على المستوى العمليّاتي، أرادت إسرائيل من تفجير لوسائل الاتصالات جرح وتحييد أكبر عدد ممكن من عناصر حزب الله، قبل تنفيذ هجومها العسكري الأكبر. وبحلول 24 أيلول/سبتمبر 2024، باشرت إسرائيل هذا الهجوم الواسع والشامل، والذي أدّى في أوّل يوم منه فقط إلى مقتل 492 شخص وجرح 1645 آخرين.
علي نور الدين
شهدت مختلف المناطق اللّبنانيّة يوم الثلاثاء 17 أيلول/ستبمبر 2024 حدثًا أمنيًا لم يسبق حصوله في تاريخ الحروب، عندما انفجرت بشكلٍ متزامن –وفي منتصف النهار- آلاف أجهزة الاتصال المعروفة بالـ “بيجر“، داخل المنازل وفي الأسواق والشوارع.
وفي اليوم التالي، اشتعلت عشرات الحرائق داخل البيوت والمركبات، جرّاء انفجارات أخرى، كانت أقل عددًا لكن أكثر قوّة، وكان مصدرها هذه المرّة بطّاريّات أجهزة “آيكوم” للاتصال اللاسكي. وفي خلاصة تلك الأحداث، سقط 37 قتيلًا و3,539 جريحًا، خسر معظمهم حاسة البصر أو أحد الأطراف.
ما جرى كان واضحًا: كانت العمليّة بأسرها خرقًا استخباراتيًا وتقنيًا يحمل البصمات الإسرائيليّة. فقبل استيرادها، تمّ تفخيخ هذه الأجهزة التي يستخدمها حزب الله لإرسال التنبيهات لعناصره، خلال تواجدهم خارج مناطق القتال. وحرص المنفّذون على إرسال تنبيه يدفع المتلقي لحمل الجهاز أمام عينيه، قبل التفجير مباشرةً، للتسبب بإعاقات جسديّة دائمة في الأعين والأطراف.
وهذا ما يفسّر عدد الجرحى الكبير، وخصوصًا من أصحاب الحالات الحرجة، التي فاقت قدرة القطاع الصحي على الاستيعاب.
تفاصيل الخرق الاستخباراتي والتقني
بعد ساعات على وقوع التفجيرات يوم الثلاثاء، بدأت تتضح بعض تفاصيل العمليّة الأمنيّة المعقّدة. فصاحب الشركة التايوانيّة “Gold Apollo” التي تحمل أجهزة الـ “بيجر” المُفخّخة علامتها التجاريّة، أفاد فورًا أنّ شركته لم تصنع فعلًا طراز الأجهزة التي اشتراها حزب الله. وصرّح بأنّ شركته أعطت امتيازًا لشركة مجريّة تحمل إسم “BAC Consulting” لتصنيع وبيع هذه الأجهزة، وهو ما يجعل شركته –برأيه- ضحيّة هذا الحادث “المُحرج”.
وإنَّ البحث عن تفاصيل الشركة المجريّة المُشار إليها، سرعان ما يوحي بأنّنا أمام شركة وهميّة جرى استحداثها لغرض تنفيذ هذا العمل الأمني. فالشركة تأسّست عام 2022، والبحث في تاريخ موقعها الإلكتروني البدائي –والذي جرى إقفاله فور تنفيذ الهجوم- لا يكشف شيئًا عن طبيعة عملها أو السلع والخدمات التي تقدّمها. وبشكلٍ عامٍ، لم تتمكّن الصحافة الاستقصائيّة ووسائل الإعلام من العثور على أي عمل صناعي جدّي أو صفقات مع أطراف أخرى في تاريخ الشركة، باستثناء صفقة “البيجر” المفخّخة.
أمّا ملكيّة الشركة وإدارتها المُعلنة، فقد اقتصرت على سيّدة إيطاليّة مجريّة غامضة تُدعى كريستيانا أرسيديكونو. وهذه الأخيرة لم تخرج إلى العلن بأي إيضاحات بعد العمليّة، باستثناء تصريح هاتفي يتيم -قوامُه جملة واحدة- لقناة أن. بي. سي.، أفادت فيه أنّها لم تكن سوى “وسيط”، دون أن تشرح المقصود بهذه الكلمة. وعند زيارة مقرّ الشركة المُعلن عنه في السجّلات، تبيّن أنّ الشركة لا وجود لها في الواقع هناك، كما هو حال الكثير من الشركات الصوريّة التي لا تملك مراكز عمل حقيقيّة.
وفي واقع الأمر، سرعان ما تبيّن أن منفذي العمليّة استعانوا بشركة بلغاريّة أخرى، تُدعى “Norta Global”، لإتمام هذا المخطط. وعلى الرغم من أنّ جهاز الاستخبارات البلغاريّة أكّد أنّه “لم يتم الكشف عن أي إجراءات جمركية تشير إلى أن الأجهزة المعنية مرت عبر بلغاريا”، تبيّن أن الشركة البلغاريّة موّلت العمليّة عبر تحويل مبلغ 1.6 مليون يورو إلى المجر، وفقًا لقناة “بي.تي.في” البلغارية، نقلا عن مصادر في وكالة الأمن الوطني.
وتمامًا كحال نظيرتها المجريّة، كانت الشركة البلغاريّة شركة صوريّة غير موجودة فعلًا في مركز العمل المُصرّح عنه، كما حرصت الشركة على حذف موقعها على الإنترنت فور حصول الهجوم. المالك والإداري المُعلن الوحيد للشركة، هو المواطن النرويجي رينسون خوسيه، الذي توارى عن الأنظار في “رحلة عمل” فور حصول الحادث. مع الإشارة إلى أنّ وسائل الإعلام المختلفة فشلت أيضًا في العثور على نشاط صناعي أو تكنولوجي فعلي للشركة.
بهذا الشكل، وعلى الرغم من الغموض الذي يلف نوعيّة العمليّات التي جرت بين الشركتين الصوريّتين، كان من الواضح أنّ المكيدة تمَّ التخطيط لها على مدى السنوات الماضية، عبر سماسرة ووسطاء عملوا لإخفاء الطابع الأمني لصفقة البيع. ولإتمام هذا المخطّط، استغلّت إسرائيل عدم قدرة حزب الله على التعامل مع الشركات التكنولوجيّة المعروفة، ولجوئه إلى السوق السوداء والوسطاء لتأمين هذا النوع من السلع.
وفي مقابل المعلومات المتداولة حول عمليّة تفخيخ أجهزة الـ “بيجر”، لم تنكشف أي تفاصيل أخرى بخصوص طريقة تفخيخ بطاريّات أجهزة “آيكوم” للاتصال اللاسلكي. إذ أنّ شركة “آيكوم” المعروفة في هذا المجال، أوقفت تصنيع طراز الجهاز اللاسلكي الذي جرى تفخيخه منذ أكثر من 10 سنوات، ولم تتبيّن بعد نوعيّة الشركات التي لجأ إليها حزب الله لشراء الشحنة المُفخخة.
خرق القانون الدولي الإنساني
وعلى الرغم من أنّ العمليّة قد استهدفت في الشكل تنظيم حزب الله وعناصره، من المؤكد أنّ ما جرى يمثّل جريمة حرب موصوفة، وفقًا للقانون الدولي لحقوق الإنسان، كما نصّت عليه المعاهدات والأعراف الدوليّة، وخصوصًا اتفاقيّات جنيف وملحقاتها وبروتوكولاتها الإضافيّة.
فإسرائيل تجاوزت هنا “مبدأ التمييز”، الذي يفرض حصر العمليّات بالأهداف العسكريّة دون غيرها، لتأمين حماية السكّان المدنيين، و”الأعيان المدنيّة”، التي تشمل المنازل والأسواق ومختلف المرافق غير العسكريّة. إذ من الناحية العمليّة، تسببت العمليّة بآلاف الانفجارات التي طالت “الأعيان المدنيّة” بالتحديد، حيث تواجد عناصر الحزب خارج الجبهة. ولذلك، شملت قائمة الضحايا والجرحى عدد كبير من الأطفال والنساء والمدنيين والكبار في السن، من الذين تضرّروا لمجرّد وجودهم قرب الأجهزة المفخّخة (ومنهم عائلات عناصر الحزب).
وعلى أي حال، من المعلوم أنّ أضرار العمليّة طالت أيضًا الأعضاء غير العسكريين، داخل تنظيم حزب الله، من الذين يعملون في الأجهزة الصحيّة والإداريّة والسياسيّة، التي تستخدم وسائل الاتصال عينيها. وهنا ما يناقض بدوره القانون الدولي الإنساني، الذي يفرض حصر الاستهدافات بالمقاتلين فقط داخل هذا النوع من التنظيمات.
بل وحتّى استهداف العسكريين الاحتياط والمتطوعين والعاملين بدوام جزئي، يفترض أن يكون ممنوعًا خارج إطار الأعمال القتاليّة، أي خلال ممارستهم الحياة المدنيّة والمهنيّة بعيدًا عن الجبهات. بهذا المعنى، يُعتبر هؤلاء مدنيين طالما أنّهم لا يحملون السلاح، ولا يمارسون الأعمال العسكريّة، وإن استعانوا بأجهزة اتصال تسمح بإرسال التنبيهات والاستدعاءات عند الحاجة.
وأخيرًا، لا يحظر القانون الدولي أساليب الخداع الحربيّة التقليديّة، لكنّه يحظر بوضوح “الغدر”، كحال التظاهر “بوضع المدني غير المقاتل” لاستثارة “ثقة الخصم مع تعمّد خيانة هذه الثقة” (الملحق الأوّل الإضافي لاتفاقيّات جنيف). وهذا ما ينطبق بشكل تام على فكرة استحداث شركات وهميّة، تزعم ممارسة الأنشطة المدنيّة التجاريّة في أوروبا، لعقد صفقات تُخفي ألاعيب أمنيّة خبيثة وغير تقليديّة.
أبعاد العمليّة الإسرائيليّة
من الواضح أن العمليّة انطوت على جانب يتعلّق بالتلاعب بسلاسل التوريد، عبر تفخيخ الأجهزة قبل ورودها. إلا أنّها انطوت أيضًا على هجوم سيبراني، من خلال اختراق الشبكة المحليّة لأجهزة “البيجر”، بهدف إرسال التنبيه الذي دفع عناصر الحزب لإمساك الجهاز والنظر إليه. كما استعملت إسرائيل هذا الاختراق أيضًا لإرسال الإشارة التي تسمح بتفجير الأجهزة، وهو ما يؤكّده عدم انفجار الأجهزة المفصولة عن الشبكة.
لهذه الأسباب، أشار العديد من الخبراء في الأمن الإلكتروني إلى أنّ السابقة التي قامت بها إسرائيل ستغيّر نظرة العالم إلى الحروب وأدواتها، بعد انكشاف مدى التهديد الذي يمكن أن يشكّله دمج الهجمات السيبرانيّة مع اختراق سلاسل التوريد.
ببساطة شديدة، لفتت إسرائيل النظر إلى إمكانات وطرق القتل الجماعي، التي يمكن تحقيقها بهذه الطريقة. مع الإشارة إلى أنّ أجهزة المخابرات والجيوش الحديثة لجأت سابقًا إلى أدوات الهجمات السيبرانيّة، أو إلى اختراق سلاسل التوريد لتنفيذ اغتيالات، لكنّ الابتكار الذي قدمته إسرائيل اليوم كان مزج هذه الأدوات معًا لارتكاب مجزرة كاملة المواصفات.
على المستوى العمليّاتي، أرادت إسرائيل من عمليتها الدمويّة جرح وتحييد أكبر عدد ممكن من عناصر حزب الله، قبل تنفيذ هجومها العسكري الأكبر. وهذا ما أرادت تحقيقه أيضًا من قصفها للضاحية الجنوبيّة خلال الأسبوع عينيه، الذي استهدف قيادة فرقة النخبة الشهيرة في الحزب، المعروفة بقوّة “الرضوان”.
وبحلول 24 أيلول/سبتمبر 2024، باشرت إسرائيل هذا الهجوم الواسع والشامل، والذي أدّى في أوّل يوم منه فقط إلى مقتل 492 شخص وجرح 1645 آخرين. قُتل ما لا يقل عن 1540 شخصاً وجُرح 5410 آخرين في لبنان خلال ما يقرب من عام من الصراع مع إسرائيل، حتى وقت كتابة هذا التقرير.