وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

مسلسل الملكة كليوباترا وغضب مصري: ارتباط بالمياه؟

أثار مسلسل الملكة كليوباترا ردود أفعال حادة من الجمهور المصري والغربي، مع ادعاءات بالاستيلاء الثقافي ومحو التاريخ المصري.

مسلسل الملكة كليوباترا
تمثال مصغر لكليوباترا أمام معبد تابوزيريس ماجنا بالقرب من برج العرب، على بعد 50 كيلومترا (30 ميلا) غرب الإسكندرية. كريس بورونكل / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

كليوباترا، آخر فراعنة مصر، اسم عرفه التاريخ واحدًا من رموزه وملكة من ملكات الأساطير، حيث يعتقد الكثيرون أنها وضعت حدًا لحياتها بعد أن استسلمت للدغة كوبرا سامة أصابتها في صدرها.

ومنذ وفاة كليوباترا، سعى العديد من الناس إلى معرفة نسبها وعرقها ورسم صورتها في أذهان الناس. وأصبحت المرأة التي اشتهرت بعلاقاتها الغرامية مع يوليوس قيصر وماركوس أنطونيوس إحدى أبرز الشخصيات التي شغلت الناس وصارت موضوع أحاديثهم اليومية ونقاشاتهم.

اليوم تشغل كليوباترا الناس حيث تحولت إلى موضوع جدليّ بسبب لون بشرتها وأصلها. ففي آخر أبريل الماضي، نشرت منصة نتفلكس إعلانًا عن مسلسل وثائقي عن كليوباترا، من إنتاج جادا بينكيت سميث، زوجة نجم هوليوود الشهير ويل سميث. أثار ردود أفعال حادة من الجمهور المصري والغربي على حد سواء. فقد ظهرت ملكة مصر في هذا المقطع بملامح إفريقية، وبلون بشرة داكن يخالف التصورات السابقة عن ملكة مصر القديمة.

وتعرّضت أديل جيمس، الممثلة البريطانية السوداء التي أدّت دور البطولة، لحملة انتقادات واسعة من المتابعين المصريين، والباحثين والجمهور على حد سواء. وقد صبّ الجمهور غضبه على نتفلكس لاختيار ممثلة سوداء، فهم يرون أن بشرة كليوباترا كانت فاتحة وذات ملامح إغريقية، مستشهدين في ذلك بحقائق تاريخية.

وذكر كريم الجمّال، الخبير الأدبي والمتابع للشأن الاجتماعي، لفنك: “الأمر لا يتعلق بالتمييز ضد عرق معين، بل بالحفاظ على التاريخ الذي نعتبره من الأمور الحساسة التي لا نسمح لأي شخص بالمساس بها”.

الجدل القائم

أثار المقطع الإعلاني فور صدوره جدلاً كبيرًا على مواقع التواصل الاجتماعي، بينما منعت نتفلكس التعليق على المقطع على يوتيوب. وأطلق مستخدمو منصات التواصل رسومًا وحملات توقيع ضد المسلسل، وهذا ما دفع المحامي المصري عمرو عبد السلام إلى رفع دعوى رسمية أمام النائب العام بهذا الصدد.

رمت الدعوى إلى مطالبة السلطات المصرية باتخاذ كل ما في وسعها لحماية التراث الثقافي المصري، وفقًا للمادة 50 من الدستور. وهذا يشمل السعي إلى الحصول على دعم دبلوماسي من مختلف المنظمات الدولية التي تهتم بحفظ التراث، والعمل معها على ذلك. كما توجب المعنيين باتخاذ إجراءات على المستويين الإقليمي والعالمي لمواجهة “حملات تشويه الثقافة المصرية” وتحديد المسؤولين عنها.

كما طالب المحامي منصة نتفلكس ومنتجي المسلسل بدفع تعويضات مالية لمصر عن الأضرار المادية والأدبية التي تسبب فيها المسلسل.

وممّا أثار الجدل أيضًا ما ذكرته إحدى ضيوف الوثائقي في المقطع الإعلاني: “ما زلت أذكر ما قالته جدتي: ‘لا أبالي بما يعلمونك في المدرسة، كليوباترا كانت سوداء.'”

وجاء رد فعل الجمهور المصري سريعًا، إذ اعتبر التصريح تزويرًا لتاريخ مصر وترويجًا لأفكار حركة المركزية الإفريقية (أفروسنتريزم) التي تطالب بالاعتراف بالثقافة الإفريقية وتأثيرها على الحضارة الغربية. ويؤمن أنصار هذه الحركة بأن حكام مصر القديمة وشعبها كان أغلبهم من السود لكن هذه المعلومات زوّرت أو حُذفت من كتب التاريخ في دول العالم بأسره.

وفي أوائل التسعينيات، أثار أحد الأساتذة في جامعة تمبل الجدل بزعمه أن كليوباترا كانت سوداء (وليست مقدونية إغريقية) وأن الإغريق سرقوا تراث مصر. إلا أن الرواية السائدة التي يتبناها عدد كبير من المؤرخين تقول إن الملكة الفرعونية يعود أصلها إلى الأسرة البطلمية المقدونية التي شاع فيها زواج الأقارب.

ويكتنف الغموض حاليًا أصل والدة كليوباترا وجدّتها لأبيها، إذ يقول البعض إن من المحتمل أنهما كانتا من السود، لكن لم يُكتشف دليل يؤيد هذا الزعم. ورغم ذلك، ما تزال التكهنات تحيط بهذه المسألة بين الباحثين.

التداعيات

أصدرت وزارة السياحة والآثار المصرية بيانًا يوضح الروايات التاريخية التي تناقلها الرومان ممّن غزوا مصر والتي تؤكد أن كليوباترا كانت ذات بشرة فاتحة. كما توجد تماثيل عديدة تصورها بملامح قوقازية ترجع إلى أصلها على الأرجح.

كما أعلنت القناة الوثائقية المصرية أنها أطلقت مشروعًا يهدف إلى إنتاج وثائقي عن الملكة كليوباترا ينافس مسلسل نتفلكس. ويجري الإعداد له حاليًا بمشاركة عدد من المتخصصين في التاريخ والآثار والأنثروبولوجيا.

علاوة على ذلك، أطلق الشباب المصري حملة كبيرة تحت شعار #مصر_للمصريين، إذ شرع كثير منهم في تشارك صور يظهر فيها نصف وجه صاحبها، بينما تَظهر في النصف الآخر صور لأبرز الشخصيات من تاريخ مصر القديمة. وتهدف هذه الصور إلى توضيح الملامح المشتركة بين المصريين اليوم وبين أجدادهم.

وجاءت أبرز الانتقادات التي وُجّهت إلى المسلسل في المداخلة التي ظهر فيها الناقد الإعلامي والممثل الكوميدي باسم يوسف مع بيرس مورغان على برنامج توك تي في TalkTV.

وردّ يوسف على الادعاءات بأن كليوباترا كانت من أصل إفريقي: “آسف، لقد أقام أسلافكم حضارة أخرى مذهلة في غرب إفريقيا”. وأضاف: “إنهم يستولون على ثقافتي ويصفون شعب مصر الحالي بالغزاة والدخلاء. نحن نُمحى من تاريخنا”.

واقترب عدد مشاهدات المداخلة على يوتيوب من 2.5 مليون مشاهدة تزامنًا وكتابة هذا المقال.

وذكر الجمّال إنّ السنوات الأخيرة شهدت تزايدًا في الادعاءات القائلة إن معظم المصريين المعاصرين لا صلة لهم بالحضارة المصرية القديمة، ولذلك يُعتبر مسلسل نتفلكس الوثائقي هجومًا شخصيًا على المصريين.

وفي عام 2017، تمكّن باحثون من جامعة توبنغن ومعهد ماكس بلانك لعلوم التاريخ الإنساني في ألمانيا من معرفة تسلسل جينوم المصريين القدماء، وتوصلوا إلى إكتشاف غير متوقع. فعلى عكس التوقعات، اكتشفوا أن المصريين القدماء كانوا أقرب من الناحية الجينية إلى الأوروبيين المعاصرين وشعوب الشرق الأدنى من المصريين المعاصرين.

واعترض كثير من علماء المصريات على هذه المزاعم لوجود محاولات مشبوهة عديدة في الماضي للفصل بين المصريين القدماء والمعاصرين. كما أكدوا أن التحليل الجيني لا يمكن اعتباره دليلًا قطعيًا لإثبات هذه المزاعم الفضفاضة.

وعلق الجمّال: “يبدو أن هناك هجومًا مستمرًا ضدنا وكأننا لسنا أهلًا للتراث المصري القديم، خلاف الثقافات الأخرى”.

الحفاظ على التراث

يعاني المصريون أصحاب البشرة السوداء من سوء المعاملة، إلا أن الجمّال أكّد أن الغضب له أبعاد أخرى.

إذ قال: “بما أن الأعمال الوثائقية يُفترض أن تنقل الواقع، فلا يمكن اعتبار اختيار الممثلين قرارًا فنيًا لأن التاريخ المصري يضم عددًا من الشخصيات الملكية السوداء”.

فقد كانت مدينة كرمة التي تقع جنوب الشلال الثالث للنيل عاصمة لحضارة إفريقية سوداء قوية عُرفت باسم النوبة أو “كوش” باللغة المصرية القديمة. وحكم ملوك النوبة مصر قرنًا من الزمان.

وذكر الدكتور حسين عبد البصير، مدير متحف الآثار بمكتبة الإسكندرية، لفنك أن ظهور الخطاب المتصاعد بخصوص كليوباترا والذي يختلف عن الرواية التاريخية القائمة على الاكتشافات الأثرية قد يؤثر سلبًا على الأجيال المستقبلية.

كما أكّد: “ندرك تأثير وسائل التواصل الاجتماعي والأعمال الفنية، إذ ربما تحدث بلبلة وسط الجماهير وتدفع الناس إلى تجاهل الرواية التاريخية الثابتة بالأدلة العلمية لصالح الرواية التي تروج لها نتفلكس”.

مخاوف وحقائق

من بين المخاوف التي يراها عبد البصير أن الجماهير الغربية التي تشاهد مسلسل نتفلكس قد يزداد عداؤها للمصريين المعاصرين اعتقادًا بأنهم سرقوا تراث الأفارقة السود. كما يتفق هو والجمّال على أن هذا التصور قد يؤدي إلى عزل المصريين المعاصرين عن تراثهم بصورة أكبر.

ويتساءل عبد البصير: “ماذا سيحدث إذا لم تصدق الجماهير الغفيرة روايتنا أو تستمع إليها؟ نتفلكس لديها جمهور كبير ويمكنها أن تحولنا بسهولة إلى أعداء للحقيقة”.

ولمواجهة ذلك، يرى الدكتور عبد البصير أن مصر عليها أن تستمر في إنتاج الأعمال التعليمية عن الحضارة المصرية القديمة حتى تدرك الأجيال المستقبلية أهميتها وضرورة الحفاظ عليها.

وأضاف: “المعلومات التي نملكها قيمة وينبغي استثمارها باعتبارها كنزًا وطنيًا. وكي نضمن ألا ينجذب العالم نحو الأعمال الغربية وأن يدرك وجودنا واستعدادنا للدفاع عن تاريخنا، فعلى المصريين أن يسردوا تاريخ بلدهم من منظورهم هم وبمساعدة الخبراء المصريين”.

أما في حالة كليوباترا نفسها، فيؤكد عبد البصير أنها كانت جريئة ورفضت أن تكون خاضعة كما كان متوقعًا من النساء في دوائر الحكم والسياسة في ذلك الوقت. وقد بذلت كليوباترا كل ما في وسعها لتحقق أهدافها وتحمي مصر.

وأوضح عبد البصير: “هذا مثال واضح على أهمية دور المرأة في ذلك العصر. وينبغي علينا أن نؤكد على أهمية عرض هذه الحقيقة دون تعديل أو تبديل. ولم يكن رد فعلنا ليكون مختلفًا لو أحضرت نتفلكس ممثلة شقراء ذات عينين زرقاوين”.

الصراع على الهوية

نظمت مصر في أبريل 2021 موكبًا مهيبًا للاحتفال بنقل 22 مومياء ملكية عبر شوارع العاصمة القاهرة إلى مكان عرضها الجديد في المتحف القومي للحضارة المصرية.

وجاء الاحتفال الفخم نتيجة تضافر جهود مصر للترويج للآثار المصرية القديمة وجذب السياحة الخارجية.

وشهد قطاع السياحة في مصر فترة اضطراب في أعقاب ثورة يناير 2011 التي أطاحت بالديكتاتور حسني مبارك، ثم تدهورت بعد تفشّي جائحة كورونا في أرجاء العالم منذ مارس 2020.

وضم الموكب مومياوات رمسيس الثاني وسيتي الأول وسقنن رع وتحتمس الثالث بالإضافة إلى مومياوات أربع ملكات هن أحمس نفرتاري وتي وميريت آمون وحتشبسوت.

وفي تلك المناسبة، صرّح الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي على حسابه الرسمي على تويتر: “إن هذا المشهد المهيب لدليل جديد على عظمة هذا الشعب الحارس هذه الحضارة الفريدة الممتدة في أعماق التاريخ”.

وتابع: “إنني أدعو كل المصريات والمصريين والعالم أجمع لمتابعة هذا الحدث الفريد، مستلهمين روح الأجداد العظام، الذين صانوا الوطن وصنعوا حضارة تفخر بها كل البشرية، لنكمل طريقنا الذي بدأناه.. طريق البناء والإنسانية.”

.
ويرى الجمّال أن ارتباط المصريين بالحضارة المصرية القديمة ورفضهم الاستيلاء الثقافي عليها قد يكون له تداعيات سياسية على بعض الملفات. ومنها ملف سد النهضة الإثيوبي الذي يهدف إلى توليد الطاقة الكهرمائية من مياه النيل.

بدأ إنشاء سد النهضة في 2011 وأثار خلافات مع القاهرة التي ترى أن المشروع يهدد استقرار مصر والمنطقة، وبخاصة أمن مصر المائي. كما أثارت وسائل الإعلام المصرية مرارًا الشكوك حول دور إسرائيل في إثيوبيا وتورطها في عملية إنشاء السد بالتحديد. من جانبها، تقول إثيوبيا إن السد أغراضه تنموية بحت ولا يهدف إلى تحقيق أي أغراض سياسية أو أمنية. وتنكر إسرائيل بدورها أي صلة بهذا المشروع.

لطالما كان نهر النيل جزءًا أصيلًا من الهوية المصرية. لذا، فإن أي تطورات متعلقة بالمشروع من شأنها أن تدفع مصر إلى “إعادة تعريف هويتها الوطنية” وفقًا لمؤسسة كارنيغي للسلام الدولي.

وقال الجمّال: “اتُهم الإثيوبيون أكثر من غيرهم بتأجيج المشاعر المعادية للسود في مصر”.

وأضاف: “لنهر النيل مكانة خاصة في قلوب المصريين والمسلمين، لذلك فإن الغضب تجاه السود تجاوز مسلسل كليوباترا ليشمل قضية سد النهضة التي لطالما أغضبت المصريين”.

وأشار الجمّال إلى أن فقد ازداد التوتر في العلاقات بين البلدين نتيجة نزوح موجات من اللاجئين على خلفية الصراع بين قوات الجيش السوداني بقيادة عبد الفتاح البرهان، وقوات الدعم السريع بقيادة محمد حمدان دقلو (حميدتي).

وأوضح: “تزامن الجدل حول كليوباترا مع تصاعد الغضب من أزمة اللاجئين، ما أدّى إلى زيادة الأذى الذي يتعرّض له السود بالفعل بسبب ملف إثيوبيا وحركة المركزية الإفريقية في السنوات الأخيرة”.