وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مطالب البرلمان الكويتي المكلفة تطيح بالحكومة

رغم أهميّة الحفاظ على حيويّة عمل البرلمان الكويتي، من الواضح أن هذا التأزّم السياسي خلال السنوات الثلاث الماضية بلغ حد ضرب استقرار السياسات العامّة، والحد من قدرة الحكومات على وضع خطط استراتيجيّة ومستدامة على المدى الطويل.

مطالب البرلمان الكويتي
نواب كويتيون يحضرون جلسة برلمانية في مجلس الأمة في مدينة الكويت في 25 يناير 2023. ياسر الزيات / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

في 23 يناير/كانون الثاني 2023، أعلنت الحكومة الكويتيّة تقديم استقالتها لولي عهد البلاد. هكذا انتهت مسيرة سادس حكومة عرفتها الكويت خلال السنوات الثلاث المنصرمة، وثالث حكومة يشكّلها نجل أمير الكويت أحمد نوّاف الأحمد آل صباح منذ أغسطس/آب 2022.

وبذلك تكون هذه الحكومة قد فشلت في أن تستمر بالعمل لأكثر من مئة يوم، بعدما كانت قد صدرت مراسيم تشكيلها في منتصف أكتوبر/تشرين الأوّل 2022.

تشنّج سياسي طويل الأمد

خلال السنوات الماضية، دلّ قصر عمر الحكومات الكويتيّة وسرعة تبدّلها على مستوى التشنّج الذي حكم علاقة السلطة التشريعيّة بالحكومات بشكل دائم، الأمر الذي أدّى إلى أزمات سياسيّة متكرّرة. وهذا تحديدًا ما أدّى أيضًا إلى حلّ البرلمان في شهر أغسطس/آب 2022، في محاولة للخروج من دوّامة هذه الأزمات، عبر الاحتكام للشعب وانتخاب برلمان جديد.

كل هذه التطوّرات، تعكس بوضوح الحيويّة السياسيّة التي تتمتّع بها الكويت، وخصوصًا على مستوى الحياة البرلمانيّة النشطة. كما يعكس هذا الواقع انفتاح البلاد على مبدأ التعدديّة، وقدرة التيّارات السياسيّة المتنوّعة على لعب دور كبير داخل المؤسسات الدستوريّة. وهذا ما يميّز الكويت عن سائر الأنظمة الخليجيّة الملكيّة المجاورة، التي لا تشهد كل هذا الصخب في حياتها السياسيّة.

لكن في المقلب الآخر، ورغم أهميّة الحفاظ على حيويّة عمل البرلمان الكويتي، من الواضح أن هذا التأزّم السياسي خلال السنوات الثلاث الماضية بلغ حد ضرب استقرار السياسات العامّة، والحد من قدرة الحكومات على وضع خطط استراتيجيّة ومستدامة على المدى الطويل. كما بات هذا المشهد يؤثّر على قدرة البلاد على منافسة جيرانها في المنطقة، وخصوصًا قطر والإمارات العربيّة المتحدة والمملكة العربيّة السعوديّة، من ناحية التنمية الاقتصاديّة واستقطاب الاستثمارات الخارجيّة.

وفي الوقت نفسه، تتزايد المؤشّرات التي تدل على أنّ جزءًا أساسيًّا من هذه الأزمات بات يرتبط بشعبويّة مطالب التيّارات والشخصيّات السياسيّة المتمثّلة في البرلمان، التي تحاول فرض مطالب مكلفة ماليًا، وغير مجدية اقتصاديًا بالنسبة للدولة، لمجرّد تحصيل نقاط إضافيّة على المستوى الشعبي.

في المقابل، تتوسّع الهوّة والخلافات بين هذه المطالب من جهة، وسياسات الحكومات الكويتيّة المتعاقبة من جهة أخرى، التي تعطي اهتمامًا أكبر للحسابات المرتبطة بتوازن الماليّة العامّة والاستقرار الاقتصادي. وهذا النوع من الخلافات هو تحديدًا ما أدّى إلى استقالة الحكومة الأخيرة.

تجدرُ الإشارة إلى أنّ توسّع الفوائض الماليّة، نتيجة ارتفاع أسعار النفط العالميّة، مثّل سببًا أساسيًّا لتنامي هذا النوع من الأزمات. إذ بدأت الشخصيّات والتيّارات السياسيّة الموجودة في البرلمان ترفع من سقف مطالبها بشكل غير منطقي، لإنفاق هذه الفوائض على خدمات وتقديمات لا تملك قيمة اقتصاديّة أو مجتمعيّة مضافة، ولا تتسم بالعدالة الاجتماعيّة، بهدف إرضاء القواعد الانتخابيّة بقرارات استعراضيّة على المدى القصير جدًا.

نلفت أيضًا إلى أنّ الكويت تمثّل عاشر أكبر منتج للنفط في العالم، بإنتاج يومي يتجاوز ال2.8 مليون برميل يوميًّا. ولهذا السبب، حقق الناتج المحلّي الإجمالي الكويتي نموًا خلال العام الماضي بنسبة 8.7%، كما انخفض معدّل الدين الحكومي للناتج المحلّي إلى أقل من 7%، وهو معدل منخفض للغاية مقارنة بالغالبيّة الساحقة من دول العالم. مع العلم أنّ عجز الموازنة الكويتيّة انخفض بنسبة 72% خلال العام 2022، نتيجة ارتفاع العائدات البتروليّة، ما يفسّر تنامي مطالب البرلمان الماليّة.

الأزمة الجديدة: مثال عن شعبويّة البرلمان الكويتي

بعد الانتخابات التشريعيّة المبكرة في أواخر سبتمر/أيلول الماضي، التي تلت حلّ البرلمان السابق، حققت المعارضة تقدّمًا كبيرًا بحصولها على 60% من مقاعد البرلمان الجديد. بعد الانتخابات التشريعيّة، بقي الأمير أحمد نوّاب الأحمد آل صباح في منصبه كرئيس للحكومة، إلا أنّه حاول فتح صفحة جديدة مع المعارضة واسترضاء البرلمان، بتشكيل حكومة طغت عليها الوجوه الجديدة التي لم تتمثّل في الحكومات السابقة.

ومع ذلك، سرعان ما عادت الأمور لتتفجّر من جديد بين الحكومة والبرلمان، حين أقرّت اللجنة الماليّة في البرلمان في منتصف ديسمبر/كانون الأوّل 2022 مقترحًا يقضي “بشراء الدولة لمديونيّات المواطنين المتعلّقة بالقروض الشخصيّة والاستهلاكيّة”. وبموجب هذا المقترح، يفترض أن تسدد الدولة كل هذه الديون المترتبة على المواطنين لمصلحة المصارف، على أن يسدد المواطنون هذه الديون لاحقًا للدولة بعد إعادة جدولة القروض على فترات طويلة، بدون فوائد وبدفعات ميسّرة.

كما ينص المقترح على أن تدفع الدولة للمواطنين دفعات ماليّة شهريّة في المستقبل، كبدل غلاء معيشة، بهدف مساعدتهم على سداد هذه القروض لمصلحة الدولة نفسها. وبهذا الشكل، ستكون الدولة قد أسقطت عمليًا الجزء الأكبر من القروض الاستهلاكيّة والشخصيّة عن كاهل المواطنين.

وفي اليوم نفسه، أقرّت اللجنة الماليّة قوانين أخرى مكلفة ماليًّا، من قبيل إنشاء شركة جديدة لشراء وتسويق المنتجات الزراعيّة، وزيادة الرواتب التقاعديّة لبعض شرائح المتقاعدين، بالإضافة إلى تحويل مؤسسة الخطوط الجويّة الكويتيّة إلى ناقل وطني مملوك كليًّا من قبل الدولة.

سرعان ما أعلنت الحكومة تحفّظها على مقترح تسديد القروض، وخصوصًا بعد أن أعلن المصرف المركزي قيمة القروض المشمولة بهذا المشروع تصل إلى حدود ال50 مليار دولار، اقترضها نحو 515 ألف مواطن. وبحسب المصرف المركزي والحكومة الكويتيّة، لا تملك الكويت في الوقت الراهن القدرة الماليّة على تغطية هذا المبلغ، ما يعني أن الدولة ستحتاج إلى اقتراضه، وبهذا سيترتّب عليها فوائد ضخمة على مدى السنوات ال25 المقبلة.

في الوقت نفسه، كان المصرف المركزي الكويتي يؤكّد لجميع الأطراف أن وضعيّة القروض التي منحتها المصارف للمواطنين لا تبرّر هذا النوع من المقترحات. فنسبة القروض المتعثّرة في الوقت الراهن لا تتجاوز ال2.3% من إجمالي عدد القروض، وهذا ما ينفي وجود أية أزمات معيشيّة تستدعي تدخّل الدولة لسداد القروض. كما أنّ الضوابط المفروضة على القطاع المصرفي تمنع أساسًا إغراق المواطنين بالديون دون قيود، ما يبقي هذه القروض ضمن نطاق قابل للاستيعاب، دون وجود حاجة لدعم المقترضين من المال العام.

وبحسب الحكومة، يتعارض المقترح المطروح من قبل البرلمان مع مبدأ العدالة الاجتماعيّة. إذ سيؤدّي المشروع إلى استفادة المقترضين من كتلة ضخمة من الأموال التي ستذهب لسداد قروضهم دفعة واحدة، في حين أن نحو 62% من مواطني الكويت لا يستفيدون من أية قروض. ولذلك تعتبر الحكومة أنّه من الأجدى اجتماعيًّا واقتصاديًّا صرف هذه المبالغ على رفع مستويات التعليم والطبابة وتطوير البنية التحتيّة وتحسين كفاءة الإدارات العامّة، وغيرها من أبواب الإنفاق التي تفيد جميع الكويتيين، أو الأكثر حاجة منهم، لا المقترضين فقط.

مع الإشارة إلى أنّ الفئات الميسورة في المجتمع وأصحاب الدخل الأعلى يمتلكون قدرة على الاستفادة من قروض أكبر من تلك التي يستفيد منها أصحاب الدخل المتوسّط والمحدود، وخصوصًا حين يتصل الأمر بالاقتراض لشراء الكماليّات. وبذلك، سيسهم مقترح البرلمان في الإنفاق لمساعدة الفئات الأكثر اقتدارًا، بدل توجيه الدعم لتغطية الحاجات الأساسيّة.

استقالة بعد تأزّم

ضغط البرلمان الكويتي باتجاه الحصول على تعهد من الحكومة بتنفيذ رزمة القوانين التي أقرّتها اللجنة الماليّة في البرلمان، ومنها قانون شراء الدولة مديونيّات المواطنين. وبعد مواجهات ومناقشات عديدة، رفضت الحكومة تقديم أي تعهّد بهذا الخصوص، لا بل حاولت إثبات أن تطبيق فكرة شراء المديونيّات ستؤدّي إلى ضغط مالي غير مسبوق على الدولة الكويتيّة. ثم طلب البرلمان استدعاء كل من وزير الماليّة ووزير الدولة لشؤون مجلس الوزراء، لمساءلتهما بخصوص رفض الحكومة مشروع شراء المديونيّات ما أوحى بأن البرلمان يتجه للتصعيد حتّى النهاية في هذا الموضوع.

وفي النتيجة، تقدّمت الحكومة باستقالتها، وصدرت مراسيم بقبول هذه الاستقالة، ما حوّل الحكومة اليوم إلى حكومة تصريف أعمال. وفي الوقت الراهن، ستتجه الأنظار إلى نوعيّة التشكيلة الحكوميّة الجديدة التي سيتم التوافق عليها، وكيفيّة تعامل الحكومة الجديدة مع مطلب شراء المديونيّات المتفجّر، خصوصًا أن البرلمان لم يبدِ مع الحكومة المستقيلة أية مرونة في التعامل مع هذا الملف.

وفي حال أصرّ البرلمان على هذا المطلب الشعبوي، فستكون الحكومة الجديدة مخيّرة بين الذهاب إلى الصدام مع البرلمان الجديد، أو التجاوب مع مطالبه، بكل ما يعنيه هذا الأمر من تداعيات قاسية جدًا على الميزانيّة العامة الكويتيّة. لكن في جميع الحالات، سيبقى ملف شراء المديونيّات مجرّد نموذج عن المقترحات الاقتصاديّة الشعبويّة، التي لطالما فجّرت علاقة البرلمان الكويتي مع الحكومات المتعاقبة.