وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

طارق بيطار: قاضي في وجه نظام سياسي

طارق بيطار
صورة للقاضي طارق بيطار.

علي نور الدين

خلال فترة قصيرة جدّاً، لمع اسم القاضي طارق بيطار ليتصدّر المشهد السياسي في لبنان، بعد أن أثار حفيظة الطبقة السياسيّة اللبنانيّة، التي هالها أن يجرؤ قاضي تحقيق على طلب استدعاء رئيس حكومة سابق ومجموعة من النواب والوزراء الحاليين والسابقين، بالإضافة إلى عدد من قادة الأجهزة الأمنية وضباطها. بيطار، الذي تولّى منذ 19 فبراير 2021 مهمّة التحقيق في انفجار مرفأ بيروت، بات اليوم في مرمى الاستهداف، من قبل الغالبيّة الساحقة من القوى السياسيّة النافذة على الساحة اللبنانيّة، بالإضافة إلى مرجعيات روحيّة متعددة، نتيجة مسّه بالمحسوبين على هذه الأطراف داخل النظام السياسي وأدواته الأمنيّة. أما أهداف الذين يستهدفونه اليوم، فتتنوّع في ما بينهم، إذ ثمّة من شَهر مطلب إقصائه كليّاً عن ملف التحقيقات واستبداله بقاضي آخر، وهناك من اقتصرت طموحاته على حماية الرموز المحسوبة عليه بجميع الوسائل المتاحة.

لكن بمعزل عن تنوّع أهداف الاستهداف السياسي الموجّه ضد القاضي، بتنا أمام حقيقة واحدة: ثمّة قاضي يقف اليوم في مواجهة نظام سياسي كامل. وهذه الحالة قلّما ألفها اللبنانيون في بلد اعتاد على استتباع جميع المؤسسات الدستوريّة، بما فيها القضائيّة، للمرجعيات والزعامات الطائفيّة.

تجربة القاضي صوّان

لم يكن طارق البيطار أوّل قاضي يضع يده على ملف تحقيقات انفجار مرفأ بيروت، كما لم تكن تجربته المرّة الأولى التي تواجه فيها الطبقة السياسيّة القضاء اللبناني في هذه القضيّة. ففي 12 آب 2020، أي بعد ثمانية أيام من انفجار المرفأ، وافق مجلس القضاء الأعلى على اقتراح وزيرة العدل اللبنانيّة ماري كلود نجم، القاضي بتعيين القاضي فادي صوّان محققاً عدلياً في ملف جريمة انفجار مرفأ بيروت. وعلى هذا الأساس وضع صوّان يده على الملف وباشر تحقيقاته في ذلك الوقت.

يومها، وفي إطار تحقيقاته التي كان يجريها، إدعى صوّان على رئيس الحكومة حسّان دياب، الذي كان يمارس مهام تصريف الأعمال بعد استقالته، بالإضافة إلى النائب ووزير الماليّة السابق علي حسن خليل (محسوب على حركة أمل)، ووزيري الأشغال السابقين غازي زغيتر (محسوب على حركة أمل أيضاً) ويوسف فنيانوس (محسوب على تيّار المردة بزعامة سليمان فرنجيّة).

وبالرغم من الادعاء، لم يمثل أي من هؤلاء أمام القاضي، بحجّة تمتّعهم بالحصانة الدستوريّة التي يمنحها لهم القانون كرئيس حكومة ونواب ووزراء حاليين وسابقين، والتي تحتّم ملاحقتهم من خلال مجلس النواب لا القضاء العادي. مع الإشارة إلى أنّ الدراسات القانونيّة تؤكّد أنّ هذه الحصانة يُفترض أن تشمل حصراً الأفعال الناتجة عن تقصير أو إخلال وظيفي في عمل الوزراء والرؤساء، لا الأعمال الجرميّة التي يمارسونها في معرض قيامهم بمهامهم، كحالة التسبب بانفجار كانفجار المرفأ.

في المحصّلة، وبعد تمرّد المتهمين على القاضي صوّان، أخذوا موقع الهجوم عليه من خلال مذكّرة طلبوا فيها تنحيته، بحجّة مخالفته القانون وتجاوز الحصانات الدستوريّة الممنوحة إليهم. وبعد حملة قاسية على القاضي شنّتها أحزاب من توجهات مختلفة، وتحت وطأة الضغوط السياسيّة، تم تعليق التحقيق بأسره لمدّة شهرين، قبل أن تتخذ محكمة التمييز قراراً بكف يد صوّان عن ملف التحقيقات في 18 شباط 2021.

بيطار: القاضي البعيد عن الأضواء

بعد يوم واحد من عزل صوّان، اتخذ مجلس القضاء الأعلى قراراً بتعيين طارق بيطار كمحقق عدلي في ملف انفجار المرفأ، بناءً على اقتراح وزيرة العدل كما ينص القانون. في الواقع، لم يكن اسم بيطار غريباً عن الملف منذ البداية، إذ كان اسمه مرشّحاً ليكون قاضي التحقيق قبل صوّان، لكنّه فضّل الاعتذار في ذلك الوقت، لأسباب تتصل بانشغاله بملفات محكمة جنايات بيروت التي يرأسها. لكن عند تكليفه بهذه المهمّة في المرّة الثانية، كخلف لصوّان، وافق بيطار، حيث رجّح زملاؤه أن أسباب موافقته هذه المرّة تعود لتكليف قاضي آخر بمعاونته في ملفّات محكمة جنايات بيروت، ليتفرّغ بيطار لملف انفجار المرفأ.

منذ تكليفه، اتسمت ردود الفعل على هذا القرار بالارتياح من قبل الحقوقيين والمتابعين للشأن القضائي اللبناني، وتحديداً من جهة سمعته الجيّدة كقاضي جريء ونزيه، ودقّته في اتباع الأصول القانونيّة والدستوريّة، بالإضافة إلى ابتعاده عن التبعيّة لأي من أقطاب السلطة في لبنان. أمّا أهالي ضحايا الانفجار، الذين قابلوا القاضي مرّات عدّة بعد تكليفه، فتناقلت وسائل الإعلام ارتياحهم لتولّيه هذه المهمّة، وغالباً ما كان الأهالي يصفونه في المقابلات الإعلاميّة بالقاضي الصارم والحريص على كشف الحقيقة. وهذا الارتياح كان سلاح القاضي منذ البداية في وجه جميع الحملات السياسيّة التي شنّها خصومه عليه.

على أي حال، وبالتوازي مع سمعة بيطار الجيّدة، كانت السمة الأساسيّة لبيطار في نظر الرأي العام هي غموضه، إذ يصعب العثور على أي تصريح تلفزيوني للرجل، ويندر أن نجد له حتّى مقابلات مكتوبة في الصحف المحليّة، فيما يمكن عدّ الصور الفوتوغرافيّة المتوفّرة له على أصابع اليد الواحدة. لكنّ هذه السمة كانت تؤكّد للمتابعين صفته الأساسيّة كقاضي صارم ومستقيم، وبعيد عن الاستعراض الذي يمتهنه في العادة بعض القضاة الباحثين عن الشهرة أو المواقف الشعبويّة. وفي حقيقة الأمر، كان ابتعاد القاضي تاريخيّاً عن الأضواء تعبيراً عن التزامه بأهم ما يفترض أن يتمتّع به القاضي: موجب التحفّظ، أي الحفاظ على هيبة موقعه ومهمّته وإبعادها عن العراضات الإعلاميّة والبحث عن الشهرة.

سيرة نظيفة

بمعزل عن الانطباع الجيّد الذي تركه تكليف بيطار، كانت سيرته الشخصيّة تؤكّد لمن يبحث عنها صوابيّة رأي المتفائلين به. ولد بيطار سنة 1974، في قرية عيدمون في قضاء عكّار شمال لبنان، من عائلة متوسّطة الحال، تعلّم معظم أبناؤها الثمانية في الجامعة اللبنانيّة وتخرّجوا منها (الجامعة الرسميّة شبه المجّانيّة). لم يُعرف أبناء هذه العائلة بأي انتماء سياسي، ولم تحتضن أيٌّ منهم زعامة مذهبيّة أو إقطاعيّة أو مناطقيّة، لا بل يصعب العثور في أسمائهم حتّى على إشارة إلى مذهب الأسرة التي تنتمي إلى طائفة الروم الكاثوليك. والحياد عن الزعامات التقليديّة ووساطاتها في زمن ما بعد الحرب الأهليّة، بالإضافة إلى الابتعاد عن العصبيات الطائفيّة، يُعد سمة إجابيّة في مرحلة هيمنت عليها قيادات سياسيّة طائفيّة قام نفوذها على تحاصص خيرات الدولة وشراء الولاءات بالزبائنيّة السياسيّة.

هكذا جاء بيطار من خلفيّة نظيفة وبعيدة عن وحل النظام السياسي التي أثار لاحقاً نقمة اللبنانيين وأنتج ثورة 17 تشرين الأوّل. درس في الجامعة اللبنانيّة وتخرّج منها محامياً، ثم دخل معهد الدروس القضائيّة فتخرّج سنة 1999 بتفوّق على دفعته. وتدرّج في مناصب عدّة داخل النظام القضائي اللبناني، دون أن يُعرف عنه تقرّب من أي زعامة أو استفادته من أي وساطة حزبيّة. شغل منصب القاضي الجزائي المنفرد في طرابلس، إلى أن تم تعيينه مدعياً عاماً استئنافيّاً في الشمال حتّى العام 2017، إلى أن تم تعيينه بعدها في مركز رئاسة محكمة الجنايات في بيروت. وفي كل تلك المناصب، تعامل مع ملفّات جنائيّة كبيرة ضجّ بها الرأي العام، دون أن ينال شخصيّاً أي شهرة إعلاميّة تُذكر لابتعاده تاريخياً عن الأضواء.

مسيرة التحقيق في انفجار المرفأ

أدرك بيطار مدى صعوبة مهمّته منذ البداية، فأمضى نحو خمسة أشهر في دراسة الملف والتقصّي عن جميع الحقائق المرتبطة به قبل القيام بأي مواجهة كبرى مع المسؤولين عن الانفجار. خلال هذه المدّة، أرسل القاضي استنابات قضائيّة إلى أكثر من عشر دول يطلب تعاونها في التحقيق حول مصدر شحنة المتفجرات وهويّة المستفيدين منها، كما طلب من هذه الدول تزويده بصور الأقمار الاصطناعيّة في حال توفّرها. وفي الوقت نفسه، بدأ القاضي بإطلاق سراح بعض الموقفين احتياطياً، والذين تبيّن عدم وجود شبهات جدية بحقهم، للتخفيف من ضغط ذوي الموقفين الذين طالبوا بتسريع وتيرة التحقيق. وخلال هذه المدّة، راجع القاضي تفاصيل التحقيقات التي أجراها سلفه فادي صوّان.

وضع بيطار لنفسه منهجيّة عمل واضحة: الإدعاء على كل ما تثبت المستندات علمه بوجود المتفجرات طوال السنوات التي سبقت انفجارها، لأنهم كانوا على دراية بوجودها ولم يتخذوا الإجراءات التي تجنّب البلاد خطر الانفجار. ولهذا السبب، بدأ بطلب الإذن لملاحقة بعض كبار الأمنيين، كمدير عام جهاز الأمن العام عباس ابراهيم، ومدير جهاز عام أمن الدولة طوني صليبا، علماً أن إجراءات طلب الإذن مطلوبة قانوناً قبل استجواب هؤلاء. كانت هذه الخطوة كفيلة بإثارة هواجس الزعامات التقليديّة من أداء بيطار، الذي تجرّأ على المس بالقيادات الأمنيّة المحسوبة على هذه الزعامات، والتي تمثّل أحد أذرعها داخل الدولة. ثم انتقل بيطار إلى الادعاء على رئيس الحكومة السابق حسان دياب، ومجموعة من الوزراء الذين ثبتت معرفتهم بوجود المتفجرات في مرفأ بيروت، بالإضافة إلى لائحة من القادة الأمنيين.

سرعان ما بدأت عرقلة التحقيق بشتّى أنواع الطرق. لم تمنح وزارة الداخليّة ومجلس الدفاع الأعلى بيطار الأذن بملاحقة مديري الأمن العام وأمن الدولة، كما لم يرفع مجلس النوّاب الحصانة الدستوريّة عن المتهمين الذين يملكون صفة نائب في المجلس. ولاحقاً، بدأ المتهمون بتقديم طلبات للقضاء اللبناني لكف يد بيطار وسحب الملف منه، وهو إجراءٌ يتبعه تجميد التحقيق في الملف إلى أن يبت القضاء بطلب كف اليد. وهذا النوع من الطلبات، جرى رفضه مراراً وتكراراً من قبل القضاء، لكن المتهمين استمرّوا بتقديم هذه الطلبات بشكل عبثي، لمجرّد إيقاف التحقيق –كما ينص القانون- بانتظار رد القضاء على الطلبات.

أخيراً، وصلت الأمور حد توجيه التهديدات العلنيّة للقاضي من خلال رسائل واضحة المعنى. ثم انتقلت الأمور لتأخذ منحى الاحتجاجات الصاخبة في الشارع، والتي جرى توجيهها لتتحوّل إلى صدامات مذهبيّة دمويّة، بهدف تحويل تحقيقات المرفأ إلى موضوع خلاف طائفي حاد. وبدأت المرجعيات الدينيّة تدخل على الخط، من خلال الخطابات التي أراد منها كل طرف حماية الرموز والزعامات المحسوبة عليه. في خلاصة الأمر، اشتدّت الضغوط على بيطار، الذي تحوّل إلى قاضي يحمل منفرداً عبء مواجهة نظام سياسي كامل: بحصاناته الدستوريّة ومرجعياته المذهبيّة ومراكز نفوذه داخل الدولة. حتّى اللحظة، لا يبدو أن بيطار سيتراجع، ولا يبدو أن خصومه قادرون على إقناع المرجعيات القضائيّة بالإطاحة به كما أطاحوا بسلفه. لكن الأكيد أن رموز النظام السياسي تمكنوا من حماية أزلامهم من استدعاءات بيطار، من خلال المناورات التي جرت طوال الأشهر الماضية للإبقاء على حصانات المتهمين ورفض طلبات ملاحقتهم.