وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

نهلة عثمان: الاتجار بالعاطفة بصفتها سلعة إخبارية

نهلة
صورة تم التقاطها يوم ١٢ نوفمبر ٢٠٢٠ لأطفال سوريين تم تهجيرهم من بلدة رأس العين الحدودية التي تديرها تركيا والفصائل السورية التابعة لها، وسط أحبال الغسيل الموجودة بين الخيم في مخيم واشوكاني شمال شرق محافظة الحسكة السورية. المصدر: Delil SOULEIMAN / AFP.

نور عباس

تناقلت المواقع والصفحات الإخبارية في الأيام الأخيرة خبر وفاة الطفلة المُكبلة نهلة عثمان، وهو خبرٌ يندى له جبين الإنسانية بتفاصيله المريرة. ورغم التعاطف الكبير التي أحدثه خبر وفاة الطفلة نهلة بوصفه حدثًا فرديًا، فإنّ كلّ ما انتهت الأمور إليه كان التحقيق مع والدها.. المخيمات ستبقى مخيمات، وانتهاكات حقوق الأطفال فيها ستستمر، فنحن الآن فرغنا من المؤثرين الكبار في زمن الأحداث الكبيرة.

لا يمكن اعتبار وفاة الطفلة نهلة وفاةً فردية، بل هي وفاةً جماعية بدأت بنهلة وستلاحق كل أطفال المخيمات الذين قد يتعرضون لنفس ظروف نهلة. وفي مقابل ذلك، ربما ستتم محاسبة أفرادًا جناة، وسيكتسب كلٌ من المتعاطفين والمُحاسبين صورةً إنسانية يصنعها لهم العوام بفضل الإعلام، فقد تحولت مأساتنا إلى سلعةٍ إعلامية يشتريها المستفيدون ونقوم نحن بدعمها. وتحول مواطنونا إلى مُستهلكين للأخبار لا أفرادًا قادرين على التغيير أو المطالبة بقوانين جديدة.

من الجلي أننا قد وقعنا عربيًا في “فقاعة بينتون”، منذ أعوام وهو مصطلحٌ كانت قد أطلقته نورينا هرتس في كتابها “السيطرة الصامتة” تعليقا عمّا قامت به شركة بينتون الإيطالية عندما وضعت الشركة إعلاناتَ عملاقةً في كل مكان، بينها صورة طفلٍ أسود جائع في لحظة احتضاره من مرض الإيدز، وإعلاناتَ أخرى لجندي بوسني ملطخ بدماء الحرب، وبروشورات وزعتها تخص التنديد بحكم الإعدام. وعلى حد تعبير الكاتبة، فإن هذه الإعلانات الصادمة لم تحاول التخفيف من الفقر، أو محاربة الأمراض، أو إلغاء عقوبة الإعدام، بل هدفت إلى إفراغ جيوب العملاء عبر تزييف ذاكرة العميل الوجدانية والبصرية. فبات الأمر يبدو وكأنّ الشراء من بينتون سيشفي الطفل في إعلاناتها الطرقية!… وهذا تحديدًا ما نعاني منه في عالمنا العربي وإعلامنا العربي المُنحاز لمموليه على حدٍ سواء. فقد ندعمُ فيلمًا يتحدث عن طفلٍ سوري لاجئ وفقير، ليحصد أعلى ايرادات تحصل عليها أي فيلم عربي، ايراداتٌ تكفي اللاجئين العوز، وتحقق ربما أحلام الطفل في الفيلم ذاته، إلا أنّنا لم ندعم اللاجئين حقًا، الأمر الذي ينطبق على وفاة نهلة، سيحاسبُ جانٍ واحدٌ، بينما سيموت المزيد من الأطفال، لتعاود الأخبار الظهور مجددًا، ولتكسب ذات التأييد والحنق الشعبي.. إلا أننا لن نغير شيئًا بعاطفةٍ مُسّلعة ومؤقتة وردود فعل تطالب بمحاسبة الجناة لا بسدّ الطرق عن الجناة القادمين، وباستحداث قوانينَ ترعاها مؤسسات فاعلة، ولأن المأساة لا تعود مأساةً بتكرارها، بل قد تتحول إلى نمط حياة بالنسبة لمن يعيشها، فبات بعض مواطنو الدول العربية التي تعاني من الحروب أو من آثارها عاجزين عن التعاطف حتى مع مأساتهم. وقد تفسر الأبحاث الأخيرة بعلم النفس ما يحدث حقًا. فعلى عكس المتوقع، البشرُ أقل تعاطفًا مع الأشخاص الذين يمرون بتجاربَ سبق وأن مروا بها، وأكثر تعاطفًا مع أشخاصٍ يمرون بتجارب مختلفة، حتى وإن كانت معاناتهم أقل بمراحل. إلا أن هذه الأبحاث تبقى مدروسةً على مستويات فرديةٍ ولا يُمكن تعميمها لتشمل ردود الأفعال المجتمعية على الحدث أو ما على ما يترتب عليه! وقد يتعدى الأمر ذلك حتى وقوع البعض في فخ لوم الضحية أو لوم الذات، الأمر الذي ينبئ بكارثةٍ في الوعي الاجتماعي في هذه الدول.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.