مات ناشد
في 29 مايو الماضي، أطلق المجلس العسكري السوداني سراح 125 متظاهرًا وألغى حالة الطوارئ في مبادرة منه لبدء عهد جديد مع الأحزاب السياسية. وقد اتخذ ذلك القرار بناءً على توصية من مجلس الأمن والدفاع السوداني.
وقد وصف الفريق عبد الفتاح البرهان، الذي أدخل البلاد في أزمة سياسية بعد انقلابه على الحكومة المدنية في 25 أكتوبر الماضي، هذه الإجراءات بأنها مبادرة “لبناء الثقة” ومحاولة لخلق بيئة مؤاتية للمحادثات السياسية.
ورحّب مسؤولون في الاتحاد الأوروبي وفرنسا وألمانيا ودول الترويكا (الولايات المتحدة والمملكة المتحدة والنرويج) بهذه الخطوة. وواصلت هذه الدول دعم جهود الآلية الثلاثية المتمثلة في بعثة الأمم المتحدة المتكاملة لدعم المرحلة الانتقالية في السودان (يونيتامس)، والاتحاد الإفريقي، والهيئة الحكومية للتنمية (إيغاد).
وقد تعرّضت الآلية الثلاثية لانتقادات شديدة من الخبراء المعنيين بالشأن السوداني والمتظاهرين أيضًا لفشلها في الضغط على الجيش لوقف العنف والإجراءات التعسفية. حتى إن فولكر بيرتيس، رئيس بعثة الأمم المتحدة في السودان، صرّح للصحفيين مؤخرًا بأنه يؤمن بضرورة إقناع المجلس العسكري بالتخلي عن السلطة بدلًا من تطبيق عقوبات لإجبارهم على ذلك.
وفي ظل انتقادات الخبراء، يأتي قرار إلغاء حالة الطوارئ للحفاظ على مصداقية الآلية الثلاثية وجهودها في السودان. لكن مكونات الحراك الشعبي الواسع والمؤيد للديمقراطية ترى أن هذه الخطوات الرمزية لم تنه انتهاكات حقوق الإنسان في السودان أو تقوم بشيء مهمٍ في سبيل انتقال حقيقي نحو الديمقراطية.
فبعد يوم واحد فقط من إلغاء حالة الطوارئ، أصابت قوات الأمن 33 متظاهرًا، منهم ستة متظاهرين أُصيبوا بالرصاص الحيّ. وفي الأسبوع نفسه أفرطت قوات الأمن في استعمال الغاز المسيل للدموع لقمع المتظاهرين في حي برّي الدرايسة بالخرطوم. وفي السياق ذاته، نشرت بعثة الأمم المتحدة بيانًا على تويتر -حُذف لاحقًا- لحثّ السلطات على احترام “التجمع السلمي” والامتناع عن استعمال القوة المفرطة للحفاظ على مناخ يسمح بإجراء محادثات سياسية.
ولم يسلم هذا البيان من الانتقادات الشديدة، فقد صرّح بعض النشطاء لفنك برأيهم في البيان الذي صِيغ في رأيهم بطريقة جعلت الأولوية القصوى لحماية العملية السياسية على حساب حياة المدنيين وسلامتهم.
وقد تأثرت مصداقية الآلية الثلاثية والمجتمع الدولي سلبًا بعد أن استعملت قوات الأمن الرصاص الحي وقتلت أحد المتظاهرين في ذكرى مذبحة اعتصام القيادة العامة التي خلّفت 120 قتيلًا في 3 يونيو 2019. كما قُتل شاب آخر في أم درمان بعد ثلاثة أيّام بحسب ما أفادت به جمعيات حقوقية سودانية.
وفي 7 يونيو الماضي، عُثر على جثتين لرجلين آخرين أمام مشرحة أم درمان في الخرطوم. وقُتل في اليوم نفسه شاب وطفل، لتصبح حصيلة قتلى الاحتجاجات المناهضة للانقلاب منذ استيلاء الجيش على السلطة 101 قتيل.
ولم يحدث أي تغيير إيجابي منذ إلغاء حالة الطوارئ باستثناء تراجع حالات الاختفاء القسري والاعتقالات خارج إطار القانون. بينما تكررت حالات التعذيب في المنشآت التابعة لإدارة التحقيقات المركزية.
كما كشف تقريرٌ صادرٌ عن منظمة “هيومن رايتس ووتش” أن المجلس العسكري استعمل إدارة التحقيقات المركزية لتجاوز المحاكم في أثناء العمل بقانون حالة الطوارئ. ولم يعد الجيش في حاجة إلى الاعتماد على هذه الطريقة الآن بعدما عمل منذ الانقلاب على إعادة عدد من الموالين لنظام البشير إلى القضاء.
فقد كان من أول الإجراءات التي اتخذتها سلطة الانقلاب تعيين عبد العزيز فتح الرحمن رئيسًا للهيئة العليا للقضاء، وخليفة أحمد خليفة نائبًا عامًا. وهما إسلاميان مشهوران من عهد البشير. وقد ظلّ المنصبان شاغرين بعد رفض البرهان الشخصيات التي رشحتها الإدارة المدنية السابقة.
وتنظر المحاكم حاليًا في قضية محمد آدم، 17 عامًا، والمُلقَب “بتوباك”، وهو أحد المتهمين الأربعة بقتل ضابط شرطة برتبة كبيرة في 13 يناير الماضي في ظروف غامضة. وقد اختُطف آدم من المستشفى الذي كان يُعالج فيه بعد إصابته في التظاهرات.
وقال محامو آدم إنه وُضع في الحبس الانفرادي ثلاثة أسابيع، وخلال هذه الفترة سُئل عن مجموعة متظاهرين تُدعى “غاضبون” وعن مصدر تمويل المتظاهرين.
ولم تستجوبه الشرطة عن مقتل ضابط الشرطة علمًا بأنه احتُجز على ذمة هذه القضية، أي إن الغرض من احتجازه هو جمع المعلومات عن مجموعات المتظاهرين. لكن ذلك لم يمنع الشرطة من تعذيبه لإجباره على الاعتراف بجريمة القتل. وبحسب المحامين، تعرّض آدم للتعذيب ودق حراس السجن المسامير في كاحله، وعلقوه رأسًا على عقب، وحرقوه بالسجائر في جسده، ثم حرموه من العلاج.
وقد جمعت قضية آدم شمل المتظاهرين الذين رأوا في محنته تمثيلًا لمعاناة المجتمع بأسره. وبخلاف المجتمع الدولي الذي ظل صامتًا حيال هذه القضية، تجمع المتظاهرون والمحامون أمام مقر المحكمة التي نظرت في قضيته في 29 مايو الماضي، وهو اليوم ذاته الذي أُلغيت فيه حالة الطوارئ.
وقبل أن يدخل قاعة المحكمة، ترّجل آدم من سيارة الشرطة وأشار بعلامة النصر للحشد الذي هتف له، وكذلك فعل محمد الفاتح المتهم أيضًا في القضية ذاتها.
كانت إشارتهما تحديًا للسلطة وقد التقطتها الكاميرات وتداولها النشطاء والمتظاهرون عبر وسائل التواصل الاجتماعي. وقد كان لهذه الصّور أثرًا في نفوس المتظاهرين والحراك الشعبي الطامح للديمقراطية أكثر من إلغاء حالة الطوارئ التي لم تُوقف مظالم سائر أهل السودان.
ولم يعرقل أي من ذلك التدابير الخاصة بالآلية الثلاثية وبدأت المحادثات الرسمية في 8 يونيو. ومع ذلك، رفض الحراك الشعبي في شوارع السودان وقوى الحرية والتغيير، وهي إحدى الجهات المدنية الفاعلة في الاحتجاجات، المشاركة في المحادثات بسبب وجود الجيش والإسلاميين الذين اتحدا معًا منذ الانقلاب.
ولكن المحادثات بدأت وانعقدت اللقاءات، ما يدلّ على فشل العملية السياسية التي يدعمها المجتمع الدولي ليثبت عجزه عن كسب ثقة أي طرف سوى قادة الانقلاب أنفسهم.