عرض اللّغة العربية في المعالم الحديثة أمرًا حيويًا لتمييز المنطقة عن غيرها.
دانا حوراني
يبرز “متحف المستقبل” بطوله البالغ 77 مترًا وخطوطه المعقدة وتصميمه البيضاوي المميز على شارع الشيخ زايد في قلب مدينة دبي.
ويعرض المتحف الفضيّ الذي صممته مؤسسة دبي للمستقبل تصميمات مبتكرة وتراكيب فنية مستقبلية تعكس رؤية حكومة دبي للمستقبل.
يرمز الشكل البيضاوي للمبنى الواقع على مقربة من برج خليفة إلى الإنسانية جمعاء. والتلة الخضراء التي بُني عليها تمثّل الأرض، ويحاكي الفراغ في وسطه المعرفة التي نسعى إلى اكتشافها.
وتعكسُ الواجهة نقوشًا لثلاثة اقتباسات من حِكَم الشّيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس دولة الإمارات ورئيس الوزراء وحاكم دبي
أولها: “لن نعيش لمئات السّنين ولكن يمكننا أن نبدع شيئًا قد يستمر لسنوات عديدة “.
وثانيها: “المستقبل سيكون لمن يستطيع تخيله وتصميمه وتنفيذه. المستقبل لا يُنتظر، فيمكن تصميمه وبناؤه اليوم”. وثالثها: ” سر تجدد الحياة وتطور الحضارة وتقدم البشرية يختصرُ بكلمةٍ واحدةٍ: الابتكار”.
والعلاقة بين الخط العربي والعمارة في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا جلية منذ ظهور الإسلام. إذ يرى الخبراء والفنانون أنهما يؤلفان اليوم رابطة تدمج ما بين الرّوحاني بالمادي، والتقليدي بالحديث، لترسيخ هوية مميزة للشرق الأوسط لا يمكن تجاهلها.
تاريخ الخط العربي
احتل الخط العربي مكانة مقدسة في الفنون الإسلامية على مدار قرون من الزمن. فهو خط المخطوطات الأولى للقرآن الكريم. كما يحرّم الإسلام تصوير الكائنات الحيّة خشية تحولها إلى أصنام، لذلك كان على الفنانين ابتكار طرق جديدة للتعبير عن إبداعهم.
وتفنن الخطاطون في كتابة الآيات القرآنية، فظهرت في أحجام كبيرة ومسافات دقيقة بين الحروف، وتزينت المساجد والآثار المهمة في تلك الفترة بكتابات متداخلة على جدرانها. كما تطورت هذه الكتابة المقدسة لتصبح زخرفة تُغني حياة الناس اليومية وتذكّرهم بالعبادة.
فنجد هذا الفن الإسلامي في السّجاد والسّتائر واللّوحات والأواني والزهريات وعلى الجدران والأبواب والبوابات. وقد أشارت الباحثات فابيها فاطمة وريتشا راشمي شوهان وأبراتم جوها تاكوراتا في ورقة بحثية بعنوان “الخط العربي فنًا معماريًا إسلاميًا وأهميته اليوم” إلى تقدير العالم الإسلامي للقلم والكلمة المكتوبة، وهو مصداق لما جاء في القرآن: “اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5)” (سورة العلق)
وقالت فاطمة لفنك: “من المهم بمكان ما أن نلاحظ استخدام الخط العربي في المعالم الباذخة كالتي كانت لها مكانة روحية مثل المساجد أو المملوكة للأثرياء. أمّا في العصر الحديث فقد تطورت أساليبه في تصميمات اليوم، كالتي نراها في متحف المستقبل”.
متحف المستقبل
قال شون كيلا، المعماري المشرف على تصميم متحف المستقبل، في حوار معه إن نقش الخط العربي على الواجهة كان أحد أكبر التحديات الرئيسة في المشروع.
فقد تطلّب وضع ألواح الواجهة تقنية متطورة بمساعدة الروبوتات، وأنظمة تركيب متعددة الطّبقات. ويعتبر المعماري شون كيلا المتحف “أجمل بناء في العالم” بسبب بنائه المعقد وشكله البيضاوي المميز واندماج الخطوط فيه.
وشرع فريق كيلا في إنشاء واقع معزز يسلط الضّوء على أحدث التقنيات، ويقدّم رؤية للخمسين عامًا القادمة عندما تحلّ الذكرى المئوية لتأسيس دولة الإمارات العربية المتحدة. بدوره، يمثّل الخط العربي “شغف الروح الإنسانية بالتعبير من خلال الابتكار والفنون”.
وقال كيلا في حواره مع موقع أوت لوك الهند: “يمثل المبنى بتصميمه على شكل العين رؤية المستقبل ومعرفته. بينما يمثل الفراغ في وسطه المجهول الذي نسعى إلى اكتشافه. وقد قمت بتضمين الخط العربي على الواجهة منذ أول رسم تخطيطي حتى أحدد أماكن النوافذ وأجعل المبنى ابن بيئته ومنطقته”.
كما نجد في مبنى كلية الدراسات الإسلامية في قطر مثالًا آخر للعمارة الحديثة والتي تضمّن الخط العربي وتؤكد على التفاعل بين الكتابة والمساحة، لأن هذه المساحة تنقل الحمولة الروحية في الفنون الإسلامية، على عكس تجسيد الإيمان في الرموز.
النقلة الحديثة
تعتقد فاطمة أن كتابة النصوص غير الدينية قد يوحي بالشمول، على الرغم من غلبة اعتماد الخط العربي على الآيات القرآنية التي نجدها في الهياكل التاريخية والأماكن المعاصرة.
وأكدت فاطمة، معمارية تنسيق المواقع، على أن “العولمة باتت صريحة عن ذي قبل، والعالم يتغير، فلا بد من تضمين الخط العربي في المساحات العامة لدعم هوية المنطقة الثقافية. بيد أن الكتابات غير الدينية الجذابة ضرورية كذلك لاجتذاب الزوار من كلّ الديانات”.
فعلى سبيل المثال، لا تقتصر الأعمال المعروضة في متحف الخط العربي في مصر على النصوص الدينية، فثمة أعمال حديثة رائعة ضمن مقتنيات المتحف تحتفي باللّغة العربية وتحافظ على الشّكل الفنيّ للخط.
وتستمر هذه الممارسة التاريخية اليوم في عرض الخط العربي باعتباره فنًا معاصرًا في المتاحف والمعارض الفنيّة.
أما الخطاط المعاصر عبد الرحمن نعانسه زميل صندوق الحماية الفنية في جامعة جورج ميسون والذي يستلهم رسمه من الصّوتيات ومعاني الكلمات، فيرى أن الشّكل الفنيّ يتطور كما ينبغي. فقد كان الخط العربي يُستخدم للكتابة، وقد تطور الآن ليصبح وسيلة حديثة للتعبير والتصوير والإبداع.
وقال نعانسه: “تثبت القيمة الفنية لهذا الشكل الفنيّ الممتدة لقرون بحضوره في المتاحف وعلى واجهات المباني. فلم يعد الخط العربي مجرد زخرفة، بل يطوّع الآن ليخدم أغراضً عدة، منها استخدامه في الفن التجريدي والتعبيري. وبهذه الطريقة تعمّ ثقافتنا”.
واعتبر نعانسه عرض اللّغة العربية في المعالم الحديثة أمرًا حيويًا لتمييز المنطقة عن غيرها. وأضاف أن الخط العربي أدى دورًا محوريًا في جميع مجتمعات الشرق الأوسط. والحفاظ على اللّغة العربية يعزز الشَعور بالانتماء والهوية في عالم لا يتوقف فيه الإغراق المعلوماتي.
شكلٌ فنيٌّ خالد وأدوارٌ عديدة
ترى فاطمة أن الصّعوبات الاقتصادية التي -تواجهها العديد من دول الشرق الأوسط وشمال إفريقيا- تسببت في إهمال التراث المعماري.
وقالت: “المستقبل لعمارة تنسيق المواقع المستدامة التي تحافظ على البيئة والمساحات العامة. وعندما ندمج الخط العربي في شكل فني، فإننا نوطد الشّعور بمجتمع يحتفي بالتعددية والشّمول، ونقوّي الاهتمام المشترك بالمساحات”.
كما ترى ضرورة تدريس التراث المعماري في المدارس “لأن معرفة الناس بمدينتهم وتاريخها ومبانيها وطرزها المعمارية التي ابتكرها أسلافهم سيعقد صلة قوية بينهم وبين أرضهم”.
وقد تطور الخط العربي كما يرى نعانسه ليصبح وسيلة للتعبير عن المعتقدات السياسية والاجتماعية، لا سيما في أعقاب الصّراع الطويل الذي دمّر بلده سوريا.
وقال إن الفن كان دائمًا وسيلةً لإيصال الأفكار، “فمن المهم إتاحة الأعمال الفنيّة المثيرة للإهتمام مثل الخط العربي حتى تتطور في تشكّلات معاصرة. وعندما نجد أعمالًا كثيرة ننقدها في منطقة توفّر مؤثرات فنية لا حصر لها، بما في ذلك المشكلات السياسية، فلماذا نحصر أنفسنا في الأنماط الكلاسيكية؟”
وكان نعانسه، 31 عامًا، قد شَغُف بالخط العربي منذ كان في سن العاشرة. وهو يعتقد أن الاهتمام به ما زال قائمًا في الغرب والشرق الأوسط وصولًا إلى الشرق الأقصى.
وحثَّ نعانسه الخطاطين في المنطقة، لا سيما من هم في سوريا، والذين يشعرون باليأس من البقاء في دولهم المضطربة “ألّا يتخلوا عن الفن أو طموحاتهم. فنحن نستخدم أعمالنا لتوثيق الأحداث التاريخية التي نمرّ بها، فما نفعله يعبّر عن مشاعرنا، ونساهم به في مجتمعاتنا”.