وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

انفجار بيروت: خلافات بين القضاة، والعدالة طي النسيان

الآن، يبدو أن العدالة في قضية انفجار بيروت لا تزال طي النسيان.

انفجار بيروت
متظاهرون لبنانيون يرفعون لافتات تطالب بإزالة المدعي العام غسان عويدات ومحاسبته على تفجير الميناء عام 2020 ، خلال تجمع حاشد في العاصمة بيروت في 28 يناير 2023. انور عمرو / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

احتشدت عائلات ضحايا انفجار مرفأ بيروت في 26 يناير الماضي، دعمًا لقاضي التحقيق الرئيس في انفجار المرفأ طارق بيطار الذي استأنف عمله بعد توقف دام 13 شهرًا.

بعد أكثر من عام من المعارضة السياسية الشديدة، تحدّى بيطار نخبة لبنان الحاكمة ووجّه اتهامات لعدد من الشخصيات السياسية والأمنية والقضائية النافذة. وكان من بين تلك الشخصيات غسان عويدات، النائب العام لدى محكمة التمييز، وعباس إبراهيم، مدير عام الأمن العام، وطوني صليبا، مدير عام أمن الدولة، لتورطهم في الانفجار. بالإضافة إلى جان قهوجي، قائد الجيش السابق ، لكن من دون تحديد الاتهامات، بحسب مسؤولين قضائيين.

وردًا على ذلك، اتهم عويدات بيطار بممارسة مهام مخالفة لواجباته الوظيفية و”اغتصاب السلطة”، وقرر إطلاق جميع الموقوفين على ذمة القضية ومنعهم والقاضي بيطار من السفر.

وقد استُدعي بيطار للاستجواب يوم الخميس الماضي، لكنه رفض المثول أمام عويدات.

وقد تظاهرت مجموعة من النشطاء وأعضاء المجتمع المدني والمحامين دعمًا لبيطار في قصر العدل في بيروت. وجدير بالذكر أن عائلات الضحايا تطالب بإجراء تحقيق عادل وشامل منذ وقوع المأساة التي أسفرت عن مقتل أكثر من 200 شخص وإصابة الآلاف بعد انفجار أطنان من نترات الأمونيوم في أحياء بيروت في 4 أغسطس 2020.

ووفقًا للوكالة الوطنية اللبنانية للإعلام، فقد اشتبك المتظاهرون مع شرطة مكافحة الشغب في أثناء محاولتهم اقتحام قصر العدل. ورغم أصوات العائلات الداعمة بيطار منذ توليه مهمة التحقيق في القضية، فإنها لم تشهد أي تقدم يُذكر.

ويرى الخبراء القانونيون الآن أن المحاكم تشهد “انقلابًا”، وأن بيطار سوف يُستبعد من مهمة التحقيق في القضية نتيجةً لذلك.

ماذا يحدث؟

وجّه فادي صوان، أول قاض تحقيق في قضية الانفجار، اتهامات بالإهمال الجنائي لثلاثة وزراء سابقين، علاوة على رئيس الوزراء السابق حسّان دياب. لكن المحكمة العليا نحّته قبل استكمال مهمته.

ويُذكر أن القاضي سهيل عبود، رئيس مجلس القضاء الأعلى اللبناني، قد صرّح في نوفمبر الماضي أن التدخل السياسي في الشؤون القضائية تسبب في فوضى تحتاج في حلّها إلى “ثورة في المقاربات”، وذلك بحسب رويترز.

تسلّم بيطار مهمة التحقيق في الانفجار بعد تنحية صوان، لكن التحقيق أُوقف بعد توجيه وابل من الدعاوى القضائية ضده. فقد رأت محكمة التمييز اللبنانية وجوب ملء بعض المناصب القضائية الشاغرة أولًا، الأمر الذي أدّى سابقًا إلى تعطيل التحقيق فترة طويلة، إضافة إلى ضرورة موافقة وزيري العدل والمالية على التشكيلات القضائية.

كما شنّ حزب الله المدعوم من إيران وحلفاؤه حملة على بيطار، متهمين إياه بالتحيز، وطالبوا بإقالته.

وفي 23 يناير الماضي، استأنف بيطار عمله وادّعى على ثمانية من المشتبه بهم آخرين. وصرّح مصدر مقرّب إليه لوكالة فرانس برس أن بيطار “مقتنع بضرورة محاسبة المسؤولين وإتمام مهمته”.

وخمّن البعض أن هناك أيادي أجنبية تتدخل في القضية، لكنهم لم يقدّموا دليلًا قويًا على ذلك.

فقد ذكر موقع نهار نت اللبناني أن مسؤولًا أمنيًا كبيرًا زعم أن الولايات المتحدة ضغطت، في قضية المرفأ، على القضاء اللبناني لإطلاق سراح الموقوف الأمريكي اللبناني ، محمد زياد العوف رئيس مصلحة الأمن والسلامة في المرفأ.

وأضاف المصدر أنه إذا لم يمتثل بيطار وعويدات وقاض آخر كبير للمطالب الأمريكية، فسوف تُفرض عقوبات عليهم.

ويُذكر أن الولايات المتحدة قد سبق وهددت لبنان بفرض العقوبات إذا لم يُطلق سراح عوف، وذلك لكونه بقىي رهن الاحتجاز دون محاكمة لنحو عامين ونصف.

وفي الأسبوع السابق لاستئناف القضية، التقى بيطار قاضيين فرنسيين لمناقشة تحقيقاته. ويُزعم أنهما حثّا بيطار على استئناف عمله بحجة أن احتجاز المشتبه بهم دون محاكمة يُعد انتهاكًا لحقوق الإنسان.

حزن لا ينقطع

مع وقوع اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن أمام وزارة العدل في 23 يناير الماضي، التقى عضوا مجلس النواب اللبناني، وضاح الصادق وملحم خلف وزير العدل المؤقت هنري الخوري وطالباه بالتحرك ردًّا على الخلافات القضائية بين عويدات وبيطار.

وبحسب ما ورد في وسائل إعلام محلية، فقد تعرّض النائبان للاعتداء على أيدي حرّاس الوزير وحاولوا كذلك مصادرة هاتفيهما.

وهذه الاشتباكات أمام قصر العدل ليست بالأمر الجديد. ففي مطلع يناير الماضي، استدعت الشرطة القضائية في بيروت وليام نون وبيتر بو صعب ووالده للاستجواب. وبحسب ما ورد، فقد احتُجزوا للاشتباه بتورطهم في أعمال شغب وتخريب واقتحام مكاتب قصر العدل.

وجدير بالذكر أنهما شقيقا جو نون وجو بو صعب، رجلي فوج الإطفاء اللذين قضيا نحبهما في انفجار المرفأ. وقد اشتبكا مع أفراد الأمن وهما يحاولان اقتحام قصر العدل مع عائلات أخرى في 10 يناير الماضي للمطالبة باستئناف التحقيق المتوقف.

وقد قُبض على وليام نون واحتُجز ليوم واحد، وداهمت قوات أمن الدولة بيت عائلته على خلفية اتهامه بتحطيم نوافذ قصر العدل خلال الاحتجاجات. وتلقّت 13 عائلة أخرى استدعاءات إضافية من قبل جهاز أمن الدولة.

وأيد المواطنون وأعضاء مجلس النواب الأفراد الموقوفين الذين أُطلق سراحهم بعد توقيعهم على تعهد “بعدم تكرار ما فعلوه“.

وفقاً لصحيفة لوريان توداي، مُسحت بعض صور ضحايا الانفجار بمدافع الماء بعد يومين من اعتقال نون. وكانت الجداريات التي رسمها الفنان “بريدي ذا بلاك” في ذكرى مرور تسعة أشهر على الانفجار بمثابة التكريم البصري الوحيد لمئات الأرواح التي لقيت حتفها.

“وصرّح محيي الدين لاذقاني، أحد أفراد عائلات الضحايا، لفنك: “هذه الخطوة لن تردعنا، فصور أحبائنا ما تزال محفورة في قلوبنا”.

وأضاف: “أما التوقيفات والاعتقالات، فقد جاءت بنتائج عكسية. لأن ترهيبنا لم يزدنا إلا عزمًا على الكفاح”.

المعركة القضائية

ما يزال القاضي بيطار هو المحقق العدلي الرئيس في القضية إلى الآن. ويرى أستاذ القانون العام علي مراد أن بيطار ربما يكون قد اتخذ هذا الإجراء غير العادي كي “يضرب النظام بقوة قبل تنحيته”.

وأضاف لفنك: “لا أحسب أنّ القاضي بيطار أقدم على هذه الخطوة لأنّه محميّ من أطراف خارجية. فبمجرد استبداله، فسوف يحتاج القاضي الجديد إلى أربع سنوات أخرى لاستئناف التحقيق”.

ويرى مراد أن المؤسستين القضائية والسياسية تتبنيان هذه الاستراتيجية لكسب مزيد من الوقت وتعطيل مهمة تقصّي الحقائق لتجنب المساءلة.

وحتى إذا كانت المسؤولية في يد الحكومة حاليًا، فإن مراد يتوقع أن ميزان القوى سيتغير في نهاية المطاف.

وأوضح: “في ظل الوضع الاقتصادي الراهن، فإن اللبنانيين سيردّون بلا شك”.

يرى المحامي الخبير جاد طعمه أن خطوة بيطار الأخيرة قد تعرّضه لخطر أكبر. فقد ورد أن بيطار تلقّى رسالة تهديد من وفيق صفا، مسؤول وحدة الارتباط والتنسيق في حزب الله، في 21 سبتمبر 2021، قال فيها: “واصلة معنا منك للمنخار، رح نمشي معك للآخر بالمسار القانوني وإذا ما مشي الحال رح نقبعك (نزيحك)”.

ومع ذلك، يوصي طعمه الجمهور بانتظار رؤية الحقائق التي استخدمها القاضي لدعم قراره بملاحقة عويدات حتى نرى ما إذا كان القرار مبررًا أم انتقاميًا فحسب.

وأضاف لفنك: “من المهم أن نأخذ في اعتبارنا أن قرار بيطار بتحمل المسؤولية كاملة عن مثل هذه الأعمال الخطِرة قد يشكّل سابقة مؤذية للقاضي الذي سيخلفه”. وتابع: “ربما لا يمتثل خليفته للقيم نفسها، لكنه قد يقرر التصرف بطريقة مثيرة للجدل ستصب في مصلحة المؤسسة السياسية بدلًا من الشعب”.

غير مسبوق وغير متوقع

ويرى طعمه أن المعلومات الإضافية مطلوبة لتحديد مدى صحة حديثه إلى القاضيين الفرنسيين وسبب استئنافه التحقيق.

كما يعتبر هجوم بيطار على المؤسسة السياسية بمثابة تحذير لهم بأنه قد اقترب وقت مثولهم أمام القضاء، سواءً الآن أو في المستقبل..

ويتفق طعمه ومراد على أن لبنان يقف عند نقطة تحول حيث يمكن أن تندلع الاضطرابات في أي وقت.

فخلال الأسبوع نفسه الذي تم فيه الطعن بالقضية، تدنّت قيمة الليرة اللبنانية إلى أقل مستوياتها بقيمة 60 ألف ليرة مقابل الدولار، بدلًا من 45 ألف ليرة في الأسبوع السابق.

وقال مراد: “قاوم الشعب اللبناني قوى احتلال شكّلت عائقًا أكبر من هذا، بما في ذلك الاحتلال الإسرائيلي والسوري، وهذه الطبقة الحاكمة مصيرها إلى الرحيل”.

ويرى طعمه أن المواجهة التي انخرط فيها بيطار تشبه نضال ثورة 17 تشرين الأول.

وأشار طعمه إلى أنه “رغم كونها محاولة جريئة وغير مسبوقة في لبنان للكشف عن خيوط إجرامية، فإننا يجب أن ننتظر ونرى ما سيحدث لأننا نعجز عن التنبؤ بالمستقبل. ومع ذلك، فإن أمن لبنان على حافة الهاوية”.

من جانبه، صرّح عويدات أن ضحايا الانفجار “مش أول ناس ماتوا، في كتير عالم ماتت بلبنان على مدى الأيام”. أما بيطار، فقد أكّد على أنه “لن يترك القضية حتى صدور الاتهامات”.

وفي محاولة لضمان تحقيق عادل في قضية انفجار مرفأ بيروت، دعا عدد من النواب وأقارب الضحايا إلى إجراء تحقيق دولي.

بالإضافة إلى ذلك، حثّت منظمة العفو الدولية وهيومن رايتس ووتش مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة في 27 يناير الماضي على “إصدار قرار طارئ لإنشاء بعثة محايدة لتقصي الحقائق في انفجار مرفأ بيروت”.

وما زلنا ننتظر لنرى إذا كانت دعوتهما ستُستجاب مع مطالب أهالي الضحايا. أما الآن، فيبدو أن العدالة لا تزال طي النسيان.