وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

اغتيال شيرين أبو عاقلة جريمة جديدة وعدالة غائبة

اغتيال شيرين أبو عاقلة
المصور الفلسطيني مجاهد السعدي (وسط-يس) من تلفزيون فلسطين اليوم يبكي وهو يرافق صحفيين آخرين جثة مراسلة الجزيرة المخضرمة شيرين أبو عاقلة، التي قُتلت أثناء قيامها بتغطية غارة على مخيم جنين للاجئين في الضفة الغربية ، في يوم 11 مايو 2022. جعفر أشتية / وكالة الأنباء الفرنسية

نور عودة

في الحادي عشر من مايو نزل بالصحافة في فلسطين وشتى أرجاء العالم العربي مصيبة عظيمة. فقد قتل جندي إسرائيلي الصحفية المخضرمة شيرين أبو عاقلة التي أمضت حياتها في نقل أخبار فلسطين حتى صارت أيقونتها الصحفية وذلك في أثناء تغطيتها اقتحام مخيم جنين. في لمح البصر، خُطفت حياة شيرين وهي تحاول إخبار زملائها بإصابة المنتج علي السمودي. تابع زملاؤها لحظتها الأخيرة مكتوفي الأيدي لا حيلة لهم، ووثقوا الدليل الدامغ على هذه الجريمة رغم خطورة ذلك عليهم، ولم يستطع أحد منهم الوصول إليها خلال دقائق مفجعة. فكل من حاول الوصول إليها أو نقلها إلى المستشفى كان عرضة للقتل.

وتسبب مقتل أبو عاقلة، بدم بارد،  في حالة من الصدمة، وتتابعت الإدانات في كل العالم. فطالب قادة العالم، ومنهم رئيس الولايات المتحدة جو بايدن، بالتحقيق في مقتل أبو عاقلة التي تحمل الجنسية الأمريكية. بينما فتحت النيابة العامة الفلسطينية تحقيقًا في مقتلها بعدما سمحت أسرتها للسلطات الفلسطينية بإجراء الفحص الطبي الشرعي اللازم. كما رفضت الحكومة الفلسطينية دعوات إسرائيلية لإجراء تحقيق مشترك، وهو ما لاقى ترحيبًا  من عموم الشعب الفلسطيني الذين اعتبروا الدعوات الإسرائيلية نكأً للجرح. وقال صالح حجازي، نائب مديرة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في منظمة العفو الدولية للجزيرة: “يظهر من سوابق التحقيقات الإسرائيلية أنه لا نية ولا قابلية للتحقيق في الجرائم التي تُرتكب في حق الفلسطينيين”.

من جانبها، عاجلت الحكومة الإسرائيلية بالهجوم، فاتهمت مسلحين فلسطينيين في البداية بالمسؤولية عن مقتل شيرين، ونشرت مقطع فيديو لمقاتلين فلسطينيين يطلقون النار في أحد الأزقة. وتزعّم رئيس الوزراء الإسرائيلي وحفنة من كبار المسؤولين الترويج لهذه السردية التي ما لبثت أن تهاوت. ونشرت منظمة حقوق الإنسان الإسرائيلية “بتسيلم” مقطع فيديو مدعومًا بالخرائط  يفند رواية الحكومة الإسرائيلية ويثبت أن السيناريو الإسرائيلي مستحيل على أرض الواقع، ثم تبعتها منظمات أخرى مستقلة مثل بيلينغ كات.

تراجعت إسرائيل بعد شعورها بالحرج عقب هذه التطورات، واعترفت في النهاية بأن جنديًا إسرائيليًا هو المسؤول عن مقتل الصحفية، وحددت نوع السلاح الذي أُطلقت منه الرصاصة. لكن الجيش الإسرائيلي تجاهل كل هذه الأدلة وأعلن بعد ثمانية أيام من الاغتيال أنه لن يفتح  تحقيقًا  جنائيًا  في الواقعة خوفًا  من إحداث شقاق داخل صفوف الجيش والمستوطنين الإسرائيليين. وظهر مقطع فيديو جديد نُشر تزامنًا  مع بيان الجيش ولم يفض إلى جديد لا يعلمه الفلسطينيون، إذ عرض موقع الحادث قُبيل استهداف الصحفيين وقد ساده الهدوء وخلا منه أي مقاتل فلسطيني.

صاحب فقدان شيرين أبو عاقلة غضب وحزن، وأعقبه تعدٍ وحشي على جنازتها في القدس، واعتداء على النعش نفسه وحامليه. ولم يكن في ذلك جديد على الشعب الفلسطيني أو الصحفيين الفلسطينيين، فقد ثبتوا ولم يخافوا لأنهم اعتادوا هذه الطريقة من العدوان الإسرائيلي. فما حدث يعكس حياتهم اليومية في ظل الاحتلال، كما يعكس الإفلات من العقاب وظلم السلطة الإسرائيلية ومخالفتها القانون في تعاملها مع كل ما هو فلسطيني.

ففي عام 2018، قتل قناص إسرائيلي الصحفي الفلسطيني ياسر مرتجى في أثناء تغطية مسيرات العودة الكبرى في قطاع غزة. ورفضت إسرائيل في البداية اتهام جنودها بقتله. ومع مرور الوقت، اتهم وزير الدفاع الإسرائيلي الصحفي بأنه من “عناصر حماس” لتبرير قتله.

كما اتهمت إسرائيل أحمد أبو حسين، وهو صحفي آخر قتله قناص إسرائيلي في أثناء تغطية الحدث نفسه بأنه كان “درعًا بشريًا” لحماس. لكن هذه المزاعم والافتراءات فُضحت بعد الجهود التي بذلتها عدة جهات، ومنها لجنة تحقيق مستقلة شكّلها مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة للتحقيق في أحداث مسيرات العودة. فقد وجدت اللجنة “أدلة كافية تفيد بأن القناصين الإسرائيليين استهدفوا الصحفيين عن عمد رغم علمهم بهويتهم”.

وحتى في الحالات التي صوّر فيها الصحفيون استهدافهم وقتلهم، كما فعل فاضل شناعة مصور رويترز- 24 عامًا – في غزة عام 2008، رأت إسرائيل أن قرار استهداف الصحفي بقذيفة دبابة كان “مبررًا”. وأسفر الحادث حينها عن مقتل وإصابة مدنيين آخرين، ومن بينهم صحفيون.

وليست ثقافة الإفلات من العقاب حكرًا على الفلسطينيين، بل طالت الصحفيين الأجانب أيضًا.

ففي عام 2003، قتلت القوات الإسرائيلية الصحفي البريطاني جيمس ميلر بطلقة في الرقبة في أثناء عمله في غزة. ورفضت عائلة ميلر نتائج تحقيق الجيش الإسرائيلي بتبرئة قواتها من المسؤولية عن قتله، وعينت محققًا خاصًا  للوصول إلى الحقيقة. وقدموا الأدلة والنتائج إلى محكمة سانت بانكراس في لندن التي قضت عام 2006 أن ميلر “تعرّض للاغتيال“. ومع ذلك أصرّ الجيش الإسرائيلي على أن تحقيقه وافٍ وبرأ جنديًا  أسموه ليوتينانت إتش.

وعلى مدار أكثر من عقدين، قتلت إسرائيل ما لا يقل عن 46 صحفيًا فلسطينيًا وأجنبيًا. ودائمًا ما ترفض الإقرار بالمسؤولية عن أية عملية قتل، أو محاسبة أي متهم. فلم تؤخر إسرائيل إنجاز العدالة بحق هؤلاء الصحفيين فحسب، بل دأبت على إنكار حقهم إنكارًا  ممنهجًا  ومستمرًا.

حزنت أسرة شيرين أبو عاقلة والصحفيون الفلسطينيون لما أصابهم، وليس لهم سلوى إلا ما يسمعونه من تأكيدات على أن مسار العدالة وتحمّل كل طرف مسؤوليته لن يكون صعبًا هذه المرة.

وقد وعدت القيادة الفلسطينية بإحالة القضية إلى المحكمة الجنائية الدولية التي يدخل ضمن صلاحيتها التحقيق في الأوضاع الفلسطينية. ورغم تعرّض المدعي العام الحالي لانتقادات بسبب مماطلته في تحقيق المحكمة الجنائية الدولية بشأن الوضع في فلسطين، يأمل كثيرون أن تؤدي الحقائق الواضحة في هذه الجريمة الجنائية مع الضجة العالمية إلى تحرك صادق يفضي إلى نتائج مقبولة.