كميل-جان حلو
أبرز ما تُعرَف به دبي هي هندسة التّرف. فسماؤها المدهشة، مُسطَّرة بالمباني الّتي حطّمت الأرقام القياسيّة، والعجائب الهندسيّة الّتي تتحدّى الجاذبيّة. وحالًا ما يمكن تمييز “أسلوب دبي” الإبداعيّ، بتشابه عناصره مع العمارة الغربيّة، وبإحالاته الطّفيفة إلى العمارة الإسلاميّة التّقليديّة، وباعتماده المفرط على تغيير المعالم الطبيعية بشكل شامل، وبميوله إلى التّرف في كلّ مركَّباته.
تعكس الهندسة في دبي رؤية حكّامها الهندسية، فالمباني في الحاضرة الصّغيرة تقف متحدّية عناصر الطّبيعة وتوقّعات بلاد الغرب، وهي في الوقت نفسه احتفال صارخ بالثّراء واستثمار متعقِّل بمستقبل مزدهر. إنّما على الرّغم من مزايا هذه المقاربة، لا تزال، من وجهة نظر عمليّة وبيئيّة، مُبذِّرة بشكل هائل.
وبذلك، تُرسِّخ المباني المستقلّة على غرار الأسلوب الغربيّ، والعناصر المائيّة الضّخمة، والمساحات الخارجيّة الخضراء (المُعاد تأهيلها بموادّ باهظة الثّمن)، سمعة دبي على أنّها بلد تجاوز محدوديّة بيئته الصّحراويّة بفضل ثروته النّفطيّة الهائلة.
فالتّغلّب على الصّحراء بسُبُل حديثة، موضوع متكرّر في الثّقافة الإماراتيّة المعاصرة. إلّا أنّه تاريخيًّا، وفي ظلّ ندرة الموارد (قبل القرن 19)، كان أسمى أشكال الهندسة أكثرها تناغمًا مع بيئتها. لكنّ تاريخ الهندسة في دبي طويل ومعقّد، وهو مجموعة من إسهامات حضارات مختلفة ومتعدّدة كوّنته على امتداد آلاف السّنين.
إذ يمكن تتبّع الوجود البشريّ في المنطقة إلى أبعد من العصر الحجريّ (6000 – 3200 قبل الميلاد)، لكن لم تُشيَّد المستوطنات المستقرّة الشّاسعة ذات البنية المتينة إلّا حتّى العصر البرونزيّ (3200 – 1300 قبل الميلاد). ازدهرت المدن السّاحليّة والواحات المبنيّة على طول الطُّرق التّجاريّة الدّاخليّة وطُرق الشّحن البحريّة (دائمًا على مقربة من مصدر طعام وماء مضمون) جرّاء تصدير الموادّ المعدنيّة، بخاصّة النّحاس والبرونز. ولقد دعت الحاجة إلى أن تُصمَّم هذه المدن بحيث تحيط المنشآت الدّفاعيّة الأكثر بروزًا، كالأسوار وأبراج المراقبة المصنوعة من الحجارة والآجرّ، بمبانٍ سكنيّة ودينيّة وبمخازن مصنوعة من موادّ قابلة للتّحلّل والزّوال. أمّا التّوسّع التّجاري مع الحضارات المجاورة (مثل بلاد ما بين النّهرين، ووادي السّند، والمشرق) فسمح باختلاط الحضارات، ما ترك بصمته في بقايا مدن العصر البرونزيّ في دبي.
وخلال العصر الحديديّ (1300 – 300 قبل الميلاد)، سمح تطوُّر أساليب استخراج المياه والرّيّ بظهور مدن جديدة. إذ أصبح بإمكان السّكّان الانتقال صوب الدّاخل أكثر، من دون الاضطرار إلى الاعتماد على الواحات الطّبيعيّة النّادرة الوجود. ولهذا الهدف حُفِرت في الصّخور الصّلبة قنوات طويلة تحت الأرض تنقل المياه الباردة من آبار مدفونة إلى سطح الأرض، وشكّل ذلك إحدى بدائع الهندسة القديمة وشهادة على صلابة شعب هذه المنطقة. يمكن معرفة الكثير عن عمارة هذه الفترة الزّمنيّة من الاكتشافات الأثريّة الكبرى في مواقع العشوش، والصّفوح، وساروق الحديد. فالمباني تُظهر تطوّرًا ملحوظًا في شغل الحجر، إذ سمح ارتفاع نسبة التّجارة باستيراد موادّ البناء من مناطق أبعد، بَيْد أنّ الهندسة كانت الهندسة لا تزال تفتقر إلى التّزيين بسبب شحّ الموارد في البيئات الصّحراويّة، وثقافة البساطة النّفعيّة الّتي بدأت تتشكّل في المنطقة.
أمّا التّحف الفنّيّة المتوارثة من العصر الجاهليّ فيمكن إيجادها في المواقع الأثريّة في كلّ أنحاء دبي، وهي تعود إلى القرنين الثّالث والرّابع ميلاديّ.
انتشر الإسلام في المنطقة عندما غزا الخليفة الأمويّ الإسلاميّ للعالم الإسلاميّ الشّرقيّ، جنوب شرق شبه الجزيرة العربيّة ورحَّل سكّانها (661 – 750). وعلى الرّغم من تأثّر الهندسة الإسلاميّة في دبي بغيرها من الأساليب الهندسيّة الإسلاميّة التّقليديّة، إلّا أنّها تميّزت عنها بغياب الزخرفة بشكل ملحوظ. فغالبًا ما صُمِّمت التّراكيب الخارجيّة بأشكال هندسيّة ناتجة مباشرة عن التّصميم الحيّزيّ الدّاخليّ، وتُركت الجدران التّرابيّة اللّون غير مزخرفة، وقُطّعت الصّخور بطريقة منبسطة، وحُفِظت العوارض الخشبيّة المُستورَدة في حالتها الطّبيعيّة (مُعالَجة فقط لتحمُّل المناخ). وسواء أكان استدعاء للحاجة أو تفضيلًا شخصيًّا، اختار المعماريّون التّخلّي عن التّزيين السّطحيّ، سعيًا وراء الفنّ من خلال إحكام ترتيب العناصر المعماريّة الأساسيّة. ونتيجة لذلك، لم يظهر أيّ نوع من الزّخرفة إلّا على عدد قليل من المساجد.
ووصولًا إلى القرن الثّامن عشر، كانت دبي قد أصبحت مجموعة من المدن الصّغيرة (التي سكنتها قبيلة بني ياس، في ظلّ حكم أبو ظبي). لكنّ وصول الصّراع القبليّ في أبو ظبي إلى أوجه عام 1833، جعل قبيلة البوفلاسة تنشقّ عنها وتحتلّ دبي سلميًّا قبل أن تعلنها دولة مستقلّة. أمّا قادة هذا التّرحال التّاريخيّ فكانوا من مؤسسي أسرة آل مكتوم الملكيّة الّتي لا تزال تتقلّد الحكم حتّى يومنا هذا. وفي هذه المرحلة، كانت العمارة في دبي لا تزال تقليديّة بحتة، بممرّاتها الضّيّقة، واستخدامها الذّكيّ هياكل الظّلّ، ومنازلها ذات الفناء الّتي تعلوها أبراج تبريد، وبتصاميمها المتجذّرة بشدّة في الثّقافة الإسلاميّة والعربيّة والفارسيّة. كما أنّ تصميم دبي المدنيّ آنذاك عكس بقوّة تراثها البدويّ، واختيرت كلّ الموادّ والتّقنيّات المعماريّة لتتلاءم مع المناخ.
أصبحت دبي عام 1892 تحت حماية المملكة المتّحدة بموجب معاهدة، بعد أن مرّت بسنين من الصّراعات المتقطّعة بين هذه السّلطة الإمبرياليّة الغربيّة وعدد من الدّول المجاورة. ولاحقًا عام 1901 أعلن حاكم دبي مكتوم بن حشر آل مكتوم بلده ميناء حرًّا. وبهذين الحدثين تعزّزت تفاعلات دبي مع الغرب، لكنّ وقوع هذه الدّولة الصّغيرة في دوّامة السّياسات الدّوليّة، صعّب عليها الحفاظ على هويّتها الثّقافيّة، فبدأت إذ ذاك التّأثيرات الغربيّة تظهر في الهندسة المحلّيّة.
بعدها، في خمسينيّات القرن العشرين، أنفقت دبي أموالًا طائلة على تطوير البنى التّحتيّة في الدّولة. وفي عام 1959، وكّل حاكم دبي، الشّيخ راشد بن سعيد بن مكتوم آل مكتوم، شركة الهندسة البريطانيّة Halcrow، برسم أوّل خريطة شاملة للمدينة. وكانت النّتيجة مقاربة غربيّة للتّصميم المدنيّ، تستغني عن الممرّات الضّيّقة والمظلَّلة، وتحفّز تشييد مبانٍ شاهقة ومستقلّة.
أمّا عام 1966، فاكتُشِف النّفط في دبي، ما أحدث طفرة في قطاع البناء غيّرت طابع البلد الهندسيّ جذريًّا، مشكِّلة مزيجًا من الأساليب الهندسيّة المُطبَّقة من دون أخذ المناخ أو التّقاليد في الاعتبار. إذ شُيِّدت أبراج زجاجيّة على طول الطّرقات الرّئيسة ونحو الدّاخل أيضًا، وهي تتطلّب كمّيّات هائلة من الطّاقة للتّبريد. كما أنّ استثمارهم في القطاع السّياحيّ عنى وجود مساحات خضراء خارجيّة شاسعة من الأشجار المستورَدة الّتي تعيش بفعل الرّيّ الاصطناعيّ. أمّا المباني والأحياء التّاريخيّة فهُدِّمت واستُبدِلت بعمارة حديثة خارجة عن البيئة، يشعر المحلّيّون بغربتها عنهم.
ومع تزايد ثروتها وتأثيرها، انضمّت دبي إلى الإمارات العربيّة المتّحدة عام 1971، مُبطِلة بالتّالي معاهدتها مع المملكة المتّحدة. لكنّ التّأثيرات الغربيّة بقيت مرسّخة في العقليّة الإماراتيّة. وفي أوائل سبعينيّات القرن العشرين، وكّل حاكم دبي آنذاك، الشّيخ راشد بن سعيد بن مكتوم آل مكتوم، تصميم الكثير من المباني الحديثة الفريدة إلى شركات هندسة غربيّة، وبخاصّة إلى المهندس البريطانيّ جان ر. هاريس.
وفي أواخر سبعينيّات القرن العشرين، كان النّموّ السّكّانيّ قد ازداد أربعة أضعاف. نتيجة لهذا النّموّ الدّيموغرافيّ غير المسبوق، توسّعت المدينة بطريقة عشوائيّة لا تعير اهتمامًا لبناء المجتمعات المحلّيّة، أو التّأثيرات البيئيّة، أو القصور في البنى التّحتيّة (وهذه العناصر هي الأهمّ والأولويّة في التّصميم المدنيّ).
إضافة إلى ذلك، قرّرت دبي في ثمانينيّات وتسعينيّات القرن العشرين، تكثيف استثماراتها في القطاع السّياحيّ، وقد أصبحت مذ ذاك الحين الوجهة السّياحيّة الأولى في العالم. يتميّز النّتاج الهندسيّ في هذه الفترة الزّمنيّة بأسلوب تقليديّ مزيّف، ظهر من خلال تزيين المنشآت الحديثة بزخارف إسلاميّة سطحيّة تبدو وكأنّها ملصقة في غير مكانها من دون أن يكون لها أيّ تأثير حقيقيّ على تصميم المبنى الفعليّ. فهي حتمًا تصاميم مبتذلة رديئة مُستخدَمة لجذب السّيّاح بدلًا من إفادة المجتمع المحلّيّ.
أمّا في السّنوات الأخيرة، فقد بدأ حكّام دبي يتحلّون بوعي أكبر في ما يتعلّق بالبيئة والتّراث المعماريّ، آخذين ذلك في الاعتبار في مقاربتهم التصميم المدني إذ بدأوا يعيدون ترميم مبانٍ تراثيّة (مثل حصن الفهيدي الّذي شُيِّد عام 1799، وحيّ البستكيّة الّذي أُنشئ عام 1890)، ويشجّعون المهندسين على إدخال عناصر من العمارة التّقليديّة في أعمالهم (ليس فقط للتّزيين، بل كعناصر رئيسة في مقاربة التصميم، مثل ما نُفِّذ في منتجع مدينة الجميرا الّذي أُنشئ عام 2004).
لكنّ هذه التّغييرات لا تكفي لإبطال موضة بناء أبراج زجاجيّة حديثة وأحياء أميركيّة الطّابع في الصّحراء. ولا تزال العناصر الأساسيّة للعمارة الإماراتيّة التّقليديّة (استخدام الموادّ المحلّيّة، والتّبريد السّلبيّ، والتّحكّم الذّكيّ بالضّوء، والعزل الطّبيعيّ) غير مُستغَلّة بالكامل في دبي اليوم، على الرّغم من أنّها الأكثر تلاؤمًا مع بيئتها.
ففي النّهاية، اختبر سكّان المنطقة البيت الإماراتيّ التّقليديّ وحسّنوه على مرّ العصور، إذ تطوّر في كلّ مرّة أُعيد بناؤه ليتناسب أكثر مع احتياجات مُستخدميه وتفضيلاتهم. وبذلك، هناك الكثير من الأمور الّتي يمكننا التّعرّف عليها من دراسة المنازل القليلة الصّامدة في وجه العصرنة السّريعة للمدينة.
يتألّف المنزل التّقليديّ في دبي من مجموعة من الغرف المنقسمة إلى طابقين تحيط ببعض الأفنية المختلفة الأحجام. وبالقرب من أهمّ الغرف، شُيِّدت أبراج رياح لتأمين التحكّم السّلبيّ بالمناخ (تُعرف على الفور من نوافذها الصّغيرة المفتوحة، وأسقفها المنبسطة، وعوارضها الخشبيّة النّاتئة من كلّ جهة). قُسّمت المساحة الدّاخليّة احترامًا للخصوصيّة، فكان الوصول أوّلًا إلى الغرف العامّة لتستتر الغرف الخاصّة في الدّاخل. أمّا الجدران الخارجيّة فكانت عارية من التّزيين وتعلوها تحزُّزات دفاعيّة، وغالبيّة النّوافذ تطلّ على الدّاخل، على الأفنية والممرّات. أخيرًا، غاب التّزيين كلّيًّا، لكنّ النِّسَب والأبعاد كانت مدروسة بدقّة ليكون مظهر التّراكيب جميلًا.
بالانتقال إلى الأحياء السّاحليّة، نلاحظ أنّ الجدران مصنوعة من المرجان المُستخرَج من الشّعاب المرجانيّة القريبة، والّذي يُجمَع على شكل كُتَل مختلفة الأحجام، مصبوبة في ملاط سميك، ومطليّة بالجصّ. كانت الأسقف بشكل عامّ مسطّحة، تتشكّل من ألواح خشبيّة مُعالَجة ضدّ العوامل المناخيّة، ومُثبَّتة فوق بعضها عند المنتصف بشكل مائل متسلسل على عوارض خشبيّة نحيفة. أمّا الأرضيّات فمكسوّة ببلاط عاديّ غير مزخرف أو بخليط من الطّين المتراصّ، تسمح كثافته بصقله. وبفعل استيراد خشب المانغروف من شرق أفريقيا، كان طول العوارض الخشبيّة النّموذجيّ يتراوح بين 3 إلى 3.5 أمتار ما فرض ذلك هندسة تشبيكيّة على منازل دبي السّاحليّة. ولهذا السّبب تبدو التّصميمات كمكعّبات اتّساعها ثلاثة أمتار، تُجمع بأساليب مختلفة، إذ إنّ الابتعاد عن تلك النِّسَب كان ليكون غير فعّال ومُبدِّدًا.
في المقابل، ولعدم توفّر المرجان والصّخور في الواحات، صُنعت الجدران من الطّوب الطّينيّ، المُعزَّز بعوارض من خشب النّخيل، والمطليّ بالجصّ ليقاوم عناصر الطّبيعة. إضافة إلى ذلك، استخدمت المنازل ذات التّكلفة الأعلى صفًّا من الحجارة عند أسفل جدرانها لحمايتها من التّعرية المائيّة، أمّا المنازل الأكثر تواضعًا فصُنعت بالكامل من خشب النّخيل. نُصبت الأسقف بأشكال مائلة ذات زوايا عريضة، وصنعت من سُعُف النّخيل المشقوقة والمتحابكة، مُشكّلة نوعًا من التّشبيك المتراصّ المثبّت على جذوع أشجار النّخيل المُستخدَمة كعوارض. كانت الأرضيّات ترابيّة ومفروشة بالسّجّاد، ووُضعت ستائر من خشب النّخيل للاتّقاء من حرارة الشّمس، واجتمع الماء مع نظام تهوية فعّال للتّبريد. وغالبًا ما شُيِّدت الواحات على شكل تجمّعات مركَّزة تذكّرنا بالمخيّمات البدويّة.
أخيرًا، في المناطق الجبليّة شرقيّ البلاد، بُنيت الجدران من صخور مختلفة الأشكال (تتّسع تدريجيًّا من الأعلى إلى الأسفل)، منحوتة بدرجة عالية من الدّقّة، ومثبّتة من دون ملاط، ومكشوفة من الخارج (لكنّها كانت مطليّة بالجصّ من الدّاخل توخّيًا للنّظافة والتّرتيب). أمّا الأسقف فكانت أيضًا مسطّحة، ومكوَّنة من سُعُف النّخيل وخشب محلّيّ. وكانت الأرضيّات إمّا مكسوّة بالبلاط أو محفورة في الصّخر الصّلب. وعلى الرّغم من اختلاف موادّ البناء وتقنيّاته، تشابه معظم المنازل الجبليّة مع المنازل السّاحليّة من العصر نفسه، غير أنّ بعضها انزاح عن الأسلوب السّائد ليتّخذ شكلًا دائريًّا، أو ليكون محفورًا في الصّخر الصّلب ومدفونًا جزئيًّا.