وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

المحكمة العليا في إسرائيل ترفض قانون الهجرة غير الشرعية، وتعود للمواجهة مع الحكومة

 الهجرة غير الشرعية في إسرائيل
المهاجرون الأفارقة في إسرائيل (Photo by MENAHEM KAHANA / AFP)

في ليالي الصيف الماضي، امتلأت حديقة لوينسكي في تل أبيب بالمهاجرين غير الشرعيين، منهم من كانوا يتجاذبون أطراف الحديث على المقاعد الخشبية البالية، بينما افترش آخرون الأرض، في حين تجمهر بعضهم الآخر بالقرب من ساحة اللعب. يعتبر جنوب تل أبيب بنظر القادمين الجدد، وبخاصة من أرتيريا، “أرض الميعاد” حقاً، إذ لا يمكن الوصول إليها إلاّ بعد رحلة محفوفة بالمخاطر في الصحراء للهروب من الواقع الأليم الذي يعيشونه في أوطانهم، سواء كان سياسياً أو اقتصادياً.

في صيف عام 2014، تبدل الحال وغدت الحديقة خالية. لسنوات، كان الآلاف من الإريتريين والسودانيين وغيرهم من الأفارقة يتدفقون بصورة غير مشروعة عبر الحدود الإسرائيلية مع مصر، المعبر البري الوحيد بين القارة الأفريقية ودولة متقدمة. وفي عام 2010، وصلت أعداد المهاجرين غير الشرعيين إلى 1200 مهاجر في الشهر، حيث أغضبت هذه الأعداد المتزايدة سكان جنوب تل أبيب، الذين يعانون في الأصل منذ سنوات طويلة من الفقر والجريمة، ليصبحوا مضطرين أيضاً للتعامل مع عشرات الآلاف من الأجانب. ومع دخول هذه الأعداد إلى البلاد، وصل العدد الإجمالي للمهاجرين الأفارقة “المتسللين” أو “طالبي اللجوء”، بسبب السياسية، 60 ألف مهاجر معظمهم من الاريتريين. ولكن بقي هذا الرقم على حاله، ففي النصف الأول من عام 2013، ووفقا للحكومة الإسرائيلية، عبر 34 مهاجراً فقط الحدود بطريقة غير مشروعة.

وفقاُ لمسؤولين حكوميين، السبب واضح: يعود الفضل في انخفاض أعداد المهاجرين إلى الجدار الذي بنته إسرائيل عام 2012 على حدودها مع مصر الأمر الذي جعل العبور ودخول اسرائيل من سيناء أمر شبه مستحيل، إلى جانب قانون احتجاز أولئك الذين تمكنوا بالفعل من التسلل إلى اسرائيل في مراكز الاحتجاز. وبالفعل نجح الأمر، إذ أصبحت، وفقاً للخبراء، الرحلة إلى اسرائيل لا تستحق كل ذلك العناء..

هذا السبب، قد يكون للقرار الذي صدر عن المحكمة العليا الاسرائيلية في سبتمبر 2014 عواقب بعيدة المدى. وبأغلبية ساحقة بسبعة أصوات مقابل اثنين، رأت المحكمة أن السياسة الحالية لاحتجاز المهاجرين تنتهك القانون الأساسي الإسرائيلي لكرامة الإنسان وحريته. وقضت المحكمة بأنه يتوجب على الدولة في المستقبل، إيجاد حل آخر لتنظيم تدفق المهاجرين وتخفيف الضغط على جنوب تل أبيب.

السؤال المطروح أمام المحكمة الآن يتعلق بالموازنة بين حقوق الإنسان والنظام العام. من جهة، احتجاز أي من المهاجرين غير المتهمين بأي جريمة ضد أفراد أو ممتلكات غير إنساني، ولطالما خالفت الحكومات الاسرائيلية الضغوطات الشعبية ورفضت إرسال الإريتريين والسودانيين إلى ديارهم دون إرادتهم. وبالنظر إلى سجلات حقوق الإنسان الكارثية في البلدين (التي تعتبر من بين الأسوأ في العالم)، يعدّ ترحيل المهاجرين غير الطوعي إلى ديارهم إنتهاكاً للقانون الدولي للآجئين.

ومع ذلك، يشكّل قانون الاحتجاز المطول تقييداً تاماً لحرية المهاجرين، إذ يُسمح للمحتجزين بمغادرة المركز طوال اليوم، إلا أنه يتوجب عليهم العودة لإثبات وجودهم فترة ما بعد الظهر والعودة إلى المركز كل ليلة. وكما خلصت المحكمة، إنّ رفض إسرائيل ترحيل المهاجرين إلى ارتيريا والسودان خوفاً من زجهم في السجون، يشابه إلى حدٍ كبير ما تقوم به بتقييد حريتهم في مراكز الاحتجاز.

من ناحية أخرى، يضغط الشارع الاسرائيلي على الحكومة لإنهاء القضية، حيث يجادل الاسرائيليون أنّ البلاد لا تستوعب موجات الهجرة الإفريقية التي قد تكون دون نهاية، وفي حال عدم إيجاد حل، يمكن للهجرة غير الشرعية إغراق المجتمعات الإسرائيلية بمئات الآلاف من الأفارقة. وفيما يتعلق بالمهاجرين من بلدانٍ أخرى غير ارتيريا والسودان، تجزم الحكومة بسهولة أن أسباب الهجرة إقتصادية بحتة، وبالتالي يسهُل عليها ترحيلهم. ومع ذلك، تُثقل الهجرة اللانهائية، في أي بلد كان، كاهل المجتمع والنظام العام، وفي إسرائيل، قد تفاقم الهجرة الإفريقية الضخمة المخاوف الديموغرافية والأمنية المحفوفة بالخطر.

المواجهة

وبالموازنة بين حقوق الطرفين، وقفت المحكمة العليا إلى جانب حماية الحقوق، الأمر الذي لم يلقى استحسان العامة والسياسيين على حد سواء، إذ أيدّ العديدون قانون الاحتجاز لردع المهاجرين ووقف تدفقهم. وإن كان الأمر كذلك، فقد خلقت القضية على الأقل نوعاً من الصداع السياسي. وتعهد أعضاء اليمين من الكنيست، الذين اعترضوا بشدة على هذا القرار، بدفع الكنيست إلى سنّ قانون لمنع المحكمة من المس بهذه القضية على الأقل، وهذا يعني على ارض الواقع، تغير القانون الأساسي لإسرائيل والتعدي على الأسس الديمقراطية. وصرح وزير الداخلية، المنتهية ولايته، جدعون ساعر للجنة الكنيست بأنه سيسعى لرفع مقترحٍ بهذا الشأن للتشريع من أجل تحقيق هدفه المرجو بحلول 26 أكتوبر. في حين صرح المدعي العام بأنه سيبذل قصارى جهده لعرقلة هذه الخطوة، التي ستحتاج، بجميع الأحوال حينها، إلى دعم من الإئتلاف الحاكم والكنيست بأكمله.

يضع هذا القضية الأوسع لدور المحكمة العليا في الحياة الإسرائيلية قيد البحث. ولطالما اعتبرت المحكمة العليا من وجهة نظر الأوساط اليمينية بؤرة النخبة اليسارية التي ترفض بصورة غير شرعية قوانين الكنيست وتسحق إرادة الشعب. وغالباً ما تتعرض قرارات المحكمة العليا للهجوم، في بلد سبق وشهد استأصال نخبة العمل الصهيوني من قبل الإئتلاف الإجتماعي الأوسع الذي يميل إلى اليمين الإسرائيلي. ولهذا السبب، قد يستحوذ القرار الصادر بشأن احتجاز المهاجرين على أهمية أكبر من القضية ذاتها، وبخاصة إذا ما عاد تدفق الأفارقة عبر الحدود مجدداً مما سيُثير زوبعة جديدة ستأجج الجدل القائم حول سلطة الكنيست مقابل دور المحكمة. قد يؤثر حل هذه الخلافات على مستقبل المسار السياسي اتجاه الحريات المدنية، وقضية الدين والدولة، والفلسطينيين وغيرها من القضايا التي لا تعد ولا تحصى..

تلاشى إلى حدٍ كبير الحديث حول رفض المحكمة العليا لقانون “المتسللين”، كما اختفت القضية من عناوين الصحف اليومية في غضون يومٍ أو يومين نظراً لجدول الأعمال العام المزدحم بقضايا الحروب ومناقشات الميزانية. ومع ذلك، يمكن لتداعيات هذا الحكم إعادته إلى الواجهة الوطنية مجدداً. وعلى المدى الطويل، يعدّ هذا قراراً مصيرياً يؤثر على الإسرائيليين، ولا يتعلق فقط باحتجاز أو عدم احتجاز الاريتريين في صحراء النقب. ما يقع على المحك هنا ليس فقط التوازن بين الحق بالحرية للمهاجرين ومسؤولية الدولة في السيطرة على الحركة عبر الحدود، إنما أيضاً توازن القوى بين السلطة التشريعية والسلطة القضائية.

تعدّ اسرائيل من الدول القليلة في العالم التي ليس لديها دستور مكتوب. وفي الوقت نفسه، لم يصل هذا المجتمع المشاكس بعد إلى اتفاق كامل حول كيفية تنظيم وهيكلة وتقييد حكومته، بدلاً من ذلك، يتطور الدستور بنداً تلو الآخر وبشكل أكثر هشاشة وعرضة للأزمة الأخيرة من أي وقتٍ مضى. تشكّل قضية المهاجرين آحدث التحديات، والتي تعدّ نتائجها إلى الآن بالنسبة لإسرائيل في علم الغيب.