وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

التغيرات الحضرية في بغداد وتجزئة الأراضي السكنية في فترة ما بعد الحرب

التغيرات الحضرية في بغداد
بغداد: صورة علوية لبرج الساعة بميدان الحارثية في الجانب الغربي من بغداد – 10 سبتمبر 2014.

دينا عبد الرزاق

تعرضت المناطق الحضرية في العراق منذ الغزو الأمريكي عام 2003 إلى تغيرات جوهرية ، فقد أدت أوضاع ما بعد الحرب إلى ظهور تحديات كثيرة سيّما في انعكاس الواقع الحضري في البلاد.

وفي إطار اهتمام فنك بتسليط الضوء على التغيرات الحضرية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، تعرض في هذا المقال لمحة عامة عن أزمة الإسكان في بغداد وتداعياتها على الأراضي الزراعية والنسيج الحضري، إضافة إلى تسليط الضوء على بعض سبل العيش في المدينة.

ملخص

تعاني المدن العراقية، بخاصة العاصمة بغداد، من تداعيات سقوط البلاد في حالة من الاضطراب الذي يهدد حياة المواطنين. وترجع هذه الأزمة إلى عوامل عدة على رأسها عجز المدينة أو تخبطها في إمكانية وضع خطط تنموية متكاملة، فضلًا عن ضعفها أمام مواجهة مخاطر النّموّ السّكاني السريع.

يتناول هذا المقال أزمة الإسكان، وتداعيات التمدد الحضري على الأراضي الزراعية، وتحديات النمو في ظل غياب التخطيط، وكذلك التجاوزات الحضرية مثل تجزئة الوحدات السكنية.

ويمثل التمدد الحضري مشكلة يلزمها معالجة خاصة. إذ تعد هذه المشكلة أزمة خطيرة تهدد الحياة الحضرية في بغداد، وتهدد بتآكل هوية المدينة الحضرية وظهور مبانٍ جديدة لا تتناسب مع المعايير الحضرية العراقية، زد على ذلك أن هذه المشكلة تضاعف الضغط على البنية التحتية في المدينة، ولهذا الأمر تداعيات سلبية على جودة الحياة فيها، فضلًا عن تأثيره على البيئة والظروف المعيشية.

وسيتناول هذا المقال بالتحليل تلك العوامل التي تساهم في التمدد الحضري وتجزئة المساحات السكنية، كما سيوضح المقال كيف تؤثر هذه التحديات على مدينة بغداد.

مقدمة

شهد تعداد سكان بغداد نموًّا سريعًا منذ عام 2003، إذ ارتفع عدد سكان المدينة بنسبة 40% ليصل إلى 8 ملايين نسمة اليوم. ولما كانت المدينة تحظى باستقرار نسبي وفرص اقتصادية أفضل مقارنة بباقي مناطق العراق، فقد تحولت بغداد إلى وجهة للنازحين من ريف العراق وداخله، إضافة إلى قدوم المهاجرين إليها من بلدان مجاورة، ما أدّى إلى تضخم الطلب على السكن وهذا ما لا يمكن تلبيته إلا من خلال التوسع العمراني غير الرسمي.

فقد أمسى السبيل إلى تلبية ذلك الطلب بناء وحدات سكنية غير قانونية سواء على الأراضي الزراعية أو أراضٍ تمتلكها الحكومة أو تلك العائدة إلى ملكية خاصة.

لم تتمكن الأجهزة الحكومية بعد عام 2003 من مواكبة النمو السكاني المتسارع في بغداد، الأمر الذي أدى إلى عجزها عن توفير بدائل سكنية تضعها في متناول الناس، وقد فشلت في إدارة التوسع العمراني على النحو اللازم. ويرجع تزايد معدلات التوسع الحضري غير الرسمي إلى ضعف الأجهزة الإدارية، وسوء الإدارة، وغياب التخطيط الحضري الحديث، فضلًا عن تفشّي الفساد. ورغم ذلك نجد أنّ العراق لا يزال يتمتع بوفرة في الموارد المالية اللازمة التي يمكنه توظيفها في إعادة الإعمار.

عادة ما يعوق الفساد الإداري في البلاد إقرار الإصلاحات اللازمة، ففي الماضي كانت الحكومة تسند المشاريع التنموية مباشرة إلى المقاولين المقربين من المسؤولين الحكوميّين أو المنظمات العسكرية أو الجماعات التي تحميهم من القانون. وكانت النتيجة أن تفشى الفساد في مشاريع كثيرة لم تحقق أي إنجاز ملموس.

وعلى هذه الخلفية، ارتفعت أسعار العقارات والأراضي السكنية ومواد البناء في بغداد وغيرها من المدن العراقية ارتفاعًا كبيرًا. وارتفع كذلك متوسط سعر المتر المربع للمنازل في بغداد ليبلغ 4 آلاف دولار أمريكي، بينما بلغ متوسط سعر المتر المربع للشقق 1000 دولار أمريكي؛ أي عشرة أضعاف الأسعار في عام 2002. وينطبق الأمر عينه على الإيجارات التي ارتفعت كثيرًا في بغداد، ففي أحياء وسط بغداد بلغ إيجار منزل مساحته 100 متر مربع 600 دولار شهريًا.

وفي ظل ذلك الوضع، صارت أزمة الإسكان في بغداد أمام تحديين رئيسين. أوّلهما أن سكان المدينة يبنون وحدات سكنية على الأراضي الزراعية مخالفة للقانون مستفيدين من الانخفاض النسبي في أسعار الأراضي الزراعية مقابل الأراضي المخصصة للسكن.

أما التحدي الثاني فهو أن بعض مالكي العقارات بدؤوا في تجزئة وحداتهم السكنية إلى وحدات أصغر من أجل الاستفادة من ارتفاع أسعار السكن في المدينة، وهذا ما يؤدي إلى تفتيت المساحات السكنية.

وأدت هاتان المشكلتان إلى تدمير هوية المدينة العمرانية وتآكل سماتها المميزة وضياع سحرها.

تغيير المعالم الحضرية

تمّ تشييد معظم الأبنية السكنية بعد 2003 على نحو مخالف للقانون، إذ انتشر البناء العشوائي على الأراضي الزراعية والأراضي المملوكة للدولة. وأصبح هذا الأمر يمثل مشكلة كبرى في المدن الرئيسة وبخاصة بغداد ما يستدعي تدخلًا سريعًا. وتتركز التعديات على المناطق الزراعية المحيطة ببغداد حيث تعرض أكثر من نصف الأراضي إلى تعديات البناء بين عامي 2010 و2015.

وأثرت هذه التعديات على تركيب المدينة بخاصة بعد شروع العديد من المطورين العقاريين في إنشاء تجمعات سكنية على الأراضي الزراعية من دون الحصول على ترخيص أو الالتزام بقوانين التخطيط والبناء. ونتيجة لذلك انتشرت الأحياء السكنية الخالية من معظم الخدمات الأساسية على الأراضي الزراعية.

ويحاول المطورون والوكلاء العقاريون إنشاء عدد كبير من الوحدات السكنية بأقل قدر من الاستثمارات لزيادة أرباحهم من هذه الأنشطة غير المشروعة، ما يعني أن المنازل لا تستوفي معايير السلامة المطلوبة ولا تلبي احتياجات السكان لتوفير ظروف معيشيّة لائقة. كما يؤدي ضعف البنية التحتية إلى تفاقم الأزمات المرتبطة بقلة الخدمات التي تؤدي بالتالي الى تدني سبل العيش الكريم.

تشكل تلك التجمعات السكنية العشوائية تهديدًا خطيرًا للزراعة وللحزام الأخضر المحيط ببغداد. إذ أدى تآكل هذه المساحات الخضراء إلى التصحر واشتداد العواصف الرّملية وزيادة معدلاتها.

وينتج عن استغلال الأراضي الزراعية العشوائي تحديات عدة؛ مثل الأزمات البيئية والصحية والمخاطر الاقتصادية والمشكلات الأمنية والاجتماعية، فضلًا عن الإضرار بالنسيج الحضري.

العشوائية والتجزئة

لم تقتصر تداعيات أزمة الإسكان على الأراضي الزراعية، بل امتد أثرها إلى المناطق السكنية في بغداد. إذ أدى ارتفاع الطلب على السكن واقترانه بنقص المعروض إلى تغيير سمات المدينة الحضرية على نحو كبير.

وانتشرت المنازل العشوائية داخل بغداد نتيجة تجزئة الأراضي السكنية بهدف التقليل من مساحة الوحدات. ولم يكن مفهوم تجزئة المنازل الكبيرة مألوفًا داخل المجتمع العراقي حتى وقت قريب. فقبل عام 2003، كانت الفيلات في بغداد تُبنى في وسط قطعة الأرض وتُحاط بالحدائق. وتمتعت هذه الحدائق بمكانة خاصة عند الأسر في بغداد لأن انتشار المساحات الخضراء ساهم في الحفاظ على البيئة وارتقى بجودة الحياة في العاصمة.

ولكن غياب الرقابة وتراجع سلطة القانون سهَّل على المواطنين تبني سياسة تجزئة المنازل للأسباب التي سبق ذكرها. وتوضح صورة بالأقمار الصناعية حجم التغيرات التي حدثت في إحدى الضواحي السكنية في بغداد بين عامي 2002 و2021. ولم يقتصر أثر هذه التغيرات على تدمير النسيج الحضري في المدينة، بل امتد ليؤثر على ظروف السكّان المعيشية.

وقد أدت تجزئة الأراضي السكنية في المدينة إلى التكدس السكاني، وهذا ما أدّى إلى تداعيات سلبية على التركيب الحضري والخدمات الأساسية وجودة الحياة عمومًا. وأعقب ذلك ظهور مشكلات في الإضاءة الطبيعية والتهوية في المنازل إلى جانب زيادة الضغط على شبكات الصرف الصحي وغيرها من الخدمات مثل مياه الشرب والكهرباء والتخلص من المخلفات، إذ لم تُصمم تلك المرافق لتستوعب مثل هذه الكثافة السكانية.

يُقدر برنامج الأمم المتحدة للمستوطنات البشرية أن أكثر من 70% من سكان العراق يعيشون في مدن تتمدد بوتيرة سريعة. ولذلك، فإن معظم سكان العراق يعيشون في ظروف سكنية سيئة.

وفقًا للمفوضية السامية لشؤون اللاجئين، بعد سنوات من الاضطرابات والصراعات الشديدة، لا يزال حوالي 1.2 مليون عراقي مشردًا داخل بلادهم. لم يتمكن أكثر من 90 في المائة من السكان المشردين من العودة إلى ديارهم لأكثر من 3 سنوات، وتم تشريد حوالي 70 في المائة لأكثر من 5 سنوات. بالإضافة إلى ذلك، يستضيف العراق حوالي 280,000 لاجئ من مختلف البلدان. هذا يخلق صعوبة في إيجاد سكن مناسب لكل من المجتمعات المضيفة والأشخاص المشردين داخليًا.

ترجع المشكلة الرئيسة المسببة تلك الفوضى إلى أن الحكومة لا توفر الوحدات السكنية بالقدر الكافي، فهي تقدم نحو 25 ألف وحدة سكنية سنويًا، بينما يتطلب الوفاء باحتياجات السكان أكثر من 3 ملايين وحدة وفقًا لوزارة الإعمار العراقية. وأدى ذلك إلى تكدس السكان وتدهور مستوى المعيشة، إلى جانب الآثار السلبية على صحة السكّان النفسيّة والجسديّة.

ما بين عامي 2002 و2021، شهدت هذه الضاحية السكنية في بغداد تغييرات كبيرة في تركيبها العمراني نتيجة مخالفة شروط البناء وتجزئة المنازل الكبيرة. المصدر (جوجل إيرث – 2022)

وزد على ما ذكرناه، أن عدم التزام المواطنين باللوائح والقوانين أدى إلى تفاقم المشكلات الأمنية والاجتماعية، ما يهدد لاحقًا السلامة العامة ويتسبب في انقسامات في المجتمع. وثمة مخاطر اقتصادية تتمثل في التكلفة المستقبلية التي ستتحملها السلطات المعنية لإعادة بناء حياة المواطن واستعادة الرفاه إلى جانب الحفاظ على التركيب العمراني والمعماري في المدينة

خاتمة

يقع على بلدية بغداد ومجالس البلديات المحلية دور محوري في الحد من التمدد العمراني العشوائي والتعديات الحضرية. ويمكن تحقيق ذلك من خلال منع البناء من دون ترخيص بالتوازي مع توعية السكان بمخاطر هذه الأنشطة التي تخالف القانون. وغني عن البيان أن للوائح والقوانين دورًا مهمًا في تقليل التعديات باعتبارها رادعًا للمخالفين.

ومن الضروري أيضًا البحث عن حلول جديدة لأزمة الإسكان، بما في ذلك تبني استراتيجيات البناء الرأسي بدلًا من التوسع الأفقي لتقليل مساحة الأرض اللازمة للإنشاء، كما ينبغي حماية الأراضي الزراعية المنتجة وتوجيه أعمال الإنشاء إلى المناطق غير الصالحة للزراعة.

وفي إطار جهود تحسين الوضع الحالي، تجدر الإشارة إلى أن الحكومة العراقية الحالية دشنت عددًا من المشاريع السكنية. وتقول سهى النجار رئيسة الهيئة الوطنية للاستثمار إن عام 2021 شهد إصدار 130 ترخيصًا لمشاريع الاستثمار العقاري، ويجري تنفيذ مشروعات عديدة كانت قد تعثرت من قبل. وتمثل هذه الجهود خطوة على طريق مواجهة تحديات الإسكان في بغداد وتحسين ظروف معيشة سكانها.

المراجع

Repeva, A. 2021. Informal settlements in Baghdad city. EDP Sciences. E3S Web of Conferences 263, 05001 (2021).
https://www.e3s-conferences.org/articles/e3sconf/pdf/2021/39/e3sconf_form2021_05001.pdf

Kahachi, H. and Jafar, A. 2015. Urban sprawl on agricultural land in Iraq – The factors and impacts: A study of Karkh area in the city of Baghdad. International Journal of Environment and Water. ISSN 2052-3408. Vol 4 Issue 2,2015.
https://www.researchgate.net/publication/323726563_Urban_sprawl_on_agricultural_land_in_Iraq_-_The_factors_and_impacts_A_study_of_Karkh_area_in_the_city_of_Baghdad

Rabee, M. (2020). Fragmentation of residential units in Baghdad city. Al-Adab Journal, 1(132), 159-184. https://aladabj.uobaghdad.edu.iq/index.php/aladabjournal/article/view/765

Al-Tamimi, Sh. 2014. The Role of Urban Sprawl on Agricultural Uses of Land Surrounding the City of Baghdad. Journal of Engineering and Sustainable Development (JEASD) 2014, Volume 18, Issue 6, Pages 19-44.

Al Qeisi, S., Hussein, M., Abaas, O., 2012. The city of Baghdad is between the reality of rapid growth and the relay of master plans and lack of integration of the planning process.
https://www.researchgate.net/publication/332036511_The_city_of_Baghdad_between_the_reality_of_rapid_growth_and_the_relay_of_master_plans_and_lack_of_integration_of_the_planning_process

Rawaf, S., Hassounah, S., Dubois, E., Abdalrahman B., Raheem, M., Jamil, H., and Majeed, A., 2014. Living conditions in Iraq: 10 years after the US-led invasion. J R Soc Med. 2014 May;107(5):187-193. DOI: 10.1177/0141076814530684. PMID: 24833655; PMCID: PMC4023518.
https://www.ncbi.nlm.nih.gov/pmc/articles/PMC4023518/

الروابط الإلكترونية

UN-Habitat, Iraq Urban Issues. https://unhabitat.org/iraq-urban-issues

user placeholder
written by
Kawthar Metwalli
المزيد Kawthar Metwalli articles