وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

إيران وإسرائيل: معادلة الردع الجديدة

ثبّتت إيران معادلة ردع واضحة في وجه إسرائيل، مفادها أنّ استهداف سيادتها، أي أراضيها ومنشآتها الدبلوماسيّة، سيقابله تصعيد عسكري مباشر من جانب طهران.

إيران وإسرائيل
أحد أفراد الجيش الإسرائيلي يفحص جزءًا من صاروخ باليستي إيراني. أورين زيف / أ ف ب

علي نور الدين

في الساعات الأخيرة من مساء يوم السبت 13 نيسان/أبريل 2024، وجّهت إيران –للمرّة الأولى في تاريخها- ضربة مركّبة باتجاه مجموعة من القواعد الإسرائيليّة، باستخدام المسيّرات وصواريخ الكروز والصواريخ الباليستيّة.

وبهذه العمليّة، نفّذت إيران تهديداتها، التي توعّدت بالرّد على القصف الإسرائيلي الذي طاول القنصليّة الإيرانيّة في دمشق في مطلع الشهر عينيه، والذي أدّى إلى مقتل قيادات بارزة في الحرس الثوري الإيراني.

على المستوى السياسي، من الجدير الإشارة إلى أنّ الرد الإيراني المباشر قد مثّل تحوّلًا كبيرًا في تاريخ الكباش الإيراني الإسرائيلي على امتداد خارطة الشرق الأوسط، بغض النظر عن حجم ونطاق الرد من الناحية العسكريّة.

فمن خلال تلك الضربة، ثبّتت إيران معادلة ردع واضحة في وجه إسرائيل، مفادها أنّ استهداف سيادتها، أي أراضيها ومنشآتها الدبلوماسيّة، سيقابله تصعيد عسكري مباشر من جانب طهران.

مفادها و بصورة أوضح، لن يقتصر الرد الإيراني -في هذه الحالة- على تحريك حلفائها في المنطقة ضد إسرائيل، كما جرت العادة سابقًا.

نطاق الضربة الإيرانيّة: ردٌّ واسعٌ لكن مضبوط ومحصور

قبل توجيه ضربتها الأخيرة، كانت إيران تدرك مدى تقدّم منظومة الدفاع الجوي الإسرائيليّة، والتي تُعتبر الأكثر تقدّمًا من الناحية التقنيّة في منطقة الشرق الأوسط. إذ يتكامل في هذه المنظومة ثلاث مستويات، يقوم أوّلها على نظام “القبّة الحديديّة” الكفيل باعتراض المسيّرات والصواريخ القصيرة المدى.

أمّا المستوى الثاني فيتمثّل بنظام “مقلاع داوود”، المخصّص لاعتراض الصواريخ المجنحة المتوسّطة المدى، فيما يعمل المستوى الثالث بنظام “آرو” (السهم) القادر على اعتراض الصواريخ الباليستيّة المتطوّرة.

إلى جانب هذه المستويات الثلاثة، التي يمتلك كلّ منها أجهزة الرصد والرادار الخاصّة به، طوّر الجيش الإسرائيلي إمكانات طائراته الحربيّة من نوع أف 15 وأف 35، لتتمكّن من اعتراض الأهداف الجويّة –مثل المسيّرات والصواريخ الباليستيّة- بوسائط أكثر فعاليّة ودقّة.

وهذا ما يسمح لإسرائيل ببدء عمليّات الدفاع الجوي ضد هذه الأهداف قبل اقترابها من حدودها، وذلك لتقليص الضغط على منظومات الدفاع الجوي الأساس الموجودة على الأرض.

أمام هذا الواقع، كان الخيار الأفضل لإيران التخطيط لإغراق منظومة الدفاع الجوي الإسرائيليّة بوابل ضخم من المقذوفات المنخفضة الثمن، لإشغال المنظومة قدر الإمكان، وتأمين اختراقها بعدد محدود من الصواريخ.

لكن في الوقت عينيه، كان من الواضح أنّ إيران قد صمّمت على حصر أضرار الرد ضمن نطاق محدّد بعناية فائقة، كي لا تستدعي الضربة حربًا إقليميّة واسعة النطاق مع إسرائيل.

بهذا المعنى، كان على الرد الإيراني أن يوازن بين هدفين: أن يكون موسّعًا ومضبوطًا في الوقت عينيه.

شكل الهجوم المركّب

هكذا، صمّمت إيران هجومًا مركّبًا قام على إطلاق 170 مسيّرة و30 صاروخ كروز و120 صاروخ باليستي، وهو ما مثّل هجومًا جويًا موسّعًا بالمفاهيم العسكريّة، بما يتناسب مع قدرة إسرائيل الكبيرة على اعتراض هذه المقذوفات. ولتشتيت الدفاعات الجويّة، حرصت إيران على تنويع المواقع الجغرافيّة المُستهدفة، لتشمل قواعد عسكريّة في الجولان ووسط وجنوب صحراء النقب وبئر السبع.

وفي النتيجة، أظهرت مقاطع الفيديو تمكّن بعض المقذوفات من تجاوز الدفاعات الجويّة الإسرائيليّة، لتسقط على مطار “نيفاتيم” العسكري جنوب إسرائيل.

وقد زعم الجيش الإسرائيلي أنّه تمكّن –مع شركائه الإقليميين والدوليين- من اعتراض 99% من المقذوفات الإيرانيّة، عبر إسقاط جميع الطائرات المسيّرة والغالبيّة الساحقة من الصواريخ. غير أنّ الجيش اضطرّ للاعتراف بحدوث “ضرر طفيف” في مطار “نيفاتيم”، جرّاء اختراق الدفاعات الجويّة الإسرائيليّة بخمسة صواريخ كروز وعدد “قليل جدًا” من الصواريخ الباليستيّة.

وبعد خمسة أيّام من الهجوم الإيراني، فنّدت صحيفة “معاريف” العبريّة مزاعم الجيش، لتخلص إلى أنّ الدفاعات الجويّة الإسرائيليّة صدّت 84% من الهجوم الإيراني، وذلك بخلاف الأرقام الرسميّة.

من ناحيته، لم يقدّم مجلس الأمن القومي الإيراني رواية مضادّة بشأن نوعيّة الأهداف التي نجح في الوصول إليها، أو حجم الأضرار التي حققها الهجوم. إلا أن بيان المجلس، الذي أعلن عن الرد، عبّر صراحة عن محدوديّة العمليّة وأهدافها، بوصفها “الحد الأدنى من الإجراءات العقابيّة”، التي تجنّبت “استهداف منشآت اقتصاديّة أو بنى تحتيّة”.

وهذا ما أكّد مجددًا اقتصار أهداف العمليّة على تثبيت معادلة الردع، عبر تحقيق اختراقات محدودة، دون التورّط في حربٍ كبيرة بين الطرفين.

الدلالات السياسيّة للضربة

بمجرّد انتهاء الضربة الإيرانيّة، انشغل الطرفان بتلمّس تداعياتها على توازنات القوّة العسكريّة بينهما. فالجيش الإسرائيلي احتفى بصد الغالبيّة الساحقة من المقذوفات المتجهة إليها، لكنّ ذلك لم يكن ممكنًا دون مشاركة مجموعة من القوى الدوليّة الإقليميّة والدوليّة في صد الهجوم.

ومن هؤلاء مثلًا الولايات المتحدة الأميركيّة عبر قواعدها في سوريا والعراق، والجيش البريطاني عبر قواعده الجويّة الموجودة في قبرص، بالإضافة إلى الجيش الفرنسي الموجود في الأردن. مع الإشارة إلى أنّ الأردن نفسها شاركت في صد المسيّرات والصواريخ الإيرانيّة التي عبرت عبر أجوائها، معتبرةً أن هذه المقذوفات تمثّل اختراقًا للسيادة الأردنيّة.

بهذا الشكل، أكّد الرد الواسع الإيراني أنّ إسرائيل ستكون عاجزة مستقبلًا عن صد هجوم إيراني مكثّف، إلا بمساهمة تحالف دولي وإقليمي واسع، خصوصًا إذا ما تم إغراق الدفاعات الجويّة الإسرائيليّة بعددٍ كبيرٍ من المقذوفات. وهذا ما سيبقي إسرائيل رهينة الغطاء الدولي والإقليمي الكفيل بحمايتها، في سياق صراعها التاريخي مع النظام الإيراني.

ومن هذه الزاوية بالذات، يمكن فهم دعوة عضو مجلس الحرب الإسرائيلي بيني غانتس لتشكيل حلف إقليمي ضد إيران، بمجرّد انتهاء الضربة العسكريّة الإيرانيّة.

في الوقت عينيه، بيّنت التقديرات العسكريّة أن الجيش الإسرائيلي تكبّد كلفة قاربت الـ 1.5 مليار دولار أميركي، للتمكن من صد الهجوم الإيراني. فثمن الصاروخ الواحد في نظام “آرو” الدفاعي، المخصّص لاعتراض الصواريخ البعيدة المدى، يتجاوز الـ 3.5 مليون دولار. بينما يتجاوز ثمن الصاروخ الواحد في نظام “مقلاع داوود”، الذي يعترض الأهداف المتوسّطة المدى، المليون دولار.

وفي المقابل، لم تتكبّد إيران في هجومها سوى 10% فقط، من الكلفة التي تكبّدتها إسرائيل لصد الهجوم.

ولهذا اتضح أنّ المنظومة الدفاعيّة الإسرائيليّة قد لا تكون قادرة على الصمود بشكل مستدام، في أي حرب استنزاف طويلة بالتزامن مع إيران، بالنظر إلى كلفة الدفاعات المرتفعة جدًا، في مقابل اعتماد إيران على وسائل هجوميّة منخفضة الثمن.

ومن المهم الإشارة إلى أنّ روسيا كانت قد اعتمدت على هذا العامل في هجومها على أوكرانيا، عبر الاعتماد على المسيّرات الإيرانيّة الرخيصة في الحرب، في مقابل اعتماد الدفاعات الأوكرانيّة على أسلحة حلف الناتو المكلفة جدًا.

الرد الإسرائيلي وتنفيس الاحتقان

بمجرّد انتهاء الضربة الإيرانيّة، حبس العالم أنفاسه، بانتظار رد الفعل الإسرائيلي. إذ كان من المؤكد أن أي مواجهة إقليميّة واسعة النطاق بين الطرفين، كانت ستفضي إلى اضطرابات لا تُحمد عُقباها، على مستوى خطوط إمداد النفط في منطقة الخليج.

بعد خمسة أيّام من الرد الإيراني، أصابت قاعدة شيكاري العسكريّة في مدينة أصفهان الإيرانيّة ضربة غامضة، لم يُكشف عن جميع تفاصيلها بعد. لكنّ صور الأقمار الاصطناعيّة كشفت أن الهجوم أدّى إلى إتلاف أنظمة دفاع جوي إيرانيّة من طراز أس-300، كانت مخصّصة لحماية مواقع نوويّة مجاورة مهمّة.

وهكذا، كان من البديهي اعتبار هذه الضربة رد فعل من جانب إسرائيل، لحفظ ماء الوجه أولًا، ولاستعراض قدرتها على الوصول إلى برنامج إيران النووي عند الحاجة ثانيًا.

غير أنّ إسرائيل امتنعت منذ حصول الحادث عن تبنّي الهجمة بشكل علني، ربما بهدف تفادي إحراج إيران وتجنّب ضربة مضادة من قبلها. لكن امتناع إسرائيل عن التعليق أو نفي مسؤوليّتها عن الهجوم، أكّد للمتابعين أن العمليّة كانت الرد الإسرائيلي على الضربة الإيرانيّة.

ومن جهتها، لم ترغب إيران كذلك بالتورّط في المزيد من التصعيد المضاد، فسخّفت الهجوم واعتبرته مجرّد محاولة تسلّل فاشلة من قبل “مسيرات صغيرة”، ولم تتهم إسرائيل بشكل مباشر بالعمليّة.

على هذا النحو، جاءت الضربة الغامضة بمثابة مخرج سمح للطرفين بتنفيس الاحتقان، وإنهاء حلقة التصعيد المتبادلة.

فإيران حققت مُرادها من ضربتها الأولى، عبر وضع معادلة الردع الجديدة، من دون أن تستهدف أصلًا الدخول في مواجهة واسعة النطاق على المستوى الإقليمي مع إسرائيل وشركائها الغربيين.

أمّا إسرائيل، فكانت تدرك بدورها أنها لا تملك الغطاء الغربي لغوض مواجهة من هذا النوع، ولم ترغب بأكثر من رد صغير وملتبس يطوي صفحة الرد الإيراني، ويُظهر قدرة إسرائيل على الرد في العمق الإيراني عند الحاجة.

الدلالات السياسيّة والمواقف الدوليّة

منذ بداية هذه الأحداث، حرصت إيران على تفادي الانزلاق في أي تصعيد بمواجهة القوّات الأميركيّة الموجودة في منطقة الشرق الأوسط. وهذا ما عكس حرص النظام الإيراني على مسارات التفاوض غير المباشر، القائمة حاليًا مع الإدارة الأميركيّة، والتي قد تتطوّر إلى اتفاق شبيه بالاتفاق النووي السابق في حال فوز الرئيس بايدن بولاية جديدة.

هذه العوامل، فرضت على إيران تبادل الرسائل الدبلوماسيّة مع الولايات المتحدة قبل تنفيذ الهجوم، بهدف احتواء تداعيات الرد الإيراني قبل حصوله. ببساطة، أبلغت إيران الأميركيين بموعد الرد، وأرسلت ما يكفي من تطمينات تؤكّد أنها لا تسعى إلى مواجهة أبعد من ذلك مع إسرائيل.

بالشكل عينيه، كانت جميع الدول الغربيّة حريصة على تفادي مواجهة كبيرة مع إيران، وهذا ما دفعها إلى حث إسرائيل على تفادي أي تصعيد كبير مع إيران بعد الضربة. وربما لهذا السبب، حاولت جميع ردود الفعل الغربيّة التقليل من شأن الضربة الإيرانيّة، والإعلان عن فشلها، في مقابل التأكيد على نجاح إسرائيل في صد الهجوم. وبهذه الطريقة، كانت المواقف الغربيّة تحاول الحفاظ على هيبة إسرائيل سياسيًا، لدفعها إلى التهدئة وتفادي أي مواجهة كبيرة مع طهران.

إلا أنّ الضغط على إسرائيل لتفادي التصعيد، توازى مع تأكيد أميركي وبريطاني وفرنسي صارم على الالتزام بحمايتها، في أي مواجهة محتملة مع إيران. وقد تكون هذه الضمانات الحاسمة والعلنيّة هي ما منح هذه الدول الغربيّة القوّة التفاوضيّة الكفيلة بتهدئة إسرائيل، ودفعها إلى رد محدود وغامض لا يستدعي مواجهة أكبر مع إيران.

فاستفادة إسرائيل من الغطاء العسكري الغربي، يعطي الدول الغربيّة القوّة السياسيّة التي تؤثّر على قرارات إسرائيل في سياق المواجهة المباشرة مع إيران.

وعلى أي حال، وعلى المستوى السياسي أيضًا، كان من اللافت اندفاع الغالبيّة الساحقة من الدول الغربيّة لاستهجان الضربة الإيرانيّة، واعتبار أن إسرائيل باتت في موقع الدفاع عن النفس. في حين أنّ معظم هذه الدول كانت قد تجاهلت اتخاذ موقف مشابه، عندما وجهت إسرائيل ضربتها إلى القنصليّة الإيرانيّة دمشق، والتي تمثّل مخالفة صريحة للقانون الدولي.

مع الإشارة إلى أنّ هذه الدول كانت قد اتخذت موقفًا حازمًا اتجاه الإكوادور، بعد قيام قوّات الشرطة فيها باقتحام السفارة المكسيكيّة في 5 نيسان/أبريل 2024، أي بعد أيّام قليلة من قصف القنصليّة الإيرانيّة.

تنوّع المواقف الإقليميّة

على المستوى الإقليمي، أثارت تلك التطوّرات حفيظة دول الخليج العربيّة بمختلف توجهاتها، وهو ما دفعها إلى لعب دور دبلوماسي في التواصل مع إيران والولايات المتحدة لفرملة التصعيد الحاصل.

وجاء موقف الدول الخليجيّة متناسقًا مع مصالحها الإقليميّة، بوصفها دولًا مصدّرة للنفط والغاز، وهو ما يضعها في موقع المتضرّر من أي تصعيد إقليمي يهدد الملاحة في منطقة الخليج. ومن المعروف أيضًا أن جميع دول الخليج العربيّة تحتضن قواعد عسكريّة أميركيّة، ما يمثّل تهديدًا أمنيًا لهذه الدول في حال تصاعد المواجهة بين إيران والولايات المتحدة.

ميدانيًا، وحدها الأردن تبنّت المشاركة في إسقاط المقذوفات الإيرانيّة، انطلاقًا من موقف مُعلن رافض لتحويل المجال الجوي للبلاد إلى ساحة مواجهة بين إسرائيل وإيران. مع الإشارة إلى النظام يخشى حاليًا من تأثير أي حدث أمني مماثل على التوازنات السياسيّة الداخليّة في البلاد، التي تضم قاعدة مهمّة لتيّار الإخوان المسلمين، المظلّة الإيديولوجيّة لحركة حماس.

أمّا سوريا والعراق، فاكتفيتا بموقف المتفرّج أمام كل هذه الأحداث، في الوقت الذي قامت فيه القوّات الأميركيّة الموجودة في البلدين بإطلاق الصواريخ الاعتراضيّة على الصواريخ والمسيّرات الإيرانيّة.

في النتيجة، يبقى من المهم القول إن الضربة الإيرانيّة لم تسع إلى إحداث أي تغيير في معادلات الحرب القائمة في قطاع غزّة.

بل على العكس تمامًا، وبخلاف ما تصوّره المتحمسون للدور الإيراني في المنطقة، حرصت إيران على إيضاح أبعاد عمليّتها، التي اقتصرت على حسابات تتعلّق بأمنها القومي.

وبصورة أوضح، لم يتجاوز هدف الرد ردع إسرائيل عن تجاوز الخطوط الحمر في المستقبل، عبر قصف أراضي أو منشآت دبلوماسيّة إيرانيّة. أمّا كل ما يتجاوز ذلك، فسيبقى من مهام حلفاء إيران في المنطقة.