تمكّن شركات لبنانيّة وإسرائيليّة من عقد صفقات خطرة دون أن تواجه أية ضغوط وأية عقوبات في دول أخرى، يشير إلى تراجع اهتمام المجتمع الدولي بملفات حقوق الإنسان في ميانمار.
علي نور الدين
في الأوّل من شهر فبراير/شباط 2021، نفّذ الجيش في ميانمار انقلابًا ضد السلطة الشرعيّة في البلاد، ليقوم إثر ذلك باعتقال رئيس الدولة يو وين مينت ومستشارة الدولة أونغ سان سو تشي، بالإضافة إلى كبار قادة حزب الرابطة الوطنيّة من أجل الديمقراطيّة الحاكمة.
ومنذ ذلك الوقت، باتت ميانمار تحت حكم المجلس العسكري ورئيسه مين أونغ هلاينغ، الذي أعلن حالة الطوارئ ومدد العمل بها حتّى اليوم، كما فرض الأحكام العرفيّة في العديد من المدن والمناطق.
وطوال السنتين الماضيتين، عاشت ميانمار خضّات سياسيّة وأمنيّة قاسية، في ظل موجات متكرّرة من الاحتجاجات الشعبيّة التي رفضت الحكم العسكري. ولقمع هذه الاحتجاجات، لجأت السلطات الانقلابيّة إلى إصدار نحو 114 حكمًا بالإعدام بحق المعارضين السياسيين، بعد محاكمات عرفيّة سريّة وسريعة.
وبحسب أرقام الأمم المتحدة، تجاوز عدد ضحايا عمليّات القتل خارج القانون، التي قام بها الجيش خلال فض الاحتجاجات، حدود ال2000 شخص. كما تشير جمعيّة مساعدة السجناء السياسيين إلى أنّ عدد المحتجزين بشكل تعسّفي على خلفيّات سياسيّة بلغ 14,847 شخصًا.
اهتمام السلطات الانقلابيّة بقطاع الاتصالات
وكحال أي نظام قمعي، اهتمّ الجيش في ميانمار بشكل كبير بالسيطرة التامّة على قطاع الاتصالات، لتعقّب حركة النشطاء السياسيين والتمكّن من ملاحقتهم، أو ترقّب مواعيد وأماكن الاحتجاجات المقبلة.
ولهذا السبب بالتحديد، وفور نجاح الانقلاب، حرص الجيش على تعيين مسؤولين عسكريين في وزارة النقل والاتصالات المدنيّة. كما استخدم الجيش هؤلاء المسؤولين لتفعيل برامج تسمح بالتنصّت على المكالمات الهاتفيّة وعرض الرسائل النصيّة، ومراقبة حركة المرور على الإنترنت، بما في ذلك رسائل البريد الإلكتروني وكلمات المرور.
وفي الوقت نفسه، ولضمان التحكّم بقطاع الاتصالات بشكل تام، أجبرت السلطات الانقلابيّة مدراء شركات الاتصالات الخاصّة على الاستحصال على إذن خاص قبل السفر من البلاد. كما منعت هؤلاء المدراء من التواصل مع وسائل الأعلام، أو إعطاء أية معلومات عن تقنيّات التجسّس التي تستخدمها الدولة عبر شركاتهم. وكان من بين الإجراءات الأولى التي قام بها الجيش بعد الانقلاب قطع الإنترنت، وعدم إعادته بالكامل إلا بعد حظر لائحة من المواقع الإلكترونيّة، وتجهيز التقنيّات اللازمة لمراقبة نشاط المستخدمين.
وبعد مرور نحو سنتين على الانقلاب العسكري، بات من الواضح أن شركات اتصالات لبنانيّة وإسرائيليّة لعبت أدوارًا كبيرة في دعم سيطرة الجيش في ميانمار على قطاع الاتصالات. ومن خلال دعم هذه الشركات بالتحديد، تمكن الجيش من تجاوز المعايير الأخلاقيّة التي من المفترض أن ترعى إدارة قطاع الاتصالات في أي بلد، وهذا ما ساعده في الأعمال القمعيّة التي مارسها بحق المعارضين.
مجموعة أم1 اللبنانيّة: الاستفادة من الانقلاب
قبل حصول الانقلاب، شكّلت شركة تيلينور النرويجيّة أحد أكبر مقدمي خدمات الانترنت والاتصالات الخلويّة في ميانمار، حيث وسّعت الشركة قاعدة زبائنها هناك بشكل تدريجي منذ العام 2014. لكن بمجرّد حصول الإنقلاب، قررت الشركة الخروج من سوق ميانمار، بعدما طلبت منها السلطات الإنقلابيّة تفعيل برامج تسمح للجيش بتعقّب نشاطات مستخدمي شبكة الخليوي والإنترنت.
وكما كان واضحًا، ارتبط قرار شركة تيلينور بخشيتها من مخالفة قواعد دول الاتحاد الأوروبي والنرويج، ما قد يعرّضها لعقوبات هناك، في حال الموافقة على طلبات الإنقلابيين. مع الإشارة إلى أنّ تيلينور، المملوكة من الدولة النرويجيّة، والمدرجة في بورصة أوسلو، تملك حضورًا كبيرًا في أسواق الدنمارك وفنلندا والسويد والنرويج، ما يفسّر حرصها على الخروج من سوق ميانمار بأقل خسائر ممكنة.
هنا، وجدت مجموعة أم 1 اللبنانيّة فرصة سانحة لدخول قطاع الاتصالات في ميانمار، والعمل على شراء فرع تيلينور في ميانمار، بسعر زهيد لا يتجاوز ال105 مليون دولار. وللتمكن من الاستحواذ على هذه الأصول بسعر منخفض، قياسًا بقيمتها الفعليّة، استفادت الشركة اللبنانية من تهرّب جميع الشركات الدوليّة المرموقة من التعاون مع النظام العسكري في ميانمار، خوفًا من العقوبات الدوليّة التي يمكن أن تبعدها عن الأسواق الغربيّة.
ببساطة، كانت مجموعة أم 1 مستعدة لتطبيق ما يريده الانقلابيون في قطاع الاتصالات، بخلاف الشركات الدوليّة الأخرى. وهكذا مثّل دخول مجموعة أم 1 إلى ميانمار مخرجًا للسلطات الانقلابيّة، بما يسمح للسلطات باستقدام شركة أجنبيّة بديلة عن شركة تيلينور لإدارة القطاع، دون التنازل عن مطلب التنصّت على المواطنين. ومن المهم الإشارة هنا إلى أن بيانات شركة تيلينور نفسها أكّدت ارتباط عمليّة البيع بهذه الحسابات والاعتبارات.
خبرة مجموعة أم 1 في التعامل مع الأنظمة البوليسيّة
مجموعة أم1 اللبنانيّة هي شركة مملوكة من رئيس الحكومة اللبناني الحالي نجيب ميقاتي، وشقيقه طه، بالإضافة إلى بعض أعضاء عائلتهما. ومن المعروف أن الأخوين ميقاتي يمتلكان تاريخًا طويلًا من العمل في قطاع الاتصالات في الدول التي حكمتها أنظمة بوليسيّة خاضعة للعقوبات الأجنبيّة، ما أعطاهما خبرة طويلة في نسج العلاقات مع الحكّام الذين يرغبون في السيطرة الأمنيّة على قطاع الاتصالات في بلادهم.
فعلى سبيل المثال، عمل الشقيقان ميقاتي على تأسيس شبكة اتصالات خلويّة في سوريا، بعد الحصول على امتياز لمدّة 15 سنة، بمجرّد وصول الرئيس السوري بشّار الأسد إلى السلطة. وتشارك الشقيقان ميقاتي في ذلك الامتياز يومها مع إبن خال الرئيس السوري، رامي مخلوف.
كما استحوذت شركات عائلة ميقاتي على رخص لتأسيس شركات اتصالات في السودان، خلال ولاية الرئيس عمر البشير، ابّان العقوبات المفروضة على نظامه. وفي اليمن، التفّت شركات عائلة ميقاتي على العقوبات المفروضة على الحوثيين، عبر شركات مسجلة في جنّات ضريبيّة، للعمل في قطاع الاتصالات هناك.
شراكة مجموعة أم 1 مع الانقلابيين في ميانمار
هكذا، وللدخول في سوق ميانمار، استفادت مجموعة أم 1 من خبرتها الطويلة في العمل في أسواق الدول النامية، التي لا تستطيع الشركات الغربيّة دخولها بسبب العقوبات الدوليّة المفروضة على أنظمتها. كما استفادت من مرونتها في تجاوز المعايير الأخلاقيّة التي يفترض أن تحكم عمل شركات الاتصالات، وخصوصًا في ما يتعلّق بخصوصيّة المستخدمين في ظل الأنظمة القمعيّة.
وفي النهاية، تمكنت مجموعة أم 1 من الحصول على موافقة المجلس العسكري على شراء عمليّات شركة تيلينور في ميانمار، إنما بعد إجبار مجموعة أم 1 على الدخول في شراكة مع شركة محليّة مقرّبة من المجلس العسكري الحاكم، تُدعى “شي بين فيو Shwe Byain Phyu”.
وعند التدقيق في تاريخ هذه الشركة، سرعان ما تبيّن أنّ عمليّاتها تركّزت تاريخيًّا على توزيع المواد البتروليّة، دون وجود أية خبرة أو عمل سابق في مجال الاتصالات. وهذا تحديدًا ما يشير إلى أنّ هدف المجلس العسكري من إقحام الشركة المحليّة في الصفقة لم يكن سوى تعزيز سيطرته على قطاع الاتصالات، من خلال مشاركة مجموعة أم 1 في ملكيّة العمليّات.
وبعد خروج شركة تيلينور من سوق ميانمار، واستبدالها بمجموعة أم 1، توسّعت السلطات العسكريّة في استخدام تقنيّات الذكاء الاصطناعي لرصد حركة مرور المواطنين على الإنترنت دون قيود، كما باتت السلطات تستخدم بشكل علني المعلومات الناتجة عن أنشطة التجسّس كأدلّة في وجه المعارضين السياسيين.
وفي الوقت نفسه، قامت السلطات بتنظيم حملات أمنيّة لتفتيش الأجهزة الإلكترونيّة الموجودة بحوزة المواطنين، لضبط أية تطبيقات يمكن استخدامها لتجاوز عمليّات المراقبة والتنصّت.
تورّط شركة “كوغ نايت” الإسرائيليّة
في منتصف شهر كانون الثاني الماضي، كشفت منظمة “العدل لميانمار” عن وثائق تثبت أنّ شركة كوغ نايت الإسرائيليّة فازت بمناقصة لتزويد السلطات في ميانمار ببرامج إلكترونيّة خاصّة، تسمح بالتجسّس على جميع أنشطة المستخدمين.
وبحسب الوثائق، قامت خطّة السلطات في ميانمار على تجهيز جميع شركات الاتصالات الخاصّة دون استثناء بهذه البرامج، بهدف تحديد أماكن وجود الهواتف المحمولة، ومراقبة النشاطات على شبكة الانترنت، وصولًا إلى تسجيل نسخ عن الرسائل النصيّة وكلمات المرور والمكالمات الهاتفيّة.
كان من المفترض أن يتم إنجاز هذا المشروع في يونيو/حزيران 2021، فيما أشارت وكالة رويترز إلى أنّ السلطات في ميانمار قامت بالفعل بإجراء تجارب على تشغيل البرامج المشمولة بهذا المشروع. مع الإشارة إلى أنّ الشركة الإسرائيليّة خالفت بهذه الصفقة قرارات صادرة عن المحكمة العليا الإسرائيليّة منذ العام 2017، قضت بوقف الصادرات الدفاعيّة إلى ميانمار، لتلافي استعمالها في انتهاكات حقوق الإنسان.
في جميع الحالات، من المفترض أن ينظر المدعي العام الإسرائيلي في شكوى بهذا الشأن، تقدّم بها أكثر من 60 إسرائيليًّا، بينهم نشطاء وأكاديميون ورئيس سابق للبرلمان. وتعتبر الشكوى أن شركة كوغ نايت والمسؤولين الإسرائيليين الذي علموا بالصفقة ساعدوا بارتكاب جرائم ضد الإنسانيّة، من خلال تزويد سلطات ميانمار بأدوات لتعقّب نشاط المعارضين السياسيين.
على هذا النحو، تشابهت أنشطة رجال الأعمال الإسرائيليين واللبنانيين، في دعم الأنشطة القمعيّة في ميانمار، من خلال تزويد السلطات هناك بالتقنيّات اللازمة لتحويل قطاع الاتصالات إلى سلاح ضد المعارضة.
أمّا الإشكاليّة الأهم، فهي تمكّن هذه الشركات من عقد كل تلك الصفقات الخطرة، دون أن تواجه أية ضغوط وأية عقوبات في دول أخرى، وهذا ما يشير إلى تراجع اهتمام المجتمع الدولي بملفات حقوق الإنسان في ميانمار.
حق الرد – مجموعة M1
على الرّغم من أنّ الكاتب (علي نورالدّين) لم يدّعي بوضوح أنّ مجموعة M1 قد تكون متورّطة مباشرة أو غير مباشرة بـ”التّعاون مع شركة اتّصالات سلكيّة ولاسلكيّة إسرائيليّة” في ميانمار، نشعر أنّه أُشير إلى ذلك ضمنيًّا في العنوان وبين السّطور. وبالتّالي، نحن ننفي نفيًا قاطعًا، وندحض، ونرفض مثل هذه التّلميحات أو الاتّهامات.
وفي ما يتعلّق بعمليّات الاتّصالات السّلكيّة واللّاسلكيّة الخاصّة بشركة Investcom PTE Ltd. في ميانمار، نرغب في التّأكيد على أنّها ستبقى محايدة سياسيًّا وممتثلة للقانون، على الرّغم من استقطاب الأمّة وطبيعة النّظام الحاكم. لن تسهّل ATOM Myanmar طبعًا أو تسمح بطلبات و/أو معدّات التّنصّت غير القانونيّة، وستتصرّف دائمًا بطريقة قانونيّة وأخلاقيّة عند تثبيت تقنّيّة تنصّت قانونيّة و/أو استخدامها و/أو نقلها.
تستمرّ مجموعة M1 بمناصرة أنظمة حماية المستهلك، بخاصّة من حيث أمن البيانات ومرونتها، وخصوصيّة المستخدم، والاتّصال، والتّجوال، والاتّصال بالإنترنت، وغيرها.
وما يُفسَّر كـ”تاريخ طويل من العمل في قطاع الاتّصالات السّلكيّة واللّاسلكيّة في بلاد تحكمها أنظمة قمعيّة في ظلّ عقوبات خارجيّة” هو بالفعل أحد العناصر الّتي تميّز مجموعة M1 من حيث رضاها أو بالأحرى استعدادها، للعمل في أسواق تعتبرها شركات أخرى “عالية الخطورة” (غالبًا ما تكون شركات غربيّة متعدّدة الجنسيّات).
إنّ قرار هذه المجموعة الأساسيّ بأن تستثمر في قطاع الاتّصالات، كان وما زال مبنيًّا على أساس منطقيّ وهو أنّ القدرة على الاتّصال حقّ أساسيّ من حقوق الإنسان، وأنّ لكلّ فرد، في كلّ البلدان -من ضمنها ميانمار– وغيرها، حقّ الوصول إلى البنى التّحتيّة الضّروريّة الخاصّة بالاتّصالات السّلكيّة واللّاسلكيّة.
إنّ توفير خدمات الاتّصالات السّلكيّة واللّاسلكيّة الضّروريّة والمستقلّة؛ والاستثمار في بنى تحتيّة متطوّرة واتّصال متقدّم؛ أمور أساسيّة في دعم حقوق المستهلك، والنّموّ الاقتصاديّ، وتطوّر القطاع واستقراره، بالأخصّ في مناطق النّزاعات حول العالم.
أخيرًا، على الرّغم من أنّ المقال لم يدعو بوضوح إلى “فرض ضغوطات وعقوبات خارجيّة” على الشّركة/الشّركات المذكورة، نقدّر اعتراف الكاتب، حتّى ولو كان سرّيًّا، بأنّ “هذه الشّركات لم تخالف أيّ من العقوبات الدّوليّة المفروضة”. والأهمّ، أنّ مجموعة M1 وفروعها لن تسمح أبدًا بمخالفة قوانين العقوبات الدّوليّة أيًّا تكن، من ضمنها مسائل مثل: ملكيّة و/أو إدارة الشّركة من قِبَل أشخاص و/أو شركاء مزعومين يخضعون لعقوبات؛ والتّمويل؛ وغيرها.