تونس ولبنان أبرز مثال لبلدان في المنطقة العربيّة تعاني أزمات صناديق الضمان الاجتماعي، وتتكرّر هذه الحالة بأشكال متفاوتة في معظم دول المنطقة العربيّة الأخرى.

صناديق الضمان العربيّة
جنينة، امرأة تونسية مسنة، تلقي نظرة من النافذة على الطقس البارد والغائم في يناير قبل مغادرة منزلها لجمع الزجاجات البلاستيكية. تونس، 08/01/2019. ت Chedly Ben Ibrahim / Hans Lucas / Hans Lucas via AFP

علي نور الدين

في العادة، لا بدّ أن تؤمّن صناديق الضمان الاجتماعي التقديمات التي تكفل العامل في الحالات الطارئة، كالمرض أو حوادث العمل أو الإعاقة أو العجز أو الأمومة أو في ضمان مرحلة الشيخوخة ، كما يفترض أن تغطّي تكاليف الطبابة والاستشفاء. ومع ذلك، مازال هذا الحق البديهي غير متوفّر للغالبيّة الساحقة من عمّال المنطقة العربيّة، إما بسبب المخاطر الماليّة والثغرات وأوجه القصور التي تحيط بعمل صناديق الضمان الاجتماعي، أو بسبب عدم شمول خدماتها عددًا كبيرًا من القوّة العاملة.

اليوم، تُعتبر تونس ولبنان أبرز مثال لبلدان في المنطقة العربيّة تعاني أزمات صناديق الضمان الاجتماعي ، وتتكرّر هذه الحالة بأشكال متفاوتة في معظم دول المنطقة العربيّة الأخرى.

خلال العقود الماضية، عملت الغالبيّة الساحقة من دول العالم، وخصوصًا في وسط وشرق أوروبا وآسيا الوسطى وأميركا اللاتينيّة، على إدخال إصلاحات كبيرة على أنظمة الضمان الاجتماعي لديها. كما طوّرت هذه الدول التشريعات وأنظمة العمل التي ترعى تقديمات صناديق الضمان الاجتماعي، بهدف توسيع مروحة خدمات هذه الصناديق، وشمولها أوسع شريحة من المقيمين.

لكن بحسب تقارير البنك الدولي، بدا الحال مختلفًا بشكل كبير في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، وتحديدًا في الدول العربيّة، إذ لم تشهد هذه الدول نفس الاهتمام بإصلاح أنظمة صناديق الضمان الاجتماعي لديها.

بل وعلى العكس تمامًا، شهدت بعض هذه الدول تراجعًا كبيرًا في شموليّة وفعاليّة وتغطية هذه الصناديق ، وصولًا إلى اقترابها من حالة التعثّر كما هو الوضع في لبنان اليوم. وفي حالة تونس مثلًا، تقلّصت القيمة الفعلية لتقديمات المتقاعدين إلى حد بعيد، بسبب التضخّم وانخفاض قيمة العملة المحليّة، كما تراكمت الخسائر في ميزانيّات الصناديق الضامنة.

في واقع الأمر، يمكن تفسير هذا الاتجاه بالبنية الديموغرافيّة الشابّة التي تتمتّع بها الدول العربيّة، وانخفاض نسبة المتقاعدين مقارنة بعدد السكّان الإجمالي، وهذا ما دفع معظم الحكومات العربيّة إلى التقليل من اهتمامها بدور صناديق الضمان الاجتماعي في الماضي. كما يمكن تفسير هذا الواقع كذلك باعتماد نسبة كبيرة من المقيمين على شبكات التضامن العائليّة والأهليّة غير الحكوميّة، وخصوصًا في البيئات الريفيّة والشعبيّة، بدل الرهان على التقديمات التي تؤمّنها الصناديق الحكوميّة الضامنة.

ومع ذلك، يمكن القول إنّ هذا الفهم لدور صناديق الضمان الاجتماعي انطوى على إشكاليّات كبيرة. فهو أولًا يقيّم أهميّة هذه الصناديق من زاوية دورها في تقديم التعويضات والرواتب التقاعديّة فقط، دون الأخذ بعين الاعتبار الأدوار الأخرى التي لا تقل أهميّة، ومنها تقديم التعويضات في حالات المرض والأمومة والحوادث والبطالة وغيرها.

كما تتجاهل هذه المقاربة أهميّة ضمان حق كل إنسان بالتقاعد الكريم واللائق، بمعزل عن نسبة شريحة المتقاعدين من إجمالي السكّان. وأخيرًا، تتغاضى هذه المقاربة عن مبدأ العدالة الاجتماعيّة الذي يفترض أن تحرص عليه الدولة، من خلال توفير شبكات الحماية الاجتماعيّة للجميع، بمعزل عن مدى توفّر شبكات التضامن الأهليّة والعائليّة في بيئات محددة دون سواها.

وفي جميع الحالات، من المعلوم أن معدّل الخصوبة في الأسرة الواحدة انخفض في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من 6.3 أطفال للأسرة عام 1980، إلى 2.7 أطفال للأسرة فقط عام 2020. وفي بعض الدول، انخفض هذا المعدّل إلى 2.1 طفل فقط كما هو الحال في لبنان وتونس.

لهذا السبب بالتحديد، وخلال العقود المقبلة، من المتوقّع أن تواجه دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إشكاليّة تأمين التعويضات والتغطية الصحيّة اللائقة لشريحة أوسع من المتقاعدين، مقارنة بحجم القوّة العاملة. كما سيساهم النزوح باتجاه المدن في تآكل شبكات الحماية الأهليّة والعائليّة، التي غالبًا ما كانت تحل مكان تقديمات الصناديق الضامنة في الريف.

كل هذه التطوّرات، تدفعنا اليوم إلى فتح ملف صناديق الضمان الاجتماعي في الدول العربيّة، لمراجعة الثغرات والمخاطر التي تتصل بعملها، والتي من شأنها فرض تحديات قد تحول دون تأمين شبكات الحماية الاجتماعيّة، التي يستحقها الجميع. مع الإشارة إلى أنّ هذه الصناديق تموّل في العادة بموجب اشتراكات، يسددها العامل و/أو رب العمل، وكنسبة من الراتب. كما تلحظ الدول في كثير من الأحيان مساهمات معيّنة من قبل الدول، لتعزيز ملاءة هذه الصناديق.

تونس: ثغرات في شمول وفعاليّة الضمان الاجتماعي

يوجد اليوم في تونس ثلاثة صناديق اجتماعيّة ضامنة، وهي الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، والصندوق الوطني للتأمين على المرض، والصندوق الوطني للضمان الاجتماعي.

المشكلة الأساسيّة، هي أنّ أكثر من 1.5 مليون عامل تونسي، أي نحو 42% من القوّة العاملة في تونس، يعملون في الاقتصاد غير المنظّم، أي في وظائف لا تشملها أي من التقديمات التي توفّرها الصناديق الثلاثة. وفي الوقت نفسه، لا تستفيد هذه الشريحة من العمّال من الضمانات أو الحمايات القانونيّة، التي يفترض أن تقدّمها الوظائف المستقرّة والثابتة. باختصار، المشكلة الأولى في تونس هي في شموليّة صناديق الضمان، التي تستثني جزءًا كبيرًا من العمّال.

المشكلة الثانية، هي تراكم العجوزات في ميزانيّات هذه الصناديق، جرّاء سوء الإدارة والتخطيط، وارتفاع التكاليف مقارنة بحجم الإيرادات والاشتراكات. وحاليًا، من المرتقب أن يبلغ العجز نحو 2.2 مليار دولار في الصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية، فيما تشير الأرقام إلى أنّ عجز صندوق الضمان الاجتماعي سيبلغ حدود ال1.76 مليار دولار بحلول العام 2030.

وخلال السنوات الماضية، ساهم تفشّي جائحة كورونا في زيادة الخسائر في ميزانيّات هذه الصناديق، بعدما أصدرت الحكومة في ذلك الوقت إعفاءات خاصّة، تسمح بموجبها للشركات بالتخلّف عن سداد اشتراكاتها. كما ساهم التباطؤ والركود الاقتصادي في تقليص إيرادات الصناديق من اشتراكات القطاع الخاص، بينما لم تنخفض نفقات الصناديق الثلاثة بنفس الوتيرة.

المشكلة الأهم، هي الترابط بين ميزانيّات الصناديق الثلاثة، والتي ستؤدّي إلى تعثّر نظام الضمان الاجتماعي بأسره، بمجرّد تعثّر أحد هذه الصناديق. فعلى سبيل المثال، يدين صندوق الضمان الاجتماعي والصندوق الوطني للتقاعد والحيطة الاجتماعية بنحو 2.15 مليار دولار، للصندوق الوطني للتأمين على المرض. ولهذا السبب، فإن تعثّر أي من صندوقي الضمان أو التقاعد سيتسبب تلقائيًا بتعثّر موازٍ في صندوق التأمين على المرض.

تجدر الإشارة إلى أنّ ارتفاع حجم العجوزات في هذه الصناديق، والترابط القائم بين ميزانيّاتها، يرفع مخاطر تعثّرها في المستقبل، ما يهدد بالإطاحة كليًّا بتعويضات العمّال المنتسبين إليها والتغطية الصحيّة التي يستفيدون منها. وهذا تحديدًا ما حذّر منه بجديّة الكثير من خبراء الاقتصاد التونسيين خلال الأعوام الماضية.

كما ساهم التضخّم خلال الأعوام الماضية بتخفيض قيمة تقديمات هذه الصناديق الشرائيّة، ما قلّص من فعاليّة شبكات الحماية الاجتماعيّة التي يفترض أن تقدمها هذه الصناديق. ومن المتوقّع أن تبلغ نسبة التضخّم في تونس حدود ال11% خلال العام 2023، بعدما بلغت نحو 8.6% خلال عام 2022، بحسب أرقام المصرف المركزي التونسي. في المقابل، لم تشهد تقديمات الصناديق الثلاثة زيادة موازية لحجم التضخّم هذا، فيما تمنع العجوزات الموجودة أساسًا أي زيادة وازنة من هذا النوع.

لبنان: الانهيار يطيح بضمانات العمّال

في حالة لبنان، يعمل نحو 70% من العمّال المقيمين في وظائف القطاع غير النظامي، ما يحرمهم تلقائيًا من أي تغطية صحيّة أو تعويض تقاعدي في سن الشيخوخة.

أمّا سائر العمّال، فينتسب معظمهم إلى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي، الذي يختص بتقديم تعويضات المرض والأمومة والشيخوخة، من خلال ثلاثة صناديق منفصلة. لكنّ مشكلة هذا الصندوق تفاقمت مؤخّرًا، بعد أن تراجعت نسبة التغطية التي يؤمّنها الصندوق إلى 2.5% فقط من الفاتورة الاستشفائيّة. وجرى هذا الانخفاض نتيجة انهيار سعر صرف الليرة اللبنانيّة، وارتباط قيمة التقديمات المرضيّة بسعر صرف العملة المحليّة. مع الإشارة إلى أنّ نسبة هذه التغطية كانت تبلغ قبل العام 2019 حدود ال90%، قبل حصول الأزمة النقديّة في لبنان. أمّا تعويضات نهاية الخدمة، فخسرت أكثر من 97% من قيمتها، بفعل انهيار سعر صرف الليرة أيضًا.

ويواجه الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في لبنان مجموعة من المشاكل البنيويّة الأخرى، وأبرزها ضعف أطر الرقابة الحكوميّة، وسهولة تهرّب أرباب العمل من موجب تسجيل الأجراء والعمّال في الصندوق، لتفادي دفع الاشتراكات الشهريّة. كما يعاني لبنان من ضعف الحركة النقابيّة وهشاشتها، مقارنةً بغالبيّة الدول العربيّة الأخرى ما يحرم القوّة العاملة من القدرة التفاوضيّة في وجه أرباب العمل والحكومات.

وأخيرًا، تتركّز الغالبيّة الساحقة من احتياطات الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي في استثمارات مرتبطة بدين الدّولة السيادي ، أو القطاع المصرفي المحلّي. وبينما تمتنع الدولة عن سداد ديونها منذ أكثر من ثلاث سنوات، وفي ظل التعثّر الذي أصاب النظام المصرفي اللبناني، لم يتبيّن بعد مصير كل هذه الاحتياطات، كما لم يُعرف حجم الخسارة التي ستلحق بالصندوق جرّاء هذه الاستثمارات.

نموذج يتكرّر في العديد من الدول العربيّة

ما جرى في تونس ولبنان، تكرّر في العديد من الدول العربيّة التي تعاني من ضغوط نقديّة أو ماليّة، وإن بأشكال وتأثيرات متفاوتة. ففي الجزائر، تعاني الصناديق الضامنة للإيفاء بالتزاماتها للمضمونين، فيما يتحمّل السوريون تداعيات الحرب والأزمة الماليّة على كل أشكال الحماية الاجتماعيّة التي كانت متوفّرة سابقًا. أما في الأردن، فتقتصر نسبة العمّال الذين يستفيدون من تغطية صحيّة على 27.8% فقط، فيما لن يستفيد أكثر من 76% من العمّال من أي تعويضات أو رواتب تقاعديّة في المستبقل.

أمام كل هذه التحديات، من المفترض أن تضع جميع الدول العربيّة الخطط العاجلة المطلوبة، لإنقاذ مؤسساتها وصناديقها المختصّة بتقديمات الضمان الاجتماعي للعمال. وعلى هذه الخطط أن ترصد ما يكفي من موارد ماليّة، لمعالجة الخسائر والعجوزات التي أصابت هذه الصناديق في السنوات الماضية. فاتساع نسبة المتقاعدين من إجمالي المقيمين، سيعني تحميل هذه الصناديق أعباء إضافيّة لاحقًا، ما يفرض التحرّك العاجل لمواجهة أزماتها. كما يُفترض أن تعمل الحكومات على أطر الرقابة والتفتيش، الكفيلة بمكافحة تهرّب أرباب العمل من تسجيل العمّال في هذه الصناديق، وضمان تمتّع العمّال بعقود العمل القانونيّة التي تحميهم.