وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أول مقهى عمومي في التاريخ

مقهى تونس
صورة تم التقاطها يوم ٢ فبراير ٢٠١١ لتونسية وهي تشرب القهوة في بار يتواجد وسط العاصمة تونس. المصدر: FETHI BELAID/ AFP.

حكيم المرزوقي

ما زالت القهوة – مثل لونها – كلمة آسرة، شرابا وفضاء وثقافة لدى كل الشعوب التي عرفت وحمّصت وطحنت هذه الحبيبات الساحرة التي اكتشفها الرعاة مع قطعانهم في بوادي اليمن والحبشة.

أحيط هذا المشروب الساخن القاتم بهالة من الغموض والقصص المشوّقة.. وحتى الحزينة والمفجعة الممتدّة من الأيادي السمراء النحيلة التي أدماها القطاف إلى تلك التي توقّع على بياض الفناجين أخطر الصفقات في الغرف المغلقة.

اختلف في مذاق القهوة واستعاراتها المجازية العشاق والشعراء والعرّافات وأبطال السلم والحرب، فهي العذبة تحت شفاه المحبين، الدافئة في خيام الاستقبال لدى عرب البادية، والباردة على طاولات السأم والانتظار، وهي مرّة في المآتم وعصيّة الارتشاف في ساعات الغضب والثأر وتحت طبول الحرب.

فناجين القهوة مخطوط غامض السطور، تتسلّى بقراءته نساء الشرق الحائر في الصالونات. تمتهنه الغجريات ويعدّ به العاطلون والمعطّلون ما مضى من العمر على أنغام رائعة عبد الحليم حافظ (قارئة الفنجان) التي كتبها الدمشقي المدلل نزار قباني.

لفناجين القهوة لدى التونسيين قصة غريبة ونادرة، إذ يضعونها بين أعينهم ويقسمون بها في المجالس قائلين «ورأس ها الشاذليّة»، وذلك نسبة إلى العالم الصوفي المعروف أبي الحسن الشاذلي (1196 ـ 1258). وتعتبر هذه الطريقة من أبرز الطرق الصوفية المنتشرة في النطاق العربي. والشاذلي أوّل من جلب مادة القهوة من اليمن، وعرّف بها بين مريديه الذين يتناولونها في حلقات الذكر عندما كانوا يقيمون الليل وذلك طردا للنعاس وطلبا للنشاط في زاويته المقامة على ربوة خارج سور المدينة. وما زال الناس إلى حدّ الساعة يصحبون معهم أباريق القهوة ويصعدون إلى زاويته التي كانت في الأصل مغارة يتعبّد فيها أحد الرهبان المسيحيين.. إنها أول مقهى عمومي في التاريخ.

أمّا المفارقة الطريفة، فتتمثّل بإقلاع أحد أكبر شيوخ الطريقة الشاذلية في تونس عن القهوة وهو إبراهيم الرياحي. وحين سألوه عن السبب أجاب «تركتها للعوام حين رأيتها تنزل من عليائها ويتناولها السفهاء”.

ومع ذلك، فعلتها وارتشفت قهوتي هذا الصباح في أعلى التلّة عند مغارة الراهب القدّيس ومن بعده مقام الوليّ الصالح الذي تتسلّقه القبور شوقا وقد تركت خلفها المنازل والأسواق والأحقاد الصغيرة. كان السكون سيد المكان وكان مذاق القهوة أشهى من أي وقت مضى.

تحادثت مع من تبقّى من الأهل والأنسباء الذين تركتهم في الشام منذ أعوام، وتقاسمنا القهوة عبر الهاتف الذي تهزّه في كل مرّة أصوات القذائف وأزيز الرصاص.

أيتها القهوة التي تعطّرت بأنفاس هذا الشيخ الجليل ومريديه المخلصين، عمّدي كلّ الشفاه التي تحطّ فوقك هذه اللحظة بروح المحبّة والسلام ولا تكوني فاتحة للضغائن والدسائس والحروب. عودي إلى صباح أهل الشام أنسا ووئاما وهم الذين أضافوا إليك القليل من حبّات «الهيل» والكثير…الكثير من البهجة وحب الحياة.

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.