حسين الزعبي
عادت قضية محاكمة المتهمين بارتكاب جرائم حرب في سوريا إلى الواجهة في المحاكم الأوروبية، بعد الكشف عن مطالبة الادعاء العام الألماني بالسجن المؤبد بحق ضابط سابق في جهاز المخابرات السوري، في وقت رفض فيه القضاء الفرنسي طلب استئناف تقدّم به لاجئ سوري لمحاكمة عنصر أمن سابق متهم أيضا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية أثناء خدمته في سوريا قبل أن يهاجر إلى أوروبا مع عائلته، ليُسدِل القرار القضائي الستار على أول تحرّك فرنسي لمحاسبة المتهمين بارتكاب جرائم حرب وانتهاكات ضد المدنيين في سوريا، فيما يشكل مطلب الادعاء الألماني أملا جديدا لسوريين بإحراز قدر محدود من العدالة.
وفي ظل تعطل مسار العدالة الدولي لضحايا انتهاكات حقوق الإنسان، تسعى مراكز حقوقية سورية وغربية للتحقيق في تلك الانتهاكات، وملاحقة مرتكبيها، إذ أصبحت القارة الأوروبية ميدان النزاعات الحقوقية التي جمعت ضحايا التعذيب في سوريا مع جلاديهم تحت أقبية المحاكم.
ملاحقة مجرمي الحرب في أوروبا
بدأ نشاط المجموعات حقوقية، في ألمانيا بشكل خاص، بملاحقة المتهمين بارتكاب انتهاكات مع بداية العام 2019، فالمحاكم الألمانية تبحث بأكثر من 12 قضية تتعلق بجرائم ارتكبت في سوريا، من بينها توقيف الطبيب السوري علاء موسى المتهم بتعذيب المعتقلين في المستشفيات العسكرية التابعة للنظام السوري، وفقاً لتقرير صدر العام الماضي، عن منظمة حقوق الإنسان ريدريس.
وفي فبراير 2021، أصدرت محكمة ألمانية حكماً بالسجن 4 سنوات ونصف السنة على صف الضابط المنشق عن مخابرات النظام إياد الغريب، بعد إدانته بالتورط في اعتقال 30 متظاهراً واقتيادهم إلى مركز اعتقال تعرضوا فيه للتعذيب. واعتبر الحكم، وقتها، الأول من نوعه ضد مسؤول عن جرائم تعذيب تورطت فيها شخصية من قوات النظام.
ومؤخرا، طالب الادعاء الألماني بالسجن المؤبد بحق الضابط السابق في جهاز المخابرات التابع للنظام السوري أنور رسلان الذي يحاكم منذ 23 إبريل 2020، أمام محكمة كوبلنز بتهمة تعذيب معتقلين في مركز احتجاز سرّي تابع للنظام في دمشق، مؤكدا أن رسلان مذنب بارتكاب جرائم ضدّ الإنسانية.
وحسبما نقلت وكالة “فرانس برس”، يُتهم رسلان بالمسؤولية عن مقتل 58 شخصاً، والمشاركة بتعذيب ما لا يقل عن أربعة آلاف آخرين، أثناء عمله في فرع الخطيب بدمشق.
في السياق نفسه قضت محكمة هولندية منتصف تموز الماضي بسجن لاجئ سوري مدة 20 عامًا لارتكابه جريمة حرب في سوريا، في سابقة هي الأولى من نوعها. وجاء الحكم على خلفية تصوير اللاجئ أحمد الخضر تسجيلًا مصوّرًا يظهر فيه وهو يقوم بجريمة إعدام مصوّرة على موقع “يوتيوب” عام 2012، حين أعدم أسيرًا برتبة مقدم من القوات الجوية التابعة للنظام السوري، بعد اقتياده إلى نهر الفرات وإعدامه رميًا بالرصاص.
أما في بلجيكا، فقد بدأ مكتب التحقيق العام الاتحادي، منتصف أغسطس 2021 التحقيق مع ما لا يقل عن عشرة لاجئين سوريين متهمين بارتكاب جرائم خلال عملهم لصالح النظام، بحسب ما نقلته صحيفة “Nieuwsblad” المحلية.
في السياق نفسه، قال المدعي العام الاتحادي في بلجيكا إنه في هذه الأثناء رفعت ما بين “عشر و15 قضية ضد أشخاص يقيمون في بلادنا، ويُشتبه بارتكابهم جرائم حرب “.
لماذا الآن؟
يُرجع المدير التنفيذي للمركز السوري للعدالة والمساءلة محمد العبد الله، في تصريح لـ “فنك” بدء محاكمات مجرمي الحرب في سوريا مبكرا، حتى قبل انتهاء الملف السوري، إلى الاهتمام الأكبر بمواضيع حقوق الإنسان وتطور ملفاته، بالإضافة إلى وصول لاجئين سوريين إلى الدول الأوربية وإتاحة الفرصة أمام الضحايا منهم لتقديم شكاوى ضد جلاديهم الذين يتواجدون أيضا على الأراضي الأوروبية. وأشار العبد الله إلى أن هذه المحاكمات وطنية محلية لا تأخذ الطابع الدولي، فيما أخذت محاكمات سابقة كرواندا ويوغسلافيا السابقة وكمبوديا، طابعا دوليا إذ أقيمت بقرارات أممية.
ويوضح العبد الله أن “محاكمات الملف السوري في أوروبا، محاكمات محلية تعتمد على مبدأ الاختصاص العالمي لحقوق الإنسان، والقضاء المحلي الوطني قائم وموجود ولديه محامون وقضاة وليس بحاجة لإنشاء، فيما يتطلب القضاء الدولي وقتا لتعيين القضاة والمحامين وتأمين التمويل لتلك المحاكم، ما يعني أن ذلك يتطلب وقتا أكبر من المتوقع”، مشددا على أن طبيعة المحاكمات في أوروبا ساهمت بشكل كبير بالتحرك قبل انتهاء الأزمة في سوريا، وساعدت بعض السوريين على بدء تقديم الشكاوى لتحصيل بعض حقوقهم.
أما المحامي والناشط الحقوقي المتابع لمحاكمات كوبلنز في ألمانيا المعتصم الكيلاني، فيرى في تصريح لـ “فنك” أن المسار القضائي لم يبدأ مبكرا، مستندا في كلامه على تصريحات رئيسة الآلية الدولية المستقلة والمحايدة من أجل سوريا، القاضية كاترين ماركي أويل، والتي أشارت خلالها إلى أن عدد توثيقات الجرائم التي حدثت في سوريا هي الأكبر على الإطلاق من حيث توثيق الانتهاكات في العالم. وبحسب الكيلاني، كان لابد من أن يتم تتويج هذه الجهود لتصل لمرحلة ملاحقة مجرمي الحرب عبر الاستفادة من اختصاص الولاية القضائية العالمية الذي تتمتع به الدول الأوروبية.
يشار إلى أن القاضية الفرنسية السابقة كاترين ماركي أويل رئيسة الآلية الدولية المحايدة والمستقلة، كانت قالت إن مكتبها تلقى 15 طلبا من هيئات قضائية وطنية للتعاون في قضايا مرتبطة بسوريا في خمس بلدان وجمعت مليون سجل في المجمل.
يذكر أن الآلية الدولية تأسست في عام 2016 للتحقيق والمساعدة في محاكمة مرتكبي أخطر الجرائم في الحرب السورية.
ولاية قضائية عالمية
أصبحت الولاية القضائية العالمية السلاح المختار للجهود الرامية إلى تحقيق العدالة في الجرائم المرتكبة في سوريا، لأن إنشاء محكمة مخصصة مماثلة للمحكمة الجنائية الدولية لرواندا والمحكمة الجنائية الدولية ليوغوسلافيا السابقة يتطلب قرارًا من مجلس الأمن.
وبما أنّ سوريا ليست طرفًا في المحكمة الجنائية الدولية، فإنّ الإحالة إلى لاهاي سيتعين عليها أيضًا أن تمرّ عبر مجلس الأمن. وهذا ما لم يحدث بسبب الفيتو الروسي.
توفر الولاية القضائية العالمية طريقة لمعالجة الإفلات من العقاب على الجرائم الخطيرة، عندما لا تفعل المحاكم الأخرى ذلك أو لا تستطيع ذلك. وينعقد الاختصاص العالمي عندما تجعل الدول تشريعاتها المحلية متوافقة مع هذا الالتزام الدولي بحيث تقوم بإدماج الاختصاص الجنائي العالمي في تشريعاتها الجنائية وقواعد الإجراءات الوطنية بالإضافة إلى أن بعض التشريعات تلزم وجود المتهم على أراضيها وتشريعات أخرى تكتفي بوجود الضحايا.
في هذا الإطار لم تكن ألمانيا وحدها من فتحت باب التحقيقات والمحاكمات ضمن هذا الاختصاص فهناك العديد من الدول كيفت قوانينها بما يتناسب مع القانون الدولي الإنساني والقانون الدولي لحقوق الإنسان ومنها السويد والنرويج.
محاكمات عادلة؟
بدأت قصة المحاكمات في ألمانيا منتصف شهر شباط من عام 2019، عندما اعتقلت الشرطة أنور رسلان وإياد الغريب، اللذين غادرا سوريا عام 2012، حيث كان الأول رئيسا للتحقيق في الفرع 251 المسمى “فرع الخطيب” في دمشق، والثاني كان قائدا لمجموعة مداهمات من ثلاثين عنصرا تابعة لنفس الفرع.
بالتزامن مع ذلك، أجرت صحيفة “دير شبيغل” مقابلات مع معتقلين سابقين في “فرع الخطيب” وباتوا الآن لاجئين في ألمانيا، حيث سردوا تفاصيل التعذيب الوحشي الذي تعرضوا له. وقال بعضهم إن “رسلان” كان يشرف جزئيا على التعذيب، وإن “الغريب” ودوريته اعتقلوا نحو ألفي شخص خلال العام الأول للثورة، وتم اقتيادهم إلى زنازين التعذيب.
وفي اليوم نفسه للمحاكمة تم اعتقال المدعو “عبد الحميد. أ”، في محيط باريس، ثم أعلن القضاء اتهامه بارتكاب جرائم ضد الإنسانية بين عامي 2011 و2013 أثناء عمله في مخابرات النظام، وذلك بعد سنة من بدء التحقيقات معه في النيابة العامة بباريس، في إطار تحقيق مشترك مع ألمانيا.
هذه القضايا أثارت آراء متعددة بين السوريين، بين من يعتبرها بداية على طريق العدالة والقصاص من مجرمي الحرب، وآخرون يرون أنها تمثل عدالة منقوصة أو انتقائية، خاصة أنها تستهدف منشقين عن النظام السوري والفصائل المسلحة منذ سنوات، وتتجاهل رموز النظام وكبار قادته وقيادات الفصائل الذين ما زالوا على رأس عملهم حتى اليوم.
المحامي المعتصم الكيلاني يشير إلى أن “الهدف الأساسي من هذه المحاكمات هو تنبيه المجتمع الدولي إلى ضرورة محاسبة مرتكبي هذه الجرائم التي وقعت في سوريا وإلا سنكون أم احتمالية تكرارها، نتيجة إدراك هؤلاء المجرمين أن لا محاسبة بانتظارهم”.
وفي تعليقاته على مدى عدالة تلك المحاكمات، يؤكد الكيلاني أن ذلك مرتبط بالإجراءات القانونية التي تفرضها الدول الأوربية على بدء التحقيقات، حيث لا يمكن البدء بأي تحقيق حول أي مشتبه به دون وجود شهود وضحايا مباشرين بالإضافة إلى الأدلة الكافية لإدانة هذا الشخص، مشيرا إلى أن الشرطة المحلية المختصة بجرائم الحرب تقوم بإجراء عملية تحقيق طويلة ومعمقة، بحيث يبقى القرار النهائي للقضاء العادل في أوروبا، وفي حال اجتمعت كلّ تلك المعطيات المذكورة فإنه يمكن القول إن تلك المحاكمات تتمتع بقدر عال من العدالة.
في هذا السياق، يؤكد محمد العبد الله أن هذه المحاكمات عادلة، لأنها تجري في بلدان لديها تاريخ طويل في القضاء المستقل والمحاكمات العادلة، كما تتميز بفصل في السلطات بمعنى أن الأجهزة الأمنية لا تتدخل بإجراءات القضاء بل تخضع له. بالإضافة إلى ذلك، يشير العبد الله إلى أن لدى تلك الدول ضمانات لعدم استخدام الإكراه أو التعذيب للضغط على المدعى عليهم، بل تمنحهم الحق في توكيل محامين، معتبرا أن كل ما ورد هي ضمانات للوصول لمحاكمة عادلة، بالنسبة للمشتكين والمتهمين المدعى عليهم.
إحداث تغيير في الملف السوري
يستبعد العبد الله أن تُحدث هذه المحاكمات أي تغيير على الملف السوري سياسيا من ناحية المفاوضات أو على نتائج العملية السياسية، لكنه يعتقد أنها ستترك أثرا إيجابيا على مسألة مكافحة الإفلات من العقاب وتعزيز مفهومي المساءلة والمحاسبة، مشيرا إلى أن المحاكمات والقضاء خارج الإطار الدولي لن يشكل أي عامل ردع لوقف الجرائم، خاصة لدى الأنظمة القمعية والأمنية.
عدالة انتقالية؟
العدالة الانتقالية لا تشمل صيغة واحدة من العدالة، سواء كانت جنائية أو إجراء مصالحات أو وتعويضات بل هي مزيج ما تم ذكره، حسبما يقول “العبد الله” الذي يعتبر أن المحاكمات التي فرضها السياق على السوريين، رغم أنها محلية إلا أنها شكل من أشكال العدالة الانتقالية، لكن ليست التي يبحث عنها السوريون.
بدوره، يقول مدير الشبكة السورية لحقوق الإنسان فضل عبد الغني لـ “فنك” إن هذه المحاكمات خطوة محدودة جداً في مسار العدالة، لأن المتهمين فيها، من أسفل هرم النظام السوري، كما أن مسؤولي النظام الكبار لن يسافروا إلى دول قد يتعرضون فيها للمحاكمة.
لكن من جهة أخرى، يرى عبد الغني أن هذه القضية مركبة، لأن هؤلاء “لديهم ضحايا، خاصة رسلان الذي كان يتولى منصباً مهماً في استخبارات النظام، وهو رئيس فرع التحقيق في الفرع 215”.
كما أنه، أي رسلان، يُعَد، والحديث لعبد الغني، “جزءاً من المنظومة الأمنية للنظام، وإدانته هي إدانة لكل النظام، لأنه كان يمتثل لأوامر النظام الصادرة من المستوى الأعلى. والمحاكمة كشفت كيف يتعامل النظام مع المعتقلين”.