في خطوةٍ أثارت المخاوف من تصاعد الصراع العِرقي في المنطقة، سيطر الجيش العراقي على مدينة كركوك الغنية بالنفط من القوات الكردية في 16 أكتوبر 2017، بمساعدة ميليشياتٍ شيعية مدعومةٍ من إيران. كما انسحبت قوات البيشمركة الكردية من بلدتيّ مخمور وكوير، إلى الجنوب من العاصمة الإقليمية أربيل، في اليوم التالي.
فقد أمر رئيس الوزراء العراقي، حيدر العبادي، الجيش بـ”فرض الأمن” على كركوك، مؤكداً أنه يعمل “لحماية وحدة البلاد التي تعرضت لخطر التقسيم،” بعد استفتاء استقلال كردستان الأخير. فمدينة كركوك تمتاز بموقعها الاستراتيجي أيضاً بسبب قربها من العديد من حقول النفط الكبرى، التي كان يُسيطر عليها الأكراد وكانت بمثابة مصدر دخلٍ رئيسي للحكومة في كردستان. ووفقاً لبلومبرج، كانت حقول النفط تنتج حوالي 275 ألف برميل في اليوم قبل الاشتباكات الأخيرة، إذ يُمكن أن تشكل خسارة تلك العائدات النفطية ضربةً موجعة لاقتصاد كردستان.
ففي عام 2014، استولت قوات البيشمركة الكردية على كركوك بعد فرار الجيش العراقي مع تقدم تنظيم الدولة “داعش.” ومنذ ذلك الحين، كانت المدينة موضع نزاعٍ بين حكومة إقليم كردستان ومقرها أربيل، والحكومة العراقية المركزية في بغداد. تاريخياً، كانت المدينة ذات أغلبية كردية، إلا أنها تضم مزيجاً من السكان الأكراد والعرب والتركمان، كما أنها ليست جزءاً من كردستان العراق، إلا أن زعيم إقليم كردستان، مسعود بارزاني، ضمها إلى جانب أراضٍ أخرى متنازعٍ عليها احتلها الأكراد في عام 2014، إلى استفتاء الشهر الماضي، حيث أيدّ ما نسبته 92,7% من الذين صوتوا في الاستفتاء- حيث وصلت نسبة المشاركة 72,16% – إنشاء دولة مستقلة.
حاولت الحكومة المركزية منع الاستفتاء، والطعن في شرعيته، كما أنها انتقمت بعد الإنتهاء منه بوقف الرحلات الدولية إلى مطارات كردستان. وعليه، شجبت إيران وتركيا، اللتان تضمان أعداداً كبيرة من السكان الأكراد والمتخوفتان من حركات الاستقلال على أراضيهما، الاستفتاء أيضاً.
وفي 16 أكتوبر 2017، تقدمت القوات العراقية إلى جانب الميليشيات الشيعية المدعومة من إيران، قوات الحشد الشعبي، نحو المدينة، وسيطرت على المبنى الحكومي الرئيسي في كركوك والمطار وكذلك مرافق شركة نفط الشمال.
ومع تقدم القوات، فر آلاف المدنيين إلى جانب المقاتلين الأكراد الذين تعهدوا في السابق بالدفاع عن المدينة. كما رحب مواطنون آخرون بالقوات القادمة واحتفلوا بها في الشوارع حيث تم استبدال الأعلام الكردية باللافتات العراقية. وقال المسؤولون الأكراد إن عشرة مقاتلين من البيشمركة قتلوا وأصيب 27 آخرون بجروح.
كما قال مجلس أمن إقليم كردستان في تصريحٍ إن القوات العراقية والميليشيات هاجمت المنطقة باستخدام آليات عسكرية زودتها بها الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك دبابات أمبرامز ومدرعات هامفي. وأضاف أن قوات البيشمركة دمرت 5 مدرعات هامفي على الأقل. ووصفت القيادة العامة للبيشمركة الهجوم بـ”الإعلان الصارخ للحرب ضد أمة كردستان.”
غير أن سقوط كركوك السريع والانسحاب المنظم للقوات الكردية أبرز أيضاً الانقسامات داخل كردستان والقتال السياسي بين الحزبين السياسيين الرئيسيين، الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. فقد ادعت قيادة البيشمركة أن أعضاء الاتحاد الوطني الكردستاني “ساهموا في هذه المؤامرة ضد الأمة الكردية وارتكبوا خيانة عظيمة وتاريخية ضد كردستان والشهداء الذين ضحوا بحياتهم من أجل كردستان باسم علم الاتحاد الوطني الكردستاني.” ونفى الاتحاد الوطني الكردستاني الأمر ووصف الوضع في كركوك بـ”الخطة من قِبل تحالف دول اقليمية ضد كردستان ودعماً للحكومة العراقية.”
ومع ذلك، ذكرت صحيفة الشرق الأوسط، وهي صحيفة عربية دولية تتخذ من لندن مقراً لها، على لسان شاخوان عبد الله، عضو في لجنة الأمن والدفاع في مجلس النواب العراقي، إن انسحاب الاتحاد الوطني الكردستاني جاء بعد لقاءٍ جمع بين القائد الإيراني، قاسم سليماني، وبافل طالباني، نجل زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني جلال طالباني، الذي توفي في وقتٍ سابق هذا الشهر.
وفي الوقت نفسه، دافعت الحكومة المركزية عن الهجوم قائلةً إن القادة الأكراد “فضلوا مصالحهم الشخصية والحزبية على مصلحة العراق،” عندما مضوا قُدماً باستفتاء الاستقلال بالرغم من معارضة الحكومة المركزية.
وقال رئيس الوزراء العبادي في تصريحاته “حاولنا ثني الاخوة المتصدين في الاقليم عن اجرائه وعدم خرق الدستور والتركيز على محاربة داعش ولم يستمعوا لمناشداتنا ثم طالبناهم بالغاء نتائجه ودون جدوى أيضاً.” وأضاف “لم نقم الا بواجبنا الدستوري ببسط السلطة الاتحادية وفرض الأمن وحماية الثروة الوطنية في هذه المدينة التي نريدها ان تبقى مدينة تعايش سلمي لكل العراقيين بمختلف اطيافهم.”
من جهتها، أعربت تركيا عن دعمها الفوري لـ” الخطوات التى تتخذها الحكومة العراقية لفرض سيادتها الدستورية على كركوك، الموطن التاريخي للتركمان،” وتعهدت بالمساعدة على استئصال أي وجود لحزب العمال الكردستاني الإنفصالي، ومقره تركيا، من العراق.
وفي الوقت نفسه، سعت إيران إلى الإشارة إلى الاستقلال الكردي باعتباره مؤامرة اسرائيلية، حيث أن اسرائيل الدولة الوحيدة في المنطقة التي أيدت علناً محاولة الاستقلال. فقد ذكر مقالٌ نشرته مؤخراً وكالة أنباء فارس، التابعة للحرس الثوري الإيراني ذو النفوذ، أن إسرائيل تحاول تعويض النفوذ الإيراني المتنامي في المنطقة من خلال التملق إلى الأكراد، إذ كُتب بالتحديد: “هذا هو السبب الذي يدفع النظام الصهيوني لدعم وإقامة علاقاتٍ مع الأكراد، كما تواصل تل أبيب إقامة شراكاتٍ استراتيجية مع الأكراد العراقيين لتلافي عزلتها. ومن ناحيةٍ أخرى، تريد التأثير على الشؤون الإقليمية من خلال الشراكة مع الأكراد.”
وعلى صعيدٍ متصل، كان رد فعل الولايات المتحدة، التي تعتمد بشكلٍ كبير على الأكراد في معركتها ضد داعش ولكن تخشى خسارة تأثيرها على الحكومة المركزية العراقية، صامتاً. ففي حين استنكر البعض في الولايات المتحدة الهجوم العراقي وخاصة استخدام المعدات العسكرية الأمريكية في ذلك، إلا أن الرئيس دونالد ترامب لم ينحز لأي جانب.
كما حذر رئيس لجنة الخدمات المسلحة بمجلس الشيوخ الأمريكي، السيناتور جون ماكين، في بيانٍ من”عواقب وخيمة يمكن اتخاذها إذا استمرت رؤية المعدات الأميركية يساء استخدامها بهذه الطريقة. قدمت الولايات المتحدة عتاداً وتدريباً لحكومة العراق لتحارب تنظيم داعش، وتؤمن نفسها من التهديدات الخارجية، وليس لمهاجمة عناصر تابعة لأحد حكوماتها الإقليمية، والتي تعد شريكا قديماً وقيماً للولايات المتحدة.” وأضاف “أنه من الضرورة المطلقة لرئيس الوزراء العبادي والحكومة الاقليمية الكردية الدخول في حوار حول رغبة الشعب الكردي في الحصول على حكم ذاتي اكبر من بغداد في الوقت المناسب وضرورة وقف الاعمال العدائية فورا.”
إلا أن ترامب، بالرغم من تعهده مكافحة النفوذ الإيراني في المنطقة، كانت نبرته أقل حدّة فيما يتعلق بالصراع في كركوك، إذ قال “لا ننحاز لأي طرف، لكننا لا نحبذ أن يدخلوا في مواجهات.”
ووصف التحالف الدولي لمحاربة داعش بقيادة الولايات المتحدة الاشتباكات بأنها نتيجة “سوء تفاهم” كما شدد على عدم انحياز التحالف لأي طرف. كما قال الجنرال روبرت وايد، قائد القوات البرية التابعة للتحالف إن “التحالف ملتزم بهزيمة داعش في العراق وسوريا، ويعارض أي عملٍ يصرفنا عن مهمتنا.”
وإذا كان المسؤولون الأمريكيون يأملون تلاشي الصراع تماماً إلى حين تحييد تهديد داعش، فمن المرجح أن يصابوا بخيبة أمل، ولكن من المرجح أيضاً أن تصاب الفصائل الكردية التي تنشد الاستقلال أملاً بدعمٍ دوليٍ لمحاولتهم، بخيبة أملٍ أكبر.