قصة شخصية عن الصمود خلال حرب إسرائيل وحزب الله عام 2024، حيث تصور النزوح المروع من إحدى ضواحي بيروت والشوق إلى الوطن.
دانا حوراني
لم أشأ الرحيل. حتّى مع تصعيد الحرب في جنوب لبنان أصرّيت على البقاء في منزلنا في ضواحي بيروت الجنوبيّة، الشّيّاح. حاولت أمّي إقناعي بالعكس، لكنّني تمسّكت بفكرة أنّ منزلنا هو ملاذنا، وكانت جدّتاي وقتذاك وأفراد عائلتي الممتدّة قد رحلوا عن قراهم، عيناتا وبنت جبيل في جنوب لبنان، خلال الأسابيع الأولى من صراع حزب اللّه مع إسرائيل الّذي بدأ في 8 تشرين الأوّل.
عائلة عمّي القاطنة في عيناتا، كانت الوحيدة الّتي نزحت إلى النّميريّة، أمّا الباقون فنزحوا إلى الضّواحي الجنوبيّة لبيروت، المعروفة أيضًا بالضّاحية.
كلّنا آمنّا بأنّ النّزوح سيكون مؤقّتًا، وأنّ ما يحدث أزمة عاديّة من قافلة الأزمات الّتي عانى منها لبنان. أذكر أنّني طمأنت جدّتي، والدة أمّي، الّتي انتقلت إلى الضّاحية على مقربة منّا، أنّها ستعود قريبًا إلى تيناتها وشجرات ليمونها، وزهراتها، ونباتاتها الّتي ترعاها بالكثير من الحبّ. إذ نفرت من الحياة في بيروت وتاقت إلى ألفة الجنوب الهادئة المطمئنة.
لكنّ هذا الأمل بدأ يتعثّر بمرور الوقت وامتداده. وبحلول 23 أيلول، بعد عام تقريبًا، بدأت إسرائيل بقصف جوّيّ مساحيّ عنيف على مناطق مختلفة من جنوب لبنان، مخلّفة 500 قتيل وحوالي 2000 جريح، في غضون أيّام معدودة. وعند نهاية الحرب، كان هذا العدد قد ارتفع إلى 4047 شخصًا، قُتِل معظمهم منذ التّصعيد في أيلول، ومن بينهم 316 طفلًا.
على الرّغم من ذلك، رفضت مغادرة الضّاحية، لكنّ أمّي وبعد أن استملكها الخوف، توسّلت إلينا الانتقال إلى مكان آمن. وبذلك تحوّل اضطرابها إلى شعوري بالذّنب، فكان عليّ الموافقة إكرامًا لها، لكن لم يكن لنا عائلة خارج نطاق الضّواحي الجنوبيّة لإيوائنا.
مدفونة تحت سنين طويلة من الاختلالات السّياسيّة والصّراعات الحزبيّة المعقّدة، عادت جراح الحرب الأهليّة اللّبنانيّة إلى الحياة، متجسّدة بالتّمييز الطّائفيّ الشّنيع، والخوف الجغرافيّ والدّيموغرافيّ. فقد جاء إيجار الشّقق الباهظ الثّمن آنذاك لكن بمقدور عليه، والّذي بلغت قيمته 600 إلى 800 دولار شهريًّا، مغلّفًا بقاعدة سرّيّة. وبموجبها فقد رفضنا أصحاب المُلك بغير تحفّظ لأنّ أفراد عائلتي يرتدون الحجاب، أو بكلّ بساطة لأنّهم لا يؤجّرون الشّقق للمسلمين الشّيعة، أو للأشخاص النّازحين الّذين يُعتبَرون مؤيّدين لحزب اللّه.
حطّمني هذا الرّفض، حتّى أنّني انهرت بالبكاء في العمل يومًا. كنت أعلم بجراحات الحرب الأهليّة اللّبنانيّة، حين تقاتلت الفصائل المختلفة دون رحمة، لكنّني لطالما آمنت بأنّ جيلنا قد تخطّى هذه المرحلة.
بدا أحد أصحاب المُلك مستعدًّا لتأجيرنا شقّة، لكن بعد أن طلب وديعة باهظة مقابلها، قيمتها 1000 دولار، وهذا يفوق قدرتنا المادّيّة.لذا لم يبقَ أمامنا حلّ إلّا السّكن في طبرجا شمال بيروت، بالقرب من الطريق العامّ الذي أكرهه. لم يكن ذلك مثاليًّا، لكن مع بدء استهداف الضّاحية، وبخاصّة منطقة الغبيرة الواقعة خلف حيّنا، حزمنا ما استطعنا من أمتعتنا على عجل وغادرنا.
بعدها، حلّ 27 من أيلول، يوم الدّمار الشّامل. فقد شنّت إسرائيل إحدى أكبر غاراتها الجوّيّة على الضّواحي الجنوبيّة، مغتالة الأمين العامّ لحزب اللّه، حسن نصراللّه وغيره العديد. هزّت الغارات عائلتي حتّى الصّميم، “شعرنا وكأنّها حصلت في مبنانا”، هكذا عبّر لي بعض أقاربي. وكانت هذه نقطة التّحوّل الّتي جعلت ما تبقّى من أفراد عائلتي في الضّاحية، ممّا فيهم جدّتي، وأختها، وعمّتي، وأبي، وأخي الصّغير، يوافوننا في بيتنا المستأجر في طبرجا.
وفي لحظة خاطفة، اعتقدت أنّه بإمكاننا الاستقرار في وضعنا المستجدّ، فالبحر قريب، والجيران بدوا لطفاء، ووفّرت لنا المنطقة استراحة من القصف المستمرّ. لكن في 14 تشرين الأوّل، قصفت إسرائيل قرية أيطو حيث الغلبة للمسيحيّين، مخلّفة 21 قتيلًا. نتيجة لذلك، دبّ الذّعر في صاحبة المُلك القاتنة في أيطو، فاتّصلت بنا في اليوم التّالي طالبة منّا إخلاء الشّقّة بحلول تشرين الثّاني، ولم تكن تأبه بعقد الإيجار الممتدّ على ثلاثة أشهر الّذي وقّعنا عليه، أو بأنّ لا مكان لنا نذهب إليه.
كان الذّلّ لا يطاق! لم تأبه بأنّ عائلتنا مسالمة وتتضمّن ضابطًا متقاعدًا في الجيش وثلاث نساء مسنّات، فبالنّسبة إليها كنّا أهدافًا محتملة، ولم تشأ المخاطرة. لسوء الحظّ، لم نكن الوحيدين المطرودين هذا الأسبوع، فقد بدأ الكثير من أصحاب المُلك، الّذين دفعهم الخوف والأحكام الحزبيّة المسبقة، بإجبار المستأجرين الشّيعة على الرّحيل، فيما أكملت إسرائيل استهدافها لمناطق كانت تُعتبَر آمنة بعض الشيء.
مع اقتراب تاريخ وجوب رحيلنا، تواصلت مع قدر ما استطعت من وكلاء العقارات، لكن كانت أسعار الشّقق قد ارتفعت بشدّة آنذاك، وكانت غالبيّة أصحاب المُلك تطالب بـ 1500 دولار أو أكثر ثمنًا لها. والأسوء من ذلك، أنّ جميعهم تقريبًا رفضنا للأسباب عينها، ووصلنا إلى مستوى جديد من الذّلّ حين طلب أحدّ أصحاب المُلك تحرّيًا عن هويّة كلّ فرد من أفراد عائلتي وخلفيّاتهم، قبل أن يقبل أخيرًا بتأجيرنا شقّة.
قلت لأخي الصّغير “اذهب وقصّ شعرك واحرص على ألّا تبدو مهيبًا”، خوفًا من ردّة فعل جيراننا الجدد عند رؤيتهم لحية داكنة اللّون، واحتمال اعتقادهم أنّه عميل.
بدأ الإفراط في التّفكير يتحكّم بنا. ماذا لو اشتكى الجيران لصاحب المُلك وطُردنا؟ وإذا لم يحدث ذلك، ماذا لو أساءوا معاملتنا؟ أو سمحوا للارتياب أن يوسوس في نفوسهم ويتغلّب عليهم؟ من الجدير بالذّكر أنّ العديد من المناطق المسيحيّة في لبنان استقبلت النّازحين بصدور رحبة، كما فعل معظم المناطق السّنّيّة والدّرزيّة، غير أنّ تجربتنا الشّخصيّة كانت سيّئة.
في نهاية المطاف، أصبح العبء المادّيّ تعجيزيًّا، فالتّكاليف الأوّليّة المسبقة، أجار ثلاثة أشهر، زائد وديعة، زائد رسوم عمولات، بلغ مجموعها أكثر من قدرتنا الشّرائيّة. وبغياب خيارات أخرى، فقد لجأت إلى مدينة طرابلس الشّماليّة.
في بادئ الأمر، بدت فكرة طرابلس مستحيلة، فهي بعيدة عن بيروت، المدينة الّتي أتوق إلى البقاء قريبة منها. لكنّ منزلًا قريبًا من البحر بسعر معقول أصبح حبل خلاصنا، وبذلك انتقلنا إليه في تشرين الثّاني. كان المنزل ضيّقًا ويفتقر إلى مساحة ملائمة للتّخزين، ما جعل التّأقلم فيه صعبًا. وفي رحلتنا الأخيرة إلى الشّيّاح، جمعت ثيابًا شتويّة، لكنّ أمّي رفضت ذلك، فقد تشبّثت بفكرة عودتنا إلى منزلنا قبل حلول الشّتاء القارس.
بعدها، وفي منتصف تشرين الثّاني، قُصف حيّنا في الشّياح، وتضرّر منزل أمّي بشدّة، وما زلنا غير متأكّدين أنّه صالح للسّكن. اللّوعة الّتي انتابتني كانت ساحقة، فهذه الجدران ليست مجرّد أحجار، بل هي تحضن ذكرياتنا، والأمان والدّفء.
“ماذا لو كان الإسرائيليّون يسكنون في منزلنا في الجنوب؟” قالت جدّتي بضحكة مفجعة. لم أستطع الرّدّ، فنحن لا ندري إلى أيّ حدّ ستتمادى إسرائيل بأفعالها وإلى متى ستبقى. وفي ذلك الوقت، أفادت التّقارير بأنّ الجيش الإسرائيليّ قطع الطّريق بين مرجعيون والنّبطيّة في جنوب لبنان، في 22 تشرين الثّاني، حاصرًا التّنقّل إلى منطقة مرجعيون القريبة.
على الرّغم من الألم، حاولت إيجاد تعزية في طرابلس. المدينة نابضة بالحياة ومفعمة بالحيويّة بأسلوبها الخاصّ. استكشفت أسواقها المزدحمة، مثل الأسواق التّاريخيّة القديمة، حيث يبيع البائعون كلّ شيء من البهارات إلى الأقمشة، وأكلت في أشهر مطاعم المأكولات البحريّة قرب الشّاطئ، ومشيت على الشّاطئ الهادئ قرب الميناء، مستمتعة بمناظر البحر المتوسّط الخلّابة، حتّى أنّني زرت محميّة جزيرة النّخيل للتّمتّع بخلوة ساكنة. سحر طرابلس لا يمكن إنكاره، مع قلعة ريمون دي سان جيل الخلّابة الّتي تمنحنا لمحة عن تاريخ المدينة الصّليبيّ الغنيّ. ترحاب أهالي المدينة بأفراد عائلتي الّذين يرتدون الحجاب منحنا أيضًا نوعًا من الرّاحة. لكن ما من سحر يفوق سحر مسقط الرّأس.
غالبًا ما أغلق عينيّ وأتخيّل الشّيّاح أو المساحات الخضراء الوارفة في بلدتَي أهلي في الجنوب، وأتساءل متى أو إذا كنا سنعود إليها. فعائلتنا، الّتي كانت متماسكة في ما مضى، أصبحت الآن مبعثرة في أرجاء لبنان، والمسافة تجعل اللّقاءات شبه مستحيلة.
ومع اقتراب شباط، أقلق حيال ما يخبّئه المستقبل. فعقد إيجارنا في طرابلس أوشك على الإنتهاء، وأخشى احتمال البحث عن شقّة أخرى من جديد، فالإجراءات متعبة ومذلّة وتذكير دائم بنزوحنا.
في 26 تشرين الثّاني، أعلن عن وقف إطلاق النّار، لكنّنا تسمّرنا أمام التّلفاز، اللّيل بطوله، نشاهد إسرائيل تقصف مساحات شاسعة من بيروت بكثافة متواصلة، مصرّة أن تنهي الحرب بوحشيّة قبل أن يدخل الاتّفاق حيّز التّنفيذ.
وعلى الرّغم من ذلك، أثلجت قلوبنا، في أولى ساعات الصّباح، رؤية صور وفيديوهات لأشخاص يعودون إلى ديارهم في الجنوب. وأخيرًا تحقٌّت أمانينا، نحن أبناء الجنوب والضّاحية تمكّنّا من العودة إلى منازلنا. الفرح المهيمن كان حبل نجاتنا، كما لو أنّ الحياة بنفسها قد عادت.
لكنّ فرحتنا لم تطل، فحين تمكّنّا من العودة، وجدنا منزلنا قد قاسى أضرارًا جسيمة ويحتاج إلى وقت للتّرميم. منزلنا في متناول يدنا لكن فقط من بُعد.
وفيما تكمل إسرائيل انتهاك شروط وقف إطلاق النّار، يمكننا فقط أن نأمل بعودة تسمح لنا أخيرًا باستعادة حياتنا السّابقة، حتّى لو لم يبقَ منها إلّا الأصداء.