وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

بحار الشرق الأوسط وشمال إفريقيا..عالم جديد يفرض واقعًا جديدًا

تواجه بحار الشرق الأوسط وشمال إفريقيا عواقب وخيمة من الصيد الجائر وتغير المناخ والسياحة، مما يسلط الضوء على الحاجة الملحة لتدابير الحفاظ على البيئة.

بحار الشرق الأوسط
صيادون مصريون يلقيون الشباك من قاربهم في النيل بالعاصمة القاهرة. محمد الشاهد / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

يوم الثلاثاء في الثامن من شهر يونيو 2023، تعرضت إحدى الأسر الروسية إلى حادثة مؤسفة عندما كانت تقضي عطلتها على أحد شواطىء ساحل البحر الأحمر في مصر.

فبينما كان أفراد العائلة يمارسون السباحة بالقرب من أحد فنادق الغردقة، تعرض الروسي فلاديمير بوبوف (23 عامًا) إلى هجوم شرس من سمكة قرش من نوع النمر ما أفضى إلى وفاته على الفور.

سرعان ما انتشرت على وسائل التواصل الاجتماعي مقاطع الفيديو التي نقلت الحادثة، وأرفقت بالكثير من التعليقات والفرضيات التي حاولت شرح ما حدث أثناء الهجوم مبينةً أن صديقة بوبوف نجت من الحادثة دون أن تتعرض لأي أذى.

بعدها سارعت السلطات الى التأكيد أن سمكة القرش قتلت مباشرة بعد الحادثة، ونُقلت إلى أحد المختبرات المختصة “لفحصها ومعرفة كل الأسباب التي أدت الى وقوع الحادث”.

شهد ساحل البحر الأحمر في مصر ارتفاعًا في أعداد السياح الوافدين الى المنطقة، وهذا ما أظهره ازدياد عدد المنتجعات السياحية على امتداد الساحل. لكن بعض الخبراء يرون أن لهذا النمو تأثيرًا سلبيًا على الحياة البحرية وبخاصة على أسماك القرش. وفي شهر يوليو من العام 2022 وقعت حادثتان منفصلتان أفضت كل منهما إلى مقتل سائح قبالة سواحل الغردقة. ويُعتقد أن الصيد الجائر والنشاط السياحي من بين الأسباب المحتملة التي تؤدي الى تزايد وتيرة هذه الهجمات.

لم تكن البيئة البحرية في مصر هي الوحيدة التي تعرضت إلى الضرر بسبب تزايد أنشطة الصيد غير الشرعية والتلوث والتغير المناخي، فمثل هذه المشكلات تتفاقم في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا بوجه عام. وبحسب الخبراء، فإن استمرار إهمال هذه المشكلات قد يؤدي إلى تفاقمها وامتدادها إلى باقي المنطقة في مدة قصيرة.

الأسباب المحتملة

تقع أشهر المنتجعات الساحلية المصرية على طول ساحل البحر الأحمر بما في ذلك الغردقة وشرم الشيخ. وتحظى هذه الوجهات بإعجاب السيّاح الأوروبيين، ففيها مناطق شعاب مرجانية وحياة بحرية مدهشة تجذب الناس إلى ممارسة أنشطة مثل الغطس.

وقد بذلت السلطات المصرية جهودًا حثيثة لإنعاش صناعة السياحة نظرًا إلى أهميتها البالغة والتي تأثرت بشدة نتيجة انتشار جائحة كورونا والحرب في أوكرانيا. ومع ذلك، لم تبادر السلطات الى اتخاذ أي إجراءات وقائية من هجمات القرش رغم تكرار الحوادث.

ففي عام 2020، فقد فتى أوكراني ذراعه بسبب هجوم آخر من سمكة قرش في الغردقة، كما فقد مرشد سياحي مصري ساقه. وقبلها بعشر سنوات، وقع هجوم مشابه في سواحل شرم الشيخ في شبه جزيرة سيناء وأسفر عن مصرع سائحة أوروبية وإصابة آخرين إصابات خطيرة.

ويمكن تفسير هجمات القرش بميلها إلى التجمع في المياه الضحلة خلال موسم التزاوج ووضع البيض والذي يمتد من منتصف أبريل إلى نهاية يوليو، وفقًا لما ورد في تقرير من لجنة تضم خبراء من محميات البحر الأحمر وجمعية حماية البيئة والإنقاذ بالغردقة (هيبكا) والذي صدر عام 2022. ويُرجح كذلك أن أسماك القرش تهاجم البشر بحثًا عن الطعام.

كما يُعتقد أن لهجمات القرش علاقة بالصيد الجائر في البحر الأحمر، وإساءة استخدام مواقع الغطس، وإطعام الناس الأسماك، وهذا ما يحدث عادة بهدف جذب أنواع الأسماك المختلفة والتفاعل معها وليس لاستفزاز أسماك القرش بالتحديد. ولكن حين تكتشف أنواع الأسماك المختلفة مصادر جديدة للغذاء، تبدأ بالاقتراب من الشواطئ والمناطق الضحلة وتجذب معها أسماك القرش التي تتغذى عليها.

وما تزال أسباب الهجوم الأخير قيد الدرس، إذ أعلنت السلطات تحنيط القرش وعرضه في معهد علوم البحار ومحميات في البحر الأحمر.

وورد في تقرير المعهد أن الهجوم ربما يكون قد وقع نتيجة الصيد الجائر الذي تسبب في نقص الأسماك وبالتالي نقص الغذاء المتاح لأسماك القرش، ما يعني أن مثل هذه الحوادث قد تزداد في منطقة البحر الأحمر.

وبحسب ما ذكره هاني صادق، الناشط في مجال رصد المخالفات البيئية في البحر الأحمر، لموقع سكوب إمباير: “لم يتضح حتى الآن السبب الحقيقي وراء هجوم سمكة القرش على السائح الروسي، لكن الصيد الجائر يؤدى إلى نقص الأسماك، وبالتالي لن تجد أسماك القرش ما يكفيها من طعام. ولا يعني ذلك أن القروش تستبدل طعامها من الأسماك بافتراس البشر، وإن حدث حادث عارض فلا يعتبر مقياسًا”.

ظاهرة خطيرة

وفي حديثه مع فنك، قال الخبير في شؤون البيئة وزميل مركز ساخاروف أشرف شيباني إن تنوع البيئة المائية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا يتعرض إلى خطر كبير نتيجة مجموعة من العوامل ومنها غياب التخطيط الطويل الأمد وضعف تطبيق القوانين واللوائح والتغافل عن متابعة تطبيق السياسات البيئية على النحو اللازم. وتشمل هذه العوامل أيضًا ارتفاع درجات حرارة المحيطات نتيجة التغير المناخي، وهذا ما يُعرِّض أنواعًا كثيرة من الأحياء المائية إلى خطر الانقراض.

وضرب شيباني مثلًا بالسلطعون الأزرق الذي غزا سواحل تونس منذ عام 2014 للدلالة على أن “بعض أنواع الأحياء المائية المحلية التي تواجه خطر الانقراض، بينما تواصل بعض الأنواع الغريبة اختراق المنطقة والانتشار فيها، وهذا ما يخل بالتوازن البيئي البحري الذي كان قائمًا”.

وفي بحث نُشر عام 2022 بعنوان “السلطعون الغازي: تهديد للصيادين في تونس“، يشير شيباني إلى أثر تزايد أعداد السلطعون الأزرق الذي يغزو سواحل تونس. فرغم شيوع التوقعات بأن وجود مثل هذا النوع الغريب على المنطقة لن يطول، خابت الظنون وبقي السلطعون الأزرق وقتل غيره من الكائنات البحرية. ويُصعِّب ذلك الأمر مهمة احتواء تأثير تواجده في المنطقة، إذ أصبح السلطعون الأزرق في موسم الذروة يمثل أكثر من 70% من ناتج الصيد المحلي. وقد لجأ بعض الصيادين إلى صيد السلطعون الأزرق وتصديره إلى الخارج لتعويض الخسائر المحتملة.

ووفقاً لشيباني، يمكن للصياد أن يبيع كيلوجرامًا واحدًا من السلطعون الأزرق مقابل ما يتراوح بين 0.30 و0.50 سنتًا للشركات التي تتولى بدورها تغليفه وتصديره إلى بلدان عديدة، وعلى رأسها إيطاليا وأستراليا والولايات المتحدة. بعدها يُعاد بيعه بثمن أعلى، فمثلًا تبيع سلسلة متاجر كارفور في تونس الكيلوجرام الواحد بسعر 1.40 دولارًا.

وشكلت أعداد السلطعون المتزايدة مصدرًا للدخل من باب المصادفة لسكان الدول المطلة على البحر المتوسط، بخاصةٍ غزة (فلسطين) والعرائش (المغرب) وكذلك للسيدات من المجتمعات المهمشة العاملة في السواحل التونسية.

وقال شيباني إن “الحكومات لم تتمكن من اتخاذ إجراءات فعالة للتعامل مع المشكلة، وما تزال استجابتها بطيئة”. ويؤكد شيباني أن البشر لا يمكنهم التدخل في العملية الطبيعية التي تتغذى فيها كائنات بحرية على كائنات من نوع آخر، ولكن “يمكننا العمل على حفظ نقاء المياه ومكافحة التلوث، ومراقبة عمليات الصيد، فضلًا عن تنظيم حركة السفن التي تدخل المياه الإقليمية”.

وأضاف شيباني أن هذه السفن عادة ما تسحب مياه الصابورة من مكان ما وتصرفها في مكان آخر للحفاظ على توازنها خلال عملية تحميل البضائع وتفريغها، وهذا ما يؤدي إلى نقل بعض الكائنات والنباتات البحرية إلى أماكن جديدة ومن ثم يؤثر على المياه تأثيرًا سلبيًا.

مواجهة الوضع الجديد

وعلى سواحل الشام في البحر المتوسط، يواجه لبنان أزمة مماثلة.

فقد تسبب حفر قناة السويس قبل 150 عامًا في هجرة أكثر من ألف نوع من الأسماك والطحالب والرخويات من المحيطين الهندي والهادي إلى منطقة البحر المتوسط.

وقد رُصدت العديد من الكائنات البحرية الآسيوية التي ليس لها مفترسات في الطبيعة البحرية اللبنانية مثل السلطعون الأزرق والحبار والسمكة الزَرَّاقَة. وتتنافس تلك الكائنات على الغذاء مع الكائنات التي تعيش في المنطقة مثل أسماك البربوني الحمراء والهامور، كما تتغذى على بيض الأسماك الأخرى.

وفي سبيل الهرب من هذا الخطر، تهاجر الأسماك نحو الشمال أو نحو المياه العميقة، بينما يلجأ الصيادون إلى استبعاد الأنواع غير المرغوب فيها مثل السلور وسمكة الأسد وسمك البالون من عملية الصيد وإعادتها إلى البحر. ولكن منظمة يوميات المحيط، وهي منظمة بيئية محلية، قررت معالجة هذه المشكلة من خلال تشجيع المطاعم على تقديم تلك الأنواع البديلة من الأسماك.

وقالت مؤسسة المنظمة جينا تلج لصحيفة واشنطن بوست: “كان الصيادون خائفين للوهلة الأولى حين أخبرناهم عن سمكة الأسد. فقد كانت سمكة جديدة بالنسبة لهم ولها لمعة وشكل مخيف، كما أن لديها أكثر من سلسلة ظهر واحدة”. وكانت خطة تلج تعتمد على توعية الصيادين بالطرق الصحيحة لصيد الوافد الجديد، بالإضافة إلى إقناع المطاعم بإضافتها إلى قوائمهم وتسويقها على النحو المناسب للجمهور.

أما عالمة الأحياء البحرية روان الجمَّال فترى أن الإجراءات الوقائية وإجراءات الحفاظ على البيئة أهم وأولى من إجراءات التكيف والتعايش مع الوضع الجديد.

وفي حديثها مع فنك قالت الجمال: “الصيف الماضي شهد نجاح ثلاثة غطاسين في تقليل عدد مثل هذه الأنواع [الغازية] على نطاق واسع، وأصبحت أعدادها حاليًا أقل مما كانت عليه. وأضافت الجمال ” حين يصطاد الصيّادون سمكة البالون يقتلونها ويلقون بها في البحر، وهذا ما يقلل فرص تكاثرها. وثمة إجراءات أخرى من بينها مراقبة الملوثات التي تلقيها السفن والقوارب وفحص مياه الصابورة في السفن”.

وتؤكد الجمال أنّه نتيجة قرب لبنان الاستراتيجي من البحر قد أصبحت سواحله معرّضة إلى ضغوط شديدة بفعل أنشطة البشر المضرة بالبيئة، بما في ذلك خصخصة المجال البحري العام والتلوث (إلقاء الفضلات الصلبة ومياه الصرف في البحر)، بالإضافة إلى استصلاح الأراضي البحرية وبناء الموانئ – لقوارب الصيد والسفن لأغراض ترفيهية- فضلًا عن الزيادة السكانية التي تنعكس على التمدد الحضري المفرط. ويرجع جزء كبير من هذه الضغوط إلى تعديات المنتجعات السياحية على المجال البحري العام ما أدى إلى تآكل الشواطئ وتراجع المساحات المتاحة للجمهور العام.

وتضيف الجمال: إنّ التعديات على هذه الشواطئ تعني تدمير الصخور والحواجز المرجانية التي تحتضن أنواعًا متعددة من الكائنات البحرية. إذ تمثل هذه الشعاب ملجأ للكائنات البحرية تفر إليها هربًا من السلطعون وغيره من المفترسات البحرية الأخرى. وبعد تدمير تلك الملاجئ الطبيعية تصبح الأسماك بلا مأوى أو طريقة للدفاع عن نفسها ضد حركة الأمواج. وتؤثر الأمواج الأعنف على حياة البشر لأن الحواجز الصخرية تمتص نحو 70% من الأمواج”.

ما العمل؟

على الرغم من أن الإجراءات الوقائية وحدها لا تكفي، ترى الجمال أن زيادة عدد المحميات البحرية ضرورة ملحة.

وتقول الجمال إن هذه المحميات ينبغي أن تحتوي على مناطق يُحظر فيها الصيد أو استخراج أي شيء منها ، كما يجب أن تتضمن مناطق لا يُسمح فيها بالصيد إلا في أوقات معينة طوال العام وذلك للسماح للأسماك بالتكاثر والنمو. ويجب أيضًا أن تستعمل آليات للمراقبة، بالإضافة إلى الاعتماد على برامج للرصد المبكر حتى نتمكن من وضع السياسات اللازمة، فضلًا عن تطبيق إجراءات فعالة.

وتضيف الجمال: “من المهم أيضًا تدريب الصيادين المحليين على إدارة برامج الصيد التعاونية بصورة مستدامة لتحقيق أكبر استفادة من الموارد المتاحة مع الحفاظ على أعداد الأسماك في المنطقة عند مستويات مناسبة”.

وتحذر الجمال من أن الأسماك واللافقريات الوافدة تشكل تهديدًا خطيرًا للأنشطة الترفيهية في البحر، وهذا ما قد يشكل تحديًا أمام أنشطة السباحة والإبحار، ولكن يبدو أن ذلك التهديد لا يتعدى الأسماك حتى الآن.

من ناحيته، يشير شيباني إلى أن حكومات دول منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا لا تُولي أولوية كبيرة للحفاظ على التنوع الحيوي ولا يبدو أنها تهتم بأي اعتبارات سوى جودة المياه في مواسم السياحة أو عند الاستثمار في مشروعات التحلية.

ومن الجدير بالذكر أن أنشطة تحلية المياه تمثل تحديًا في منطقة الخليج العربي التي تمثل نحو 50% من إجمالي مشروعات تحلية مياه البحر في العالم. وتتخلص منشآت تحلية المياه من الأملاح الناتجة عن عملية التحلية في مياه البحر من دون معالجتها ما يؤثر سلبًا على التنوع البيئي البحري.

وقد أصدر منتدى تغير المناخ تقريرًا مقلقًا عام 2019 ورد فيه أن اندثار جميع الكائنات البحرية في مياه الخليج أمرٌ محتملٌ بحلول عام 2090. وذلك نتيجة ارتفاع درجات الحرارة وتغير ملوحة المياه ومستويات الأكسجين بها، إلى جانب الأنشطة البشرية مثل الصيد الجائر.

ويقول شيباني إن “الأبحاث والدراسات ضرورية لفهم التغيرات التي تتعرض إليها الحياة البحرية في المنطقة، وهذا أبرز ما ينقصنا. إذ إنّ نظرتنا إلى أسماك القرش ما تزال بدائية ولا تزيد عن كونها مجرد قصص خيالية. وتعتبر هذه النظرة أن أسماك القرش مجرد مفترسات، لكنها لا تأخذ باعتبارها أن ثمة وسائل لدراسة بيئتها وسلوكها ودوافعها لكي نتمكن من التعامل معها مستقبلًا”.