وجدت العديد من الدول العربيّة نفسها معنيّة في أزمة انقلاب النيجر، من زاوية عرقية وقومية بحت، وعلى خلفية حرصها على مصالح الأقلية العربية في النيجر.
علي نور الدين
تمتلك الدول العربيّة حساباتها ومصالحها الخاصّة، بما يخص الانقلاب في النيجر وما تلاه من أحداث. وبينما تتصل بعض هذه الحسابات بالملفّات الاقتصاديّة، يرتبط بعضها الآخر بالعوامل الأمنيّة والعرقيّة والسياسيّة، وهذا ما ظهر في مواقف وحركة بعض الدول مثل الجزائر وقطر والمملكة العربيّة السعوديّة.
أمّا لبنان، فوجد نفسه معنيًّا بالملف من زاوية مواطنيه المغتربين هناك، ما حصر اهتمام السلطات اللّبنانيّة بالحفاظ على أمن وسلامة هؤلاء المغتربين. وفي حالة ليبيا والسودان، كان من الواضح أنّ أحداث النيجر ستترك أثرها على الانقسامات المحليّة والنزاعات العسكريّة الموجودة أساسًا في البلدين.
طبيعة الاستقطاب الدولي والإقليمي
منذ حصول الانقلاب في 26 تمّوز/يوليو 2023، تحوّل الحدث إلى موضوع استقطاب دولي، بين القوى الغربيّة المؤثّرة التي رفضت إعطاء المشروعيّة للانقلابيين، كحال الولايات المتحدة الأميركيّة وفرنسا، وروسيا التي حافظت على موقف ضبابي أثار الشكوك بمراهنتها على الانقلابيين الجدد.
ناهيك عن الكثير من التحليلات التي ذهبت إلى اتهام موسكو بالتورّط في دعم الانقلاب، ولو بشكل غير مباشر، تمامًا كما فعلت في دول أفريقيا أخرى مؤخرًا. وزاد من هذه الهواجس إعلان موسكو رفضها لأي تدخّل عسكري خارجي، لمواجهة الانقلابيين وإعادة الرئيس الشرعي محمد بازوم إلى سدّة السلطة.
أمّا على مستوى دول غرب أفريقيا، فلم يكن الاستقطاب أقل حدّة أبدًا. فالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، الأكثر التصاقًا بالموقف الغربي، رفضت بشكل حاسم الاعتراف بالانقلابيين، بل وذهبت إلى حد الإعلان عن عقوبات اقتصاديّة قاسية عليهم، مع التلويح بعمل عسكري مرتقب ضد الانقلاب. وحتّى هذه اللّحظة، تلعب نيجيريا دور رأس الحربة داخل المجموعة، للدفع باتجاه خطوات صارمة في وجه الانقلابيين في النيجر.
في المقابل، أعلنت السلطات في بوركينا فاسو ومالي مواقف مؤيّدة للانقلابيين دون أيّ مواربة. مع العلم أنّ الدولتين تحكمهما سلطات عسكريّة انقلابيّة مدعومة من روسيا، ما يربط الاستقطاب الإقليمي الأفريقي تلقائيًا بالاصطفافات الدوليّة حول هذا الملف. وهكذا، أصبح الانقسام بين دول غرب أفريقيا مجرّد انعكاس للانقسام الدولي، بين الدول العظمى التي تتدخّل في شؤون الدول الأفريقيّة.
وهذه الحقيقة لا تتعارض مع واقع معارضة بعض الدول الأفريقيّة للانقلاب من حيث المبدأ، خوفًا من تمدد عدوى الانقلابات لتطال أنظمتها في المستقبل. كما يبدو أنّ الحكّام العسكريين في بوركينا فاسو ومالي وغينيا كوناكري يتطلّعون لاستقبال الانقلابيين في النيجر كحلفاء جدد في المنطقة، بعدما انضموا إلى صفّ الأنظمة العسكريّة والانقلابيّة الحاكمة في غرب أفريقيا. لكن وعلى الرغم من كلّ هذه العوامل المحليّة، ظلّ الانقسام الدولي، بين الدول الغربيّة وروسيا، العامل الأكثر تأثيرًا على مواقف دول غرب أفريقيا.
أمّا الدول العربيّة، وعلى العكس تمامًا، فلم تنطلق مواقفها من انحياز مسبق لأحد المعسكرين الدوليين. بل اختارت كل دولة موقفًا براغماتيًا، بحسب أولويّاتها وخصوصيّاتها، ووفقًا لعلاقتها بالنيجر ونظامه السابق.
العرب والعوامل العرقيّة في النزاع
لا يمكن فصل العوامل الإثنيّة والعرقيّة عن موقف العرب مما يجري في النيجر. فرغم أنّ المسلمين يشكّلون 90% من المقيمين في النيجر، يتوزّع السكّان على قوميّات متعدّدة، يتسم تاريخها بالنزاعات والمناكفات على السلطة والنفوذ. وأبرز هذه القوميّات، هي الهوسا، التي ينتمي إليها أكثر من نصف المقيمين، فيما يتوزّع الآخرون على قوميّات أخرى مثل السونغاي والعرب والطوارق والفولان والكانوري.
ويُعتبر رئيس النيجر محمد بازوم، الذي أطاح به الانقلاب، أوّل رئيس عربي للبلاد منذ نشأتها، ما مثّل انعطافة في مسيرة الأقليّة العربيّة في النيجر، التي ظلّت على هامش الحياة السياسيّة في البلاد منذ استقلالها. فعلى الرغم من انخراط العرب بفعاليّة في الحياة الاقتصاديّة في النيجر، وخصوصًا في قطاعات الصناعة والتجارة وتربية الإبل والأغنام، ظلّ أغلبهم خارج الحياة السياسيّة في الماضي، بسبب طبيعة حياتهم البدويّة التي تميل للحفاظ على خصوصيّة مجتماعاتهم. وفي العديد من المحطّات، كانت علاقة القبائل العربيّة بالسلطات الرسميّة محكومة التوتّر، كما حدث حين حاولت حكومة النيجر عام 2006 طرد نحو 150 ألفًا من العرب إلى تشاد، لكونهم قد نزحوا من هناك قبل عقود من الزمن.
ولهذا السبب، تفاءل عرب النيجر بإمكانيّة فتح صفحة جديدة في علاقتهم مع الدولة، بعد انتخاب بازوم رئيسًا للبلاد، ما زاد تدريجيًا من انخراطهم في الأنشطة والأحزاب السياسيّة. ومن جهته، حرص بازوم على تشجيع أبناء المجتمعات العربيّة على الدخول في أجهزة الدولة الإداريّة والعسكريّة، بهدف الحد من عزلتهم التاريخيّة، وإنهاء العداء الذي حكم علاقتهم بالسلطة على مرّ العقود الماضية. مع الإشارة إلى أنّ نسبة العرب من إجمالي سكّان النيجر لا تتجاوز حدود ال1.5%.
لكنّ بمجرّد حصول الانقلاب، وبعد الإطاحة ببازوم، عادت مخاوف القبائل العربيّة، من احتمال خسارة المكتسبات التي تم تحقيقها خلال فترة حكم بازوم. كما برزت هواجس عرب النيجر من إمكانيّة عودة السلطة إلى التضييق عليهم، بهدف دفعهم إلى الهجرة باتجاه تشاد والسودان، كما كان يحصل بالفعل في مراحل سابقة. ومن المعلوم أن انتماء عرب النيجر إلى القبائل البدويّة، التي تمتد علاقاتها الأسريّة والاجتماعيّة عبر الحدود، تزيد من وتيرة هجرتهم إلى مناطق أخرى عند حصول التوتّرات السياسيّة، بخلاف القبائل المحليّة الأخرى.
على هذا الأساس، وجدت العديد من الدول العربيّة نفسها معنيّة بهذا النزاع، من زاوية عرقيّة وقوميّة بحت، وعلى خلفيّة حرصها على مصالح الأقليّة العربيّة في النيجر.
وهذا ما ينطبق مثلًا على موقف المملكة العربيّة السعوديّة، التي غالبًا ما تسعى للعب الأدوار القيادية على المستوى العربي، عند حصول هذا النوع من الأزمات. وعلى الرغم من عدم وجود اعتبارات أمنيّة أو عسكريّة مباشرة للمملكة في انقلاب النيجر، سارعت المملكة لرفض “محاولة الانقلاب على شرعيّة الرئيس محمّد بازوم”، وطالبت “أطراف الانقلاب بالإفراج عن الرئيس بازوم وتمكينه من استعادة مباشرة اختصاصاته الدستوريّة”.
وتجدرُ الإشارة إلى أنّ السعوديّة كانت قد ساهمت خلال السنوات الماضية في دعم تدريس اللّغة العربيّة في النيجر، من خلال تمويل إنشاء العديد من المدارس والمجمّعات الجامعيّة. وكانت السعوديّة تسعى من خلال هذه المشاريع إلى زيادة إلمام المجتمعات العربيّة هناك بلغتها الأم، ومنح أفراد هذه المجتمعات فرصة الترقّي الأكاديمي والاقتصادي، دون اللّجوء للهجرة. وهكذا، كان من الواضح أن السعوديّة امتلكت أساسًا، وقبل حصول الانقلاب الأخير، إهتمامًا خاصًا بوضع القبائل والمجتمعات العربيّة في النيجر، ما يفسّر موقف المملكة الرافض بشدّة للانقلاب على محمّد بازوم.
الحسابات الأمنيّة والاقتصاديّة
تنطلق هواجس الرئيس الجزائري عبد المجيد تبّون من الحسابات الأمنيّة، إذا أن البلاد تواجه أساسًا مخاطر عدم الاستقرار الموجود على حدودها الشرقيّة مع ليبيا، وعلى حدودها الجنوبيّة مع مالي.
ولعلّ أكثر ما يؤرق الجزائر في كل هذا الملف، هو تمدّد عمل الجماعات الجهاديّة المسلّحة العابرة للحدود، والتي باتت تنشط في مناطق واسعة من مالي والنيجر وبوركينا فاسو. كما أنّ الجزائر تخشى من تداعيات انفلات الحدود على ملف الهجرة غير الشرعيّة، خصوصًا بعدما أعادت في الأشهر الأربعة الأولى من العام 2023 أكثر من 11 ألف شخص من المهاجرين غير الشرعيين إلى النيجر، بموجب اتفاقيّة أمنيّة موقّعة بين البلدين.
هكذا، وبمجرّد حصول انقلاب النيجر الأخير، خشيت الحكومة الجزائريّة من تحوّل النيجر إلى مستنقع من الفوضى، ما سيعني إحاطة الجزائر بالمزيد من المخاطر والتوتّرات الأمنيّة غير المرغوبة. ولهذا السبب، سارعت الجزائر إلى إدانة الانقلاب والتشديد على مشروعيّة الرئيس محمد بازوم، لكنّها رفضت –في الوقت عينه- أي محاولة للتدخّل العسكري الخارجي في مجريات الأمور.
وبهذه الطريقة، كانت الجزائر توازن ما بين رفضها لتطبيع الإطاحة بالحكومات المنتخبة ديمقراطيًا من جهة، وخوفها من انزلاق منطقة غرب أفريقيا إلى حرب شاملة، في حال حاولت دول أفريقيّة أخرى القيام بعمل عسكري ضد الانقلابيين. ويأتي خوف الجزائر من هذا السيناريو مفهومًا، إذا ما عدنا إلى بيان الانقلابيين في مالي وبوركينا فاسو، الذين اعتبروا أنّ أي تدخّل عسكري ضد الانقلابيين في النيجر سيكون بمثابة إعلان حرب ضدّهم، ما سيقود المنطقة إلى حرب إقليميّة دمويّة.
وبالنسبة إلى قطر، فلطالما مثّلت أفريقيا مساحة مهمّة للتوسّع الاستثماري، وهو ما انعكس في شراكات اقتصاديّة متنوّعة أقامها الأمير القطري تميم بن حمد آل ثاني، مع كلّ من رواندا والسنغال وغينيا كوناكري ومالي وساحل العاج وبوركينا فاسو وجمهوريّة غانا وغيرها.
لذلك، وحفاظًا على مصالحها الاستثماريّة والاقتصاديّة مع كل هذه الدول، ذات المواقف المتعارضة، لم تقم قطر بالانحياز إلى أي من أطراف النزاع في النيجر، ما دفعها إلى الإعلان عن موقف عمومي وحيادي. فبيان وزارة الخارجيّة القطريّة بعد الانقلاب اكتفى بدعوة جميع الأطراف إلى “تجنّب التصعيد وتغليب صوت الحكمة وانتهاج الحوار”، دون إدانة الانقلاب أو إبداء أي موقف بخصوص التدخّل العسكري الخارجي المحتمل.
وبالنسبة للبنان، كانت الأولويّة تكمن في الحفاظ على سلامة وحياة مئات المغتربين اللّبنانيين الموجودين في النيجر، ما فرض على وزارة الخارجيّة اللّبنانيّة إعداد قوائم بهؤلاء المغتربين، تمهيدًا لإجلائهم في حال تفاقمت الظروف الأمنيّة. مع الإشارة إلى أنّ الهيئة العليا للإغاثة في لبنان تبلّغت من المغتربين في النيجر عدم رغبتهم بمغادرة البلاد حاليًا، كما فعلت الجاليات الأجنبيّة الأخرى، لكنّ تحضيرات الوزارة جاءت تحسّبًا لحصول اضطرابات عسكريّة كبيرة، في مرحلة لاحقة.
في المقابل، بدأت القوى المتصارعة في ليبيا والسودان بالتحسّب لآثار انقلاب النيجر، على التوازنات العسكريّة في البلدين العربيين. ففي ليبيا، التي تحد النيجر شمالًا، تعتبر الكثير من التحليلات أن الانقلاب قد يصب في صالح قوّات اللّواء اللّيبي خليفة حفتر. فبينما يرتبط حفتر بعلاقة تحالف وشراكة مع مجموعة “فاغنر” الروسيّة، سيؤدّي انقلاب النيجر إلى زيادة النفوذ الروسي في قلب أفريقيا، على حساب النفوذ الفرنسي الآخذ بالانحسار.
وفي السودان، خسرت قوّات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي) حلفيًا مهمًا، مع سقوط محمد بازوم في الانقلاب الأخير. فقوّات الدعم السريع لطالما تلقّت الدعم بالعتاد والجنود من القبائل العربيّة في دول غرب أفريقيا، بالاستفادة من انتماء قائدها حميدتي إلى قبيلة الزريقات، الممتدة في جميع أنحاء هذه الدول. وكجزء من هذه الحالة، وبالتنسيق مع بازوم، استقدم حميدتي الآلاف من المقاتلين العرب من النيجر، لمساندة عمليّات قوّاته في السودان. وهذا ما لن يكون متاحًا، بالسهولة عينها، بعد حصول الانقلاب.
في النتيجة، تنتظر حاليًا جميع هذه الدول التطوّرات الميدانيّة في النيجر، وتحديدًا على مستوى التهديدات التي أطلقتها فالمجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا، واحتمالات حصول تدخّل عسكري من جانب دول المجموعة. فحتّى هذه اللّحظة، لا يزال بعض أعضاء المجموعة يتحفّظون على تنفيذ هذه التهديدات، قبل استنفاد جميع الحلول والمبادرات الدبلوماسيّة، ما يبقي الأمور معلّقة حتّى الآن. أمّا السيناريو الذي يخشاه الجميع، فهو انفلات الأمور أمنيًا داخل النيجر، والانتقال إلى حرب أهليّة قد تزيد من الفوضى التي تشهدها غرب أفريقيا اليوم.