نشر موقع “The Conversation” مقالة سلطت الضوء على ما قد تحمله العاصمة الجديدة التي تقوم مصر ببنائها من الصفر من تداعياتٍ عمرانية واجتماعية. ويقوم صاحبا المقالة نونو بينتو، المحاضر بجامعة مانشستر، وآية بدوي، طالبة الدكتوراه في الجامعة ذاتها، بمقارنة نموذج العاصمة الجديدة المصرية التي ستستضيف مقر البرلمان بحلول صيف عام ٢٠١٩ مع العاصمة البرازيلية برازيليا التي أخفقت في تحقيق أحلام مصممها بسبب البعد عن تطبيق سياسات جادة تهدف إلى توفير فرص عادلة بين الطبقات الاجتماعية المختلفة.
وتزعم الحكومة المصرية أن العاصمة الجديدة ستقوم بحل ما تعاني منه القاهرة الكبرى من مشكلات الاكتظاظ والازدحام الشديدة، خاصةً وأنه يعيش في العاصمة المصرية الحالية حوالي ٢٤ مليون شخص.
وتنضم مصر أكثر من 30 دولة أو ولاية إقليمية قامت بنقل مراكز سلطاتها إلى مدنٍ جديدة تم تصميمها من الصفر، حيث تتضمن قائمة أشهر هذه الدول كلاً من البرازيل، وأستراليا، وكازاخستان، ونيجيريا. وستتضمن المدينة الجديدة، التي يجري بناؤها في موقعٍ يبعد 45 كيلومتراً إلى شرق القاهرة الكبرى، قصراً رئاسياً جديداً، وبرلماناً، ومصرفاً مركزياً، ومنطقة مخصصة للأعمال، ومطاراً، وحديقة ألعاب ضخمة، ناهيك عن توفير الأبنية السكنية الكفيلة باستيعاب 6.5 مليون شخص.
وعلى الرغم من أن هذه العواصم السياسية الجديدة قد تكون رمزاً للهوية الوطنية وأداة من أدوات التنمية، فإن نجاحات هذه المشروعات الضخمة وإخفاقاتها كانت دائماً محل خلاف كبير. ولعل أشهر مثال على ذلك هو العاصمة البرازيلية برازيليا التي تم تصميمها في خمسينيات القرن الماضي لتجسّد قيم التقدم والمساواة البرازيلية. إلا أن العاصمة البرازيلية باتت في يومنا هذا مدينة يشوهها التفاوت الحضري وانعدام المساواة.
برازيليا: مدينة منقسمة
تنقسم المنطقة الحضرية من برازيليا إلى منطقتين مختلفتين هما منطقة “النطاق الرئيسي” – وهو التصميم الحضري المعروف للمعماري البرازيلي لوتشيو كوستا – ومنطقة الأحياء المتاخمة للمدينة، التي حلت مكان التجمعات العشوائية المتعدّدة التي بناها عمال البناء الذين عملوا في النطاق الرئيسي.
ويعيش ما يقل عن 10% من سكان برازيليا ضمن نطاق المدينة الرئيسي الذي تم تصميمه بعناية ليضم الحكومة الفيدرالية، وموظفيها المدنيين، ونخبها الفكرية. وكان كوستا يحلم بإنشاء مدينة عادلة تعيش فيها مجموعات اقتصادية – اجتماعية مختلفة من المجتمع البرازيلي وتحظى فيها بفرصٍ عادلة للاستفادة من المدينة.
إلا أن الخطة فشلت في تحقيق الرؤية التي وضعها كوستا، حيث تم إجبار العائلات الأكثر فقراً على الخروج من النطاق الرئيسي مبكراً بحلول أواخر الخمسينيات. وشرعت الحكومة في تنفيذ خطط الترحيل، معلّلة قرارها بالقضايا البيئية والصحية وحتى الإنشائية التي تضع مبرراتٍ فنّية لنقل منطقة الأحياء المتاخمة بعيداً عن النطاق الرئيسي، دون وأن تظهر اهتماماً يُذكَر بالمتضررين.
وعلى سبيل المثال، فقد قام سكان منطقة “أماوري” ببناء بيوتهم في الموقع الذي كان من المخطط إنشاء بحيرة بارانوا الصناعية فيه – وتجدر الإشارة إلى أن هؤلاء السكان كانوا على دراية بأنهم سيضطرون في يومٍ من الأيام للانتقال من هذه المنازل. وفقد قامت الحكومة بإجبارهم هؤلاء على إخلاء منازلهم بعد تحذيرهم قبل عدّة أيام من البدء بعملية ملء البحيرة بالمياه، وذلك عوضاً عن نقلهم بطريقة عادلة ومنظمة. وما تزال أواني الطبخ وغيرها من الأدوات المنزلية الموجودة في قاع البحيرة شاهدة حتى يومنا هذا على هرع السكان للهروب من الموقع المذكور.
ووجدت العائلات ذات الدخل المحدود صعوبةً في العثور على العمل أو في المشاركة على مستوى الحياة المدنية بعد نقلهم إلى الأحياء المتاخمة الأخرى المماثلة لمنطقة “سيلانديا”، والتي تبعد أكثر من ساعة ونصف بالمواصلات العامة عن النطاق الرئيسي لمدينة برازيليا. وعلى الرغم من تقدّم كوستا باقتراحٍ في عام ١٩٨٧ لمراجعة منطقة النطاق الرئيسي من المدينة وإنشاء أحياء سكانية معقولة التكلفة، فإن هذا الاقتراح لم يبصر النور على الإطلاق.
وكان مما عزز وما زال يعزز من حالة انعدام المساواة في المدينة تعذر الوصول إلى البنية التحتية العامة الأساسية والفصل المكاني الذي فرضته في المقام الأول برامج إعادة الإسكان، ومن ثم مشاريع الإسكان الخاصة وأسواق العمل.
التاريخ يكرّر نفسه
تهدف العاصمة المصرية الجديدة التي لا تحمل حتى هذه اللحظة اسماً إلى توفير مجموعة من الاستخدامات المتعدّدة للأراضي. وتُركز المرحلة الأولى على المنطقة الحكومية والمناطق السكنية التي تتمتع بوجود مجموعة كبيرة من المرافق العامة والمناطق الخضراء والبنية التحتية للمواصلات. وعلى الرغم من وجود خططٍ ترمي إلى توفير المباني السكنية معقولة التكلفة، فإن متوسط الأسعار يتجاوز متوسط دخل موظفي القطاع العام.
وسيتسبب الطابع الجذاب لما تشهده العاصمة الجديدة من عمليات تطويرٍ عقارية في جعل أسعار العقارات السكنية المتاخمة للمدينة الجديدة غير معقولة التكلفة بشكلٍ متزايد. وعلى الرغم من تطبيق الحكومة لسياسة التحكّم بسعر الأرض كل ستة أشهر، إلا أن أسعار الأراضي ما زالت في حالة ارتفاع. ولا تعتبر هذه المنهجية طريقة فاعلة لضمان توفير السكن في العاصمة الجديدة بأسعارٍ معقولة وفي متناول المواطنين محدودي الدخل في مصر. كما أن هناك خطراً حقيقياً من تكرار هذه المدينة الجديدة للتوجه التاريخي لعملية الفصل المكاني، وهو ما يمكن ملاحظته في القاهرة اليوم.
ونتيجة لذلك، ستقوم العائلات محدودة ومتوسطة الدخل بالبحث عن السكن على أطراف العاصمة الجديدة، ما سيؤدي إلى ظهور تجمعات سكنية سيئة التخطيط وضعيفة الارتباط. وبالطبع، فإن هذا الأمر لن يؤدي إلا إلى تعزيز حالة التفاوت الحضري.
تصميم مختلف
يرى بينتو وبدوي أن الحماس لإنشاء عاصمة جديدة نظيفة وذكية ومستدامة لا ينبغي أن ينسينا الحاجة إلى وجود مجتمع متوازن ومتنوع وعادل.
ويقترح صاحبا المقالة على المخططين والسلطات المختصة أخذ العبرة من مدينة برازيليا، فمن الواضح أنه كان حرياً بالسياسات التي سعت إلى توفير المباني السكنية معقولة التكلفة والوظائف والفرص ضمن العاصمة الجديدة أن تتجنب نقل الفقراء إلى المناطق التابعة الهامشية.
ويختم بينتو وبدوي مقالهما بالتالي: “إذا ما قُدِّر للعاصمة المصرية النجاح، فإنه يتوجب عليها الالتزام بمبادئ المدن الشاملة التي تسفح المجال لجميع المواطنين بالتجمّع فيها والتشارك بها وبفرصها. وكان هذا الجانب أهم مبادئ التصميم التي اعتمدت عليها كوستا. إلا أن تصميم المهندس المعماري البرازيلي لم يصمد في برازيليا الجميلة التي قام بتصميمها بسبب عدم وجود السياسات الجادة والداعمة للسكان من ذوي الدخل المحدود.