وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الفئات الهشّة تدفع ثمن الكوارث في شمال أفريقيا

لقد أثرت الكوارث الطبيعية في شمال أفريقيا في الغالب على الفئات الهشّة والنساء، ومن الملح للغاية معالجة آثارها الاجتماعية والاقتصادية.

الفئات الهشّة تدفع ثمن
رجل يركب حماره بجوار الأنقاض في قرية إيمي نتالا التي ضربها الزلزال، في وسط المغرب. فاضل سينا/ أ ف ب

علي نور الدين

بعد يومين من حصول الزلزال المدمّر في منطقة جبال الأطلس المغربية في أيلول/سبتمبر 2023، جاءت فيضانات مدينة درنة في ليبيا، حيث أدّت السيول وسوء الإدارة العامّة إلى انهيار سدّين وإغراق أجزاء واسعة من المدينة. وبينما اقترب عدد قتلى الزلزال ممّا يقارب ثلاثة آلاف شخص، بحسب أرقام وزارة الصحّة المغربيّة، تجاوز عدد القتلى والمفقودين في الفيضانات قرابة ال20 ألف شخص، وفقًا لتقديرات السلطات الليبيّة.

وبذلك، خسرت مدينة درنة 8% من إجمالي سكّانها، فيما أصاب الدمار الشامل ربع أحياء المدينة، نتيجة تلك الكارثة الإنسانيّة.

لم تقتصر أوجه الشبه بين الكارثتين على عدد الضحايا الكبير، أو حجم الدمار الضخم الذي لحق بالمنشآت السكنيّة والبنية التحتيّة. بل تشابهت الكارثتان من حيث الآثار الاقتصاديّة والاجتماعيّة التي تركّزت على الفئات الأضعف والأكثر هشاشة، وخصوصًا الأحياء والمناطق الفقيرة، والأقليّات الإثنيّة، بالإضافة إلى النساء والأطفال والعمّال الأجانب.

وبالنتيجة، من المتوقّع أن تترك هذه الأحداث أثرها على معيشة هذه الفئات الهشّة على المدى البعيد، حتّى بالنسبة للأفراد الذين نجوا بحياتهم خلال الفيضانات أو الزلزال.

آثار الزلزال على فقراء المغرب

في المغرب، تركّز جزء كبير من أضرار الزلزال في مدينة مرّاكش، التي تتسم ضواحيها بمعدلات مرتفعة من الفقر والحرمان. وبالنسبة لتلك الأحياء، فقد تمثّلت المشكلة الأساسيّة في هشاشة الأبنية والمنشآت السكنيّة القديمة، التي تم تشييدها بالطوب الذي لا يقوى على مقاومة الزلازل. وهذا ما يفسّر حجم الدمار الكبير الذي لحق بهذه المدينة، وخصوصًا في أزقّتها التراثيّة والقديمة.

أمّا المشكلة الأكبر، فتمثّلت في ضيق الشوارع في الأحياء التاريخيّة، وهذا ما أخّر عمليّة استقدام آليّات وجرّافات الإنقاذ الكبيرة،القادرة على انتشال الأحياء من تحت الأنقاض.

وبمعزل عن الخسائر البشريّة والماديّة المباشرة التي لحقت بهذه الأحياء القديمة، كان من الواضح أن الفئات المهمّشة في تلك المدينة ستعاني من تداعيات اقتصاديّة في المستقبل، جرّاء الزلزال. فاقتصاد هذه المدينة يعتمد بشكل كبير على الحركة السياحيّة، التي تستقطبها في العادة زيارة الأبنية التاريخيّة والمعالم الأثرية والمناطق ذات الطابع التراثي.

ولذلك، سيشكّل الزلزال أزمة كبيرة على مستوى النشاط الاقتصادي في المدينة، وتوفّر فرص العمل للفئات المهمّشة فيها، بفعل الأضرار الكبيرة التي أصابت أحياءها التراثيّة وآثارها التاريخيّة.

تجدرالإشارة هنا إلى أنّ النشاط السياحي في المغرب، الذي يعتمد جزء كبير منه على مدينة مرّاكش ومحيطها، يساهم عادة بتحقيق أكثر من 10% من حجم الناتج المحلّي في البلاد. وكانت المغرب قد تفاءلت في شهر أيّار/مايو 2023 بارتفاع عدد زوّار البلاد الأجانب إلى مستويات سبقت تفشّي جائحة كورونا،ما مكّن المناطق الجبليّة النائية من استعادة قدرتها على خلق فرص العمل لأبنائها.

وهكذا، جاء الزلزال ليضرب كل هذه المكتسبات الاقتصاديّة، وليفرض تحديات كبيرة على مستوى مداخيل المجتمعات المغاربيّة الفقيرة، التي تعتمد على إيرادات النشاط السياحي.

أمّا على مستوى الخسائر الماديّة، فتقدّر هيئة المسح الجيولوجي الأميركيّة أن تصل خسائر الزلزال في المغرب إلى حدود ال10 مليارات دولار، بما فيها الخسائر التي نتجت عن تدمير القرى والأحياء والمجمعات السكنيّة. وفي الوقت الراهن، تكمن مشكلة المغرب الأساسيّة في تراكم جزء كبير من الأضرار في الأرياف المحرومة، التي يفتقر أبناؤها إلى الإمكانات الماديّة التي تسمح بإعادة بناء المنازل بسرعة.

وفي الوقت عينه، اضطرّ المغرب بعد حصول الزلزال إلى تخصيص ميزانيّة قدرها 12 مليار دولار، للتعامل مع أضرار الزلزال على مستوى البنية التحتيّة والنشاط الاقتصادي في الأقاليم المتضرّرة، على مدى الأعوام الخمسة المقبلة. ومن المرتقب أن يؤدّي هذا العبء المالي الكبير إلى الحد من قدرة البلاد على توفير برامج المساعدات الاجتماعيّة المباشرة، التي كان من المقرّر تقديمها إلى الفئات الفقيرة، كبديل عن برامج دعم أسعار السلع الأساسيّة.

درنة: فقر ومساكن متواضعة وعمّال أجانب

على هذا النحو، دفعت أحياء درنة المتواضعة خلال الفيضانات الثّمن نتيجة عدم ملاءمة التنظيم والتخطيط المدني الحال، إضافة إلى هشاشة البناء، وغياب أجهزة الإنذار والرصد الحديثة، التي كان يفترض أن تحذّر المقيمين من خطر السيول الآتية.

وإلى جانب كل ذلك، ساهم تدهور أوضاع البنية التحتيّة، ومنها السدود التي كان يفترض أن تستوعب السيول، في حدوث الكارثة بهذا الشكل. كما أدّى الاكتظاظ وقلّة المساحات الخضراء في محيط الأحياء السكنيّة إلى تقليل قدرة التربة على تخزين مياه الأمطار، وإضعاف قدرة الأرض على تثبيت التربة ومنع انجرافها.

إلا أنّ الإحصاءات المتوفّرة تشير إلى أنّ فئة العمّال الأجانب تحمّلت نتائج الفيضانات بشكل مضاعف، بسبب ظروفها المعيشيّة السيّئة واضطرارها إلى الإقامة في مساكن متهالكة. وتجدر الإشارة إلى أنّ جزءًا كبيرًا من فئة العمّال الأجانب كان يعمل في المدينة بشكل مؤقّت، وفي مهن ذات أجور منخفضة، استعدادًا للهجرة غير الشرعيّة باتجاه أوروبا. وبحسب أرقام السلطات الليبيّة، تبلغ نسبة غير الليبيين من مفقودي وقتلى الفيضانات نحو 10%، من بينهم أكثر من 250 مصريًا، و276 سودانيًا، و110 سوريين.

من الناحية العمليّة، لم تقتصر أزمة العمّال الأجانب على ارتفاع نسبة الضحايا في صفوفهم. فبعد حصول الفيضانات، عانت هذه الفئة من فقدانها العلاقات العائليّة المحليّة داخل ليبيا، التي كان يمكن أن تسهّل إيجاد مأوى بديل ومؤقّت. كما عانى العمّال الأجانب داخل درنة من عدم قدرتهم على الاتصال بأقاربهم في بلدانهم الأم، وعدم توفّر سبل النقل الآمن للعودة إلى بلدانهم. وفي جميع الحالات، كانت المشكلة الأهم فقدان هذه الفئة وظائفها ومداخيلها في مدينة درنة، بعد اضطرار هؤلاء العمّال إلى النزوح إلى ليبيا بحثًا عن فرص العمل.

الأقليّات الإثنيّة والنساء

يعيش المواطنون الأمازيغ في معظم القرى النائية في منطقة جبال الأطلس، فيما يرى أبناء هذه الأقليّة أنّهم وقعوا تاريخيًا ضحيّة التهميش الاقتصادي والاجتماعي في المغرب ذات الأغلبيّة العربيّة. وعند حصول الزلزال، ساهمت عزلة القرى الأمازيغيّة، وضعف البنية التحتيّة فيها، في تأخّر وصول المساعدات الحكوميّة، وهذا ما فاقم من شعور المواطنين الأمازيغ باللامساواة. وعلى أي حال، يخشى كثيرون اليوم من أن يؤدّي الزلزال إلى تفكك النسيج الاجتماعي الأمازيغي في قرى جبال الأطلس، بفعل نزوح أبناء هذه القرى، واضطرارهم إلى مغادرة مناطقهم بعد دمار منازلهم.

على المقلب الآخر، كان من الواضح أن التداعيات الناتجة عن الزلزال والفيضانات كان لها وقع أشد على النساء، وخصوصًا في الحالات التي فقدت فيها النساء أزواجهنّ، حيث كان على النساء تحمّل مسؤوليّة توفير الحماية والمدخول لعائلاتهن.

وفي حالة ليبيا بالذات، كان لغياب دور الدولة أثر كبير، في حرمان النساء من شبكات الحماية الاجتماعيّة الكفيلة بالتعويض عن خسارة الزوج. ولهذا السبب، يعتبر البعض أن كارثتي درنة والمغرب أدّتا إلى تحوّلات في تأدية أدوار النساء، نتيجة اضطرارهن إلى تحمّل مسؤوليّات جسيمة ومتنوّعة.

بالنتيجة، ستبقى ذكرى الكارثتين ماثلة في الأذهان في شمال أفريقيا لفترة زمنيّة طويلة، بفعل الخسائر المجتمعيّة التي تحمّلتها درنة ومرّاكش والريف المغربي في أيلول/سبتمبر 2023.

لكنّ الأهم اليوم، هو مبادرة المنظمات الدوليّة والمؤسسات الحكوميّة إلى التعامل مع النتائج الاقتصاديّة والاجتماعيّة لهاتين لكارثتين، قبل أن تؤدّي هذه النتائج إلى تدهور كبير في ظروف المقيمين المعيشيّة في المستقبل. وفي حالة ليبيا، ستمثّل هذه المهمّة تحديًا كبيرًا بالنسبة لمؤسسات الدولة، نتيجة الانقسام السياسي الحاصل، وما نتج عنه من شلل في الإدارات العامّة.