سرعان ما كشفت التحقيقات السويسريّة أن شركة فوري لم تكن سوى شركة وهميّة، مسجّلة في جزر العذارى البريطانيّة، لإخفاء هويّة مالكها الحقيقي، رجا سلامة.
علي نور الدين
خلال شهر يناير/كانون الثاني 2023، وصلت إلى العاصمة بيروت على دفعات ثلاث وفود قضائيّة أجنبيّة، من الأجهزة القضائيّة في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ.
ووفقًا لطلبات التعاون القضائي التي أرسلتها هذه الدول إلى لبنان، استهدفت هذه الوفود استكمال التحقيقات في شبهات غسيل الأموال والاختلاس والإثراء غير المشروع، التي تدور حول حاكم المصرف المركزي اللبناني رياض سلامة. أمّا جدول أعمال الزيارة، فتركّز على مقابلة مجموعة من الشهود الذين امتلكوا بحكم مناصبهم معلومات أو معطيات حول هذه القضيّة، للتمكن من جمع أدلّة إضافيّة في هذا الملف.
تفاصيل ملف شركة فوري
يتركّز الجزء الأكبر من هذه التحقيقات حول ملف شركة فوري الجنائي. ويشتبه المحققون الأوروبيون باستخدام هذه الشركة من قبل حاكم المصرف المركزي وشقيقه في عملية اختلاس المال العام اللبناني، ومن ثم تبييض الأموال المختلسة عبر الأنظمة المصرفيّة والأسواق العقاريّة الأوروبيّة.
تجدر الإشارة إلى أنّ حجم الأموال المرتبطة بهذا الملف يقارب حدود ال330 مليون دولار أميركي، جرى تحويلها على مراحل من المصرف المركزي اللبناني إلى سويسرا. وبحسب التحقيقات، جرى توزيع الأموال لاحقًا انطلاقًا من سويسرا، على شبكة معقّدة من الحسابات المصرفيّة والشركات المملوكة من شركاء رياض سلامة، بهدف إخفاء مصدر الأموال الأساسي.
بدأت القضيّة في نيسان 2001، حين وقّع حاكم مصرف لبنان رياض سلامة عقد وساطة ماليّة، يمنح شركة غامضة وغير معروفة تُدعى “فوري” حق العمل كوكيل عن المصرف المركزي. وبحسب هذه الوكالة، كان من المفترض أن تعمل فوري على بيع سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع، من المصرف المركزي لمصلحة المصارف التجاريّة.
وبموجب العقد، سمح الحاكم للشركة المزعومة بتحصيل عمولة قدرها 0.375%، من إجمالي قيمة سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع التي اشترتها المصارف من المصرف المركزي، بين عامي 2002 و2015.
لم يُثر العقد أية شبهات في تلك المرحلة، إلى أن تمكّنت الصحافة الاستقصائيّة، وعلى مراحل عديدة بين 2015 و2019، من كشف تفاصيل حسابات هذه الشركة في سويسرا، والتي بيّنت أنّ صاحب الشركة الفعلي ليس سوى شقيق حاكم مصرف لبنان رجا سلامة.
بعد حصول الانهيار المالي في لبنان عام 2019، قدّمت منظمات حقوقيّة أوروبيّة عدّة إخبارات لدى محاكم سويسرا، لطلب التحقيق في ملف هذه الشركة وطبيعة عملها، وحجم التحويلات الضخم الذي تلقته في حساباتها في أوروبا. وبالفعل، سرعان ما تلقى لبنان في نوفمبر/تشرين الثاني 2020 أوّل طلب تعاون قضائي من قبل القضاء السويسري، الذي بدأ بالتحقيق في هذا الملف منذ ذلك الوقت. وطلبت سويسرا من لبنان في تلك المراسلة مجموعة من المعلومات، التي تتصل بحسابات حاكم مصرف لبنان وشقيقه، وعمليّاتهما الماليّة.
وسرعان ما كشفت التحقيقات السويسريّة أن شركة فوري لم تكن سوى شركة وهميّة، مسجّلة في جزر العذارى البريطانيّة، لإخفاء هويّة مالكها الحقيقي، رجا سلامة. كما تبيّن أن الشركة تأسست قبل أشهر فقط من توقيع عقدها مع المصرف المركزي. من هنا، ومع غياب أي مبرّر لتعيين هذه الشركة الجديدة كوكيل عن مصرف لبنان، دونًا عن غيرها من الشركات، بدأت تتكوّن لدى المحققين شبهات حول إمكانيّة إساءة الحاكم استعمال النفوذ.
ثم تبيّن لاحقًا أن المصارف التجاريّة التي قامت بشراء هذه السندات وشهادات الإيداع بين 2002 و2015، لم تسمع أبدًا بشركة فوري ولم تتعامل معها، ما يعني أن الشركة المشبوهة لم تقدّم فعلًا أية خدمة وساطة للمصرف المركزي. كما تبيّن أن شركة فوري لم تملك أساسًا رخصة مزاولة أعمال الوساطة الماليّة، ولم تقم بأية عمليّات من خلال مركز عملها، الذي ظلّ خاليًا من أي موظفين على مرّ سنوات عمل الشركة. ولم تكشف عقود شراء سندات اليوروبوند وشهادات الإيداع، بين المصرف المركزي والمصارف، عن أي دور لشركة فوري.
بصورة أوضح، كانت شركة فوري مجرّد شركة وهميّة، تم استعمالها عن غير وجه حق، لتحصيل مئات ملايين الدولارات كعمولات من مصرف لبنان، مقابل خدمات لم يتم تقديمها يومًا، ووساطة مزعومة لم تقم بها فعلًا. وعلى هذا الأساس، بدأت تتكوّن شبهات الاختلاس والإثراء غير المشروع لدى المحاكم السويسريّة، وهذا ما يظهر بوضوح في المعطيات التي أرسلتها النيابة العامّة الاتحاديّة السويسريّة إلى القضاء اللبناني.
وفي واقع الأمر، لم يكن المصرف المركزي بحاجة أساسًا إلى وساطة من هذا النوع في تعاملاته مع المصارف التجاريّة، التي كانت تشتري هذه المنتجات الماليّة منذ التسعينات بشكل مباشر من المصرف المركزي. وبهذا المعنى، فالعقد بين شركة فوري والمصرف المركزي لم يكن سوى غطاء لنقل 330 مليون دولار من أموال المصرف إلى حسابات الشركة في سويسرا.
سرعان ما بدأت السلطات القضائيّة، ومنذ العام 2021، بتتبع عمليّات تبييض الأموال التي جرت داخل أوروبا، عبر الأنظمة الماليّة في فرنسا وألمانيا ولوكسمبورغ وليختنشتاين وبلجيكا، وهذا ما أدّى إلى فتح ملفّات جنائيّة في تلك الدول. كما بدأت جميع هذه الدول بتنسيق تحقيقات هادفة الى تتبّع مصير هذه الأموال، من خلال وكالة التعاون القضائي الجنائي التابعة للاتحاد الأوروبي (يوروغاست). وفي شهر مارس/آذار 2022، أفضت كل هذه التحقيقات إلى تجميد ما قيمته 120 مليون دولار، من أموال وموجودات حاكم مصرف لبنان وشركائه، التي يشتبه باتصالها بعمليّات تبييض الأموال.
لبنان يضطر للتعاون مع التحقيقات الأوروبيّة
حتّى اللحظة، مازال حاكم مصرف لبنان في منصبه، بفعل الحماية المقدمة له من قبل الغالبيّة الساحقة من أقطاب النظام السياسي اللبناني. وللسبب نفسه، لم تبادر النيابة العامّة الاستئنافيّة في بيروت حتّى اليوم إلى الادعاء على حاكم مصرف لبنان، على خلفيّة ملف شركة فوري، بالرغم من وجود تحقيق جنائي لبناني متكامل بهذا الشأن، أنجزه أحد قضاة التحقيق في لبنان. مع الإشارة إلى أنّ عمليّة الادعاء على سلامة جرت عرقلتها في بيروت، بأساليب مشابهة لعمليّة عرقلة التحقيقات بانفجار مرفأ بيروت، عبر استغلال بعض الإجراءات البيروقراطيّة لتعليق عمل القضاة لفترات طويلة.
لكن في الوقت عينه، اضطرّ لبنان مؤخّرًا للتعاون مع التحقيقات الأوروبيّة، من خلال تقديم المعلومات المطلوبة للمحققين الأوروبيين وجدولة مواعيد لمقابلة الشهود في بيروت. فلبنان صادق منذ العام 2009 على اتفاقيّة الأمم المتحدة لمكافحة الفساد، التي تسمو –كمعاهدة دوليّة- على القوانين المحليّة في صلاحيّتها، بحسب أحكام القانون اللبناني. وبموجب هذه الاتفاقيّة، من المفترض أن يقدّم لبنان أقصى قدر ممكن من المساعدة القانونيّة، بما يخص طلبات التعاون القضائي التي ترده من الدول الأوروبيّة.
من الواضح، بحسب تحقيقات السلطات القضائيّة الأوروبيّة، أنّ الأموال العامّة المشتبه باختلاسها هي أموال لبنانيّة، وهذا ما يفترض أن يضع هذا الملف ضمن صلاحيّة القضاء اللبناني. لكن في الوقت عينه، وبما أنّ عمليّة تبييض الأموال –لإخفاء مصدرها- جرت من خلال المصارف والأسواق العقاريّة الأوروبيّة، بات التحقيق في هذه الشبهات يندرج أيضًا ضمن صلاحيّة محاكم الدول الأوروبيّة، التي جرت من خلالها عمليّات تبييض الأموال. مع الإشارة إلى أنّ تبييض الأموال يُعد جرمًا قائمًا بحد ذاته، بمعزل عن هويّة الأموال المختلسة أو مصدرها.
لكل هذه الأسباب، تجاوب النائب العام التمييزي اللبناني -أعلى سلطة ادعاء عام في لبنان- مع طلبات المحققين الأوروبيين، فوافق على استضافتهم وسمح بإطلاعهم على المعلومات التي طلبوها من الجانب اللبناني. وبحسب إجراءات التعاون القضائي التي يعتمدها لبنان، نظم القضاء اللبناني جلسات استماع للشهود المعنيين بالقضيّة، بحضور المحققين الأوروبيين، وبإدارة قضاة لبنانيين قاموا بطرح الأسئلة على الشهود. وبعد انتهاء جولة الوفد القضائي الأوروبي، من المفترض أن تستكمل النيابات العامّة الأوروبيّة تحقيقاتها، تمهيدًا لمرحلة الادعاء على رياض سلامة رسميًا في هذا الملف.
مع تقدّم التحقيقات الأوروبيّة، تبقى الإشكاليّة الأساسيّة عدم تقدّم الملف القضائي في لبنان، ما أدّى إلى عدم سعي الدولة اللبنانيّة لاسترداد الأموال العامّة اللبنانيّة المختلسة، الموجودة في أوروبا. ومن المعلوم أن وزارة الماليّة اللبنانيّة تتحمّل جزءًا من مسؤوليّة هذه الإشكاليّة، بعدما تقاعست عمدًا عن تعيين محامي دولة، لتحصيل حقوق لبنان ومتابعة التحقيقات في لبنان والدول الأوروبيّة.
وهذا التقاعس يمكن أن يؤدّي إلى مصادرة الدول الأوروبيّة الأموال التي تم تبييضها، والتي فُرضت عليها حجوزات مؤخّرًا، بدل أن تتم إعادة هذه الأموال إلى لبنان، بوصفها أموالًا عامّة مختلسة. وهذه الخسارة، ستكون ثمن محاولة الطبقة السياسيّة اللبنانيّة الإبقاء على الحماية التي تمنحها حاليًّا لحاكم المصرف المركزي.