وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

غسان كنفاني وأنسنة القضية الفلسطينية

كنفاني وأنسنة القضية الفلسطينية
صورة تم التقاطها عام ١٩٧١ لمعرض دار الفن في بيروت ويظهر فيها (من اليمين إلى اليسار): الروائية اللبنانية إيميلي نصر الله، رئيس نادي القلم في بيروت والكاتب والباحث جميل جبر، والروائي حليم بركات، والروائي الفلسطيني الراحل غسان كنفاني، والروائي اللبناني يوسف حبشي الأشقر. ومنذ بداية خمسينيات القرن الماضي حتى اندلاع الحرب الأهلية اللبنانية عام ١٩٧٥، كانت بيروت تعتبر العاصمة الثقافية للعالم العربي حيث لجأ إليها عددٌ لا يحصى من مفكري الدول المجاورة للتعبير عن أفكارهم بحرية في مناخ تعددي، وكان السبب في هذا اللجوء ما كانوا يعانوا منه من قيود سياسية في بلدانهم. المصدر: AFP.

يوسف شرقاوي

جعل غسان القضية الفلسطينية تخصّ البشرية كلها

يولَد الفلسطيني مُداناً بحاضر فجائعي لا يخصّه. بل هو منفيٌّ فيه غصباً عنه. أما البقية من الآدميين فيولدون ولهم حاضرهم الخاص، دون ذلك الصراع بين نقيضي: إثبات الوجود ونفيه.

ينبثق الفلسطيني إلى دنياه من رحم فاجعة، كارثة، تأسره من فورها في مساحةٍ بحجم خرم الإبرة ليثبت فيها أحقيّته بالوجود.

بقي الأمر على هذا النحو إلى أن خرج لنا رجلٌ من غارٍ خاص اسمه غسان كنفاني. هذا الرجل أخضع التاريخ للمحاكمة وأدانه، لا كعدوان فحسب، وإنما كخضوع. وتلك المحاكمة تراجيدية في كليتها.

لقد أثبت كنفاني أنّ القضية الفلسطينية لا يتيسر النهوض بها إلى أعلى ذروة ممكنة، ولا دفعها إلى أقصى مدى، إلا من خلال التراجيديا؛ المأساة. فالقضية نفسها قضية مأساوية، محكومة بفجائعيتها.

إنها ليست كمأساة المسرح الإغريقي تأتي نتيجة قدرٍ لا عقلاني، ولا مثل المأساة الشيكسبيرية تولد من اضطراب في سلوك الإنسان. بل هي تُسقِط إنسانها وتطوّح به وتنفيه، فقط لتاريخه الذي يحمله، لشرطه التاريخي المفروض. وتحتّم عليه انعدام شروطه الوجودية، ألا يكون هناك وجوب لفعلٍ يقوم به، حيث تغرقه في دوّامة تحاول إجباره فيها على القناعة بلا فعاليته وانعدام جدواه. ذلك هو الإنسان الفلسطيني.

لقد أدرك غسان ذلك منذ البدء، فوضع التاريخ خلف قضبان، ليحاكمه، وليقتصّ منه. استطاع أن يحفر في تربة الزمن عميقاً جداً، وأن يصنع حالة – لم يسبق لها مثيل – للإنسانيّة، لذاكرة الإنسانيّة.

إنها حالة معجونة على نحوٍ غرائبي، حيث بدأ الرجل في بناء شخصيات محكومة بعطالتها وانتفاء فعاليتها. وهو يدينها كما يدين التاريخ الذي منحها هذه الكينونة العاطلة. نرى ذلك في روايته الأولى “رجال في الشمس”، وفي سؤالها الأخير الذي يصدر كالصرخة في وجه البشرية: “لماذا لم تدقوا جدران الخزان؟ لماذا لم تقرعوا جدران الخزان؟ لماذا؟ لماذا؟ لماذا؟” (٢).

ثمّة انهزامٌ غريب؛ انهزام ثائر، يريد التحرك إلى أي مكان للانفجار. انهزام يريد أن يغيّر من شروطه التاريخية ليصنع كينونة وجوهراً جديدين.

إنّ غسان يطال حركة الإنسان (جملة سلوكاته) لا بوصفها مصيراً فحسب، بل من حيث هي تحديد للماهية، أو: من حيث هي هويّة.

المصير والهوية متماثلان: أن يموت إنسان في خزان يعني أنه هشّ البناء؛ ساكن. أما أن يموت في المعركة، فيعني أنه ممتلئ بالصلابة. المصير هوية، والهوية مصير. كان غسان يدرك ذلك. لذا، لجأ للتراجيدي، للمأساوي، حيث يحدد الهوية مثلما يحدد المصير.

كان أدب غسان على ارتباطٍ وثيق بالظروف التاريخية المتغيرة. فأثناء فترة العجز الفلسطيني، كتب عن شخصيات غارقة في عطالتها. أما عند بدء الحراك، فقد أنشأ نوعاً من التقابل المتلاحم في روايته “ما تبقى لكم” (٣). ورغم أنه لم يكن سخيّ التفاؤل، إلا أنه لم يكن سخيَّ اليأس. لذلك، ترك القوتين المتصارعتين “الجلاد والضحية” بلا مصير معروف. ولم يتنبأ بهزيمة أو انتصار.

هنا، بدأت شخصياته لا تختار الفرار، بل ترى في تمزيق الحدود حلاً لتمزّقها الداخلي. ينفلت اللاجئ الفلسطيني في هذه الرواية من ماضيه نحو مستقبله، أو من جحيمه (اللجوء أو المخيم) إلى مطهره. وينتهي صراع التضاد في الرواية بانتصار الطهر على الدنس.

في المرحلة الثالثة، أبرز غسان الانقلاب الكبير الذي طرأ على الحياة الفلسطينية بعد نشوب المقاومة. فقدّم رواية “أم سعد” (٤). الأم الفلسطينية التي تشبه إلى حدٍ كبير الأم عند غوركي (٥) في واقعيته الاشتراكية. وكانت نموذج الشخصية التي تجد على الفور مكاناً لها في وجدان قارئها، حيث لا يستطيع إلا أن يتعاطف معها.

كان غسان قادراً، عبر محاكمته للتاريخ، على أن يمدّ الذاكرة الفلسطينية القادمة بفاعلية، وبأداة تعبير، بجوهر وكينونة خاصة وماهية، عبر الوجدان التراجيدي الأصيل الذي يتمتع به. ويتألف من كبرياء مريرة أشقت صاحبها ولم تسعده. كبرياء غاضبة يمازجها حزنٌ غامض وحساسية مفرطة، حيث يبيع الإنسان كل حياته من أجل لحظة كرامة واحدة. كذلك، لم يستخدم غسان الهزات الرومانتيكية العاطفية، في تصوير أبطال خارقين ومثاليين. إنما قال للعالم كلّه إنّ هذا الإنسان الذي اقتُلِع من بيته وأرضه يحتاج يداً كونيّة تعطف عليه.

لقد أسبغ على الأشياء والجمادات صفات إنسانية. حمّلها مأساتها، فأنسن خيمة اللجوء التي يزيلها هواء المنفى من جذورها. أنسن أوتادها التي تطير عند العواصف. أنسن كرت المؤن الذي يذل ويجرح كرامة الفلسطيني. أنسن الخبز اليومي والحجر والشجر والصور المعلقة على الجدران. بكلمات أخرى: لقد أنسن الهزيمة، أنسن نكبة ١٩٤٨، وجعل لكلّ ذلك ذاكرة.

بعيداً عن فكرة الإدانة التي بقيت تلاحق شخصياته الروائية الأولى، وهي على علاقة بعقدة الذنب، ثم استطاع أن يتخلص منهما بعد تغير الظروف التاريخية، فإنّ شخصياته القصصية لها خاصيّة جوهرية تتلخص في النبل والسمو والرفعة. ولكنها أيضاً غارقة في مأساتها وإدانتها الزمنية، إذ: ليس لها حاضر، إلا النفي. وهي تحاول استعادة كيانها البشريّ لا بالبحث عن زمنها المسروق وحده، بل ومكانها وقراها ومدنها، أي: باستعادة المكان، فلسطين.

إنه حليف الأوجاع، أوجاع الماضي الحاضر – إذ ليس للفلسطيني حاضر سوى ماضيه. وقد استطاع الرجل الشهيد أن يجعل ما يخصّ شعباً بعينه يخص البشرية جمعاء. لقد فلسف العالم الذي ليس للفلسطيني حصّة فيه، فقد سرقوا حصته. فلسفه وأحال النسبيّ فيه إلى مطلق. لقد أنسن كل التفاصيل التي تتّصل بالفاجعة الفلسطينيّة، وأوصلها إلى العالم، وهو يصرخ: لماذا؟ لماذا؟ لماذا

 

المصادر

اليوسف، يوسف. رعشة المأساة، مقالات في أدب غسان كنفاني. دار كنعان، ٢٠٠٤.
المصدر: https://www.goodreads.com/book/show/28178833

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.