وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

لا تجري الرياح كما تشتهي السفن في معركة تركيا ضد الأكراد

اكراد تركيا حزب العمال
أكراد يهربون من الغاز المسيل للدموع خلال اشتباكات مع الأمن التركي في منطقة غازي باسطنبول. Photo: Sener Yilmaz Aslan.

هذا ما عكسته كلمات نائب رئيس الوزراء التركي، نعمان كورتولموش، في منتصف يناير 2016. فقد صرّح للصحفيين أن الحكومة ستعود إلى “أجندة الإصلاح” بعد الانتهاء من معركتهاضد الإرهاب: “ينبغي أن ينتهي الإرهاب ومكافحة الإرهاب في أقرب وقت ممكن، وينبغي إنجاز عملية إرساء الديمقراطية.” وبالتأكيد، تعلم الحكومة جيداً أن ما تسميه “الإرهاب،” أي عنف حزب العمال الكردستاني (بي كا كا) المحظور، لا يمكن اجتثاثه على أرض الواقع سوى عن طريق الإصلاحات الديمقراطية، إلا أنها قررت قبل بضع أشهر عدم التصرف وفق هذه المعرفة، ونتيجةً لذلك يموت المدنييون كل يوم تقريباً. بادئ ذي بدء، لا يوجد أجندة إصلاح للعودة إليها، بل كان هناك وقفٌ لإطلاق النار منذ أوئل 2013 حتى صيف 2015، إلا أن إرساء الديمقراطية التي ينبغي أن تفسح المجال لها، لم تحدث قط.

لم يتم إصلاح الدستور، على الرغم من أنّ الجميع في تركيا يقرّون بالحاجة إلى هذا الإصلاح، كما وعد حزب العدالة والتنمية، مراراً وتكراراً، بإعادة كتابة الدستور. بالإضافة إلى ذلك، لا تزال القوانين التي تجعل من الصعب حل مشكلة الأكراد في مكانها، أهمها، قانون مكافحة الإرهاب، الذي تعرض لانتقادات من قبل منظمات الاتحاد الأوروبي وحقوق الإنسان لشموليته الواسعة، واساءة استخدامه لتجريم الأفراد أمثال الصحفيين، والسياسيين، والإداريين، والناشطين، والمحامين، الذين كرسوا أنفسهم لحل المشكلة الكردية بشكلٍ سلمي. فضلاً عن ذلك، فقد استمر توسيع البُنية التحتية العسكرية في المناطق الكردية في جنوب شرق تركيا طوال فترة وقف إطلاق النار.

ومع ذلك، تم التمسك بوقف إطلاق النار، وبالتالي لم يُقتل أي جنديٍ أو مقاتلٍ من “بي كا كا.” فقد كانت نقطة التحول الحقيقة في نهاية المطاف، ليس الافتقار إلى الإصلاح الديمقراطي ولكن المعركة في كوباني. ففي البداية، كان من الواضح أن المعركة العنيفة بين القوات الكردية، وحدات حماية الشعب (مجموعة تابعة لحزب العمال الكرستاني)، ومقاتلي تنظيم الدولة الإسلامية “داعش،” التي اشتعلت في أوائل سبتمبر 2014، تسير لصالح “داعش،” ولكن في يناير 2015 تمكنّ الأكراد من طرد “داعش” من البلدة.

رأت تركيا في ذلك تهديداً لأمنها، بل أكثر من ذلك عندما تمكنت وحدات حماية الشعب في أوائل يونيو 2015، من استعادة السيطرة على بلدة تل أبيض، المعروفة لدى الأكراد بـ” كري سيبي” من “داعش.” وبالسيطرة على تل أبيض، تمكنت وحدات حماية الشعب من ربط اثنتين مما يطلقون عليها اسم كانتونات، مقاطعة الجزيرة وكوباني، وبالتالي السيطرة على امتداد مسافات طويلة من الأراضي على طول الحدود التركية. يهدف الأكراد إلى التمدد غرباً لضم الكانتون الثالث، عفرين. للقيام بذلك، يتوجب عليهم السيطرة على الأراضي التي تقع في الوقت الراهن تحت سيطرة مقاتلي “داعش” وقوات الأسد السورية. ومن شأن هذا التقدم الكردي أن يجعل تركيا تعاني أسوأ كوابيسها: تعتبر البلاد “داعش” تهديداً أمنياً يمكن القضاء عليه، في حين تعتبر وحدات حماية الشعب (وبي كا كا) تهديداً للوحدة الوطنية، وبالتالي مشكلة استراتيجية أكبر من ذلك بكثير.

تصرفت تركيا بذكاء، وشرعت بتوجيه الدفة نحو إنهاء وقف إطلاق النار. أصبح الأمر أكثر أهمية بالنسبة لأردوغان بعد الانتخابات التي جرت في يونيو 2015، عندما فقد حزب العدالة والتنمية الأغلبية في البرلمان بعد نجاح الحزب اليساري، حزب الشعوب الديمقراطي، المتجذر في الحركة السياسية الكردية. يُساهم العنف ضد حزب العمال الكردستاني في استعادة أصوات القوميين المتطرفيين الذين تخلوا عن حزب العدالة والتنمية لصالح حزب الحركة القومية اليميني المتطرف، وبالتالي يساعد حزب العدالة والتنمية على استعادة الأغلبية في الانتخابات الجديدة، الذي أصبح أمراً لا مفر منه بعد فشل محادثات إنشاء ائتلاف، كما يجادل العديد من المحللين، وذلك بعد التدخل الشخصي من قِبل الرئيس أردوغان، الذي يحتاج إلى الأغلبية لتنفيذ خطته بتغيير الدستور وإدخال نظام الرئيس التنفيذي إلى تركيا، بصفته رئيساً للبلاد.

وفي أوائل صيف عام 2015، أعلن الرئيس أردوغان إبطال تفاهم غاية في الأهمية بين الحكومة والحركة الكردية، فيما سُمي باتفاق قصر “دولمة باهجه” الذي عُقد في فبراير 2015. وقبل ذلك، في أبريل، تم وضع زعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان في سجنٍ منعزل، مانعين عنه المشرعيين، وأفراد عائلته، ومحاميه، وبالتالي منعه من التعليق على آخر التطورات وقيادة الحركة الكردية.

وفي نفس الوقت، تفاوضت تركيا مع الولايات المتحدة الأمريكية حول الأوضاع في سوريا. وفي يوليو الماضي، أبرم الاتفاق: افتتحت تركيا اثنتين من قواعدها الجوية لطائرات إف 16 الأمريكية لقصف “داعش” في كلٍ من سوريا والعراق، وكان ذلك، كما يُقال، مقابل وعدٍ أمريكي بعدم مساعدة وحدات حماية الشعب الكردية في التقدم غرباً. اعتبر نهر الفرات “خط تركيا الأحمر،” على الرغم من أن تركيا تعلم تماماً أنه لن يكون بمقدورها فعل الكثير في حال عبرت وحدات حماية الشعب النهر. يمكنهم مهاجمة وحدات حماية الشعب من الجو، كما فعلوا في أكتوبر 2015، إلا أنّ مثل هذا التصرف لن يكون له صدىً جيد في أروقة الولايات المتحدة لفترة طويلة، لأن وحدات حماية الشعب الكردية أحد أهم حلفائهم على الأرض في سوريا. على صعيدٍ آخر، يعتبر وجود الجنود الأتراك على الأراضي السورية أمر غير وارد على الإطلاق. وهنا، عاد انهاء وقف إطلاق النار بالفائدة. فمن خلال العودة مجدداً إلى الصراع العنيف مع “بي كا كا،” تأمل تركيا بإضعاف وحدات حماية الشعب أيضاً، وبالتالي ضمان عدم سيطرة الأكراد على ما تبقى من الأراضي على طول الحدود التركية. إنّ انهيار وقف إطلاق النار جعل الأمور أكثر إلحاحاً من أي وقتٍ مضى، إذ تمثل جزءٌ من أسوء سيناريوهات تركيا بهجوم الأكراد من الجانب السوري للحدود. إلا أنّ هذه المخاوف لا تمت للواقع بصلة، ذلك أنّ الأراضي الحدودية أراضي سهلية مسطحة وغير مناسبة باعتبارها مسرحاً لعملياتٍ عسكرية.

استراتيجية تركيا الفاشلة

وعلى ما يبدو فإن استراتيجية تركيا تتهاوى. بدايةً، عبرت قوات حماية الشعب نهر الفرات نهاية ديسمبر 2015، وكجزءٍ من تحالف قوات سوريا الديمقراطية، سيطروا على منطقة سد تشرين الواقعة جنوب شرق مدينة منبج التي يُسيطر عليها تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام. لم تبدي تركيا أي رد فعل، ذلك أنها لم تحمل في جعبتها أي وسيلة ضغطٍ على الولايات المتحدة أو تحالف قوات سوريا الديمقراطية. وفي الوقت نفسه، ازداد خطر “داعش” داخل تركيا بشكلٍ كبير، بعد هجومٍ في منطقة السلطان أحمد في وسط اسطنبول، قلب السياحة في تركيا، في 12 يناير 2016، والذي أسفر عن مقتل عشرة أشخاص غالبيتهم من السياح الألمان. وفي حال تصرفت حكومة حزب العدالة والتنمية بجدية اتجاه محاربة “داعش،” وهو أمرٌ لا مفر منه، سيعزز هذا حتماً قوة وحدات حماية الشعب؛ وهو خيارٌ مزعج بالنسبة للحكومة.

ثانياً، لا يبدو أن المعركة ضد حزب العمال الكردستاني في الداخل تسير كما هو مخطط لها. فعلى سبيل المثال، تدعي حكومة حزب العدالة والتنمية وقوات الأمن باستمرار مقتل مجموعاتٍ من مقاتلي “بي كا كا،” إلى جانب ادعاءات غير موثقة بخسائر تصل إلى المئات من متمردي حرب العصابات. ومع ذلك، على أرض المعركة، لا توجد أي مؤشرات حقيقة على إضعاف قوتهم. ولعل الحكومة لم تتوقع قوة المقاومة في مدن وبلدات جنوب شرق البلاد، حيث لا يزال أنصار “بي كا كا” يتمتعون بالقوة. ولم يخرج القاتلين بعد من مخابئهم في الجبال إلى المدن، إلا أن من يقومون بالعمل عوضاً عنهم قوات حماية المدنيين، الذين يعتبرون أنفسهم القوة المسلحة الشرعية في المدن، وبخاصة في البلديات التي أعلنت منذ صيف عام 2015 “الحكم الذاتي” عن الدولة المركزية التركية. لم يعد هؤلاء الشباب مسلحوّن فقط بالحجارة وقنابل المولوتوف، بل باتوا الآن يحملون الكلاشينكوف، وفي بعض الأحيان قاذفات الصواريخ.

عن ذلك، يتم إرسال المزيد والمزيد من القوات الخاصة إلى المنطقة، إلى جانب كميات متزايدة من المعدات العسكرية الثقيلة. ومع ذلك، يبدو القتال في المناطق الريفية جنوب شرق البلاد، أقل شراسة، والذي يمكن أن يُعزى إلى ظروف فصل الشتاء القاسية. ولكن في 14 يناير، ضربت “بي كا كا” بقوة، فقد استهدفت سيارة مفخخة مقراً للشرطة في منطقة سينار التابعة لمحافظة ديار بكر، مما أسفر عن مقتل خمسة مدنيين، من بينهم طفلين، وعدد غير محدد من رجال الشرطة (حيث تدعي “بي كا كا” مقتل أكثر من 30 ضابط شرطة، في حين صرحت السلطات التركية عن مقتل ضابطٍ واحد).

وكالعادة، فإن الضحايا الحقيقون هم المدنيون. ولسحق قوات حماية المدنيين، تقوم تركيا بفرض حظرٍ مفتوحٍ على مدار الساعة للتجول في العديد من المدن، حيث وصل مجموعها إلى 58 حظرٍ للتجول مما يؤثر على 1,4 مليون شخص، والتي قد تستمر ليومٍ على الأقل وتتجاوز في بعض الأحيان السبعة أسابيع، وأكثر. يُترك الناس دون طعامٍ وغالباً ما يحرمون من الكهرباء، ولا يحصلون على رعايةٍ صحية أو يحظون بالقليل منها، وفي العديد من الحالات، لا يستطيعون الوصول إلى القتلى والجرحي في الشوارع سواء لدفنهم أو علاجهم في المستشفيات. هذا وأحصت مؤسسة حقوق الإنسان المستقلة في تركيا مقتل 162 مدني في الفترة ما بين 16 أغسطس 2015 و8 يناير 2016، من بينهم 29 امرأة، و32 طفلاً، و24 شخصاً فوق الستين عاماً. وأيضاً وفقاً لمؤسسة حقوق الإنسان المستقلة في تركيا، قُتل 79 مدني في الفترة ما بين 11 ديسمبر 2015 و8 يناير 2016 وحدها، من بينهم 14 امرأة وجنين (قُتل بعيارٍ ناري).

أعطى وقف إطلاق النار بصيص أملٍ في أن تركيا قد أدركت أخيراً أنّ المعركة ضد “بي كا كا” لا يمكن الفوز بها عسكرياُ، وأنّ الطريقة الوحيدة “للقضاء على الإرهاب” كانت بمساعدة الديمقراطية على النمو. تُشير كلمات نائب رئيس الوزراء التركي، كورتولموش، أنّ الحكومة التركية لا تزال غير مقتنعة بذلك، أو ترفض على الأقل، التصرف بناءً على ذلك. وعلى ما يبدو، فإن تركيا بعيدة، أكثر من أي وقتٍ مضى، عن الاستماع إلى وتلبية المطالب المشروعة للأكراد.

user placeholder
written by
veronica
المزيد veronica articles