وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

السّينما الفلسطينية “فرحة”: عدالة مؤجلة…

قصة فيلم "فرحة" مستوحاة من "راضية"، وهي امرأة فلسطينية نجت من القتل وسارت من قريتها حتى وصلت إلى سوريا.

السّينما الفلسطينية "فرحة"
[Screenshot] Youtube/TiffTrailers/Farha
دانا حوراني

صدر فيلم “فرحة”، من انتاج أردنيّ، في مطلع ديسمبر الحالي، ويتناول قصة فتاة فلسطينية اسمها فرحة عاشت أحداث نكبة 1948، وشكّل الفيلم قصة من قصص عديدة تصوّر مأساة الفلسطينيين، لما ارتكبته العصابات الصّهيونية المسلحة من مذابح بحقهم حيث هجّرت منهم 700 ألف شخص.

بطلة الفيلم فتاة تبلغ من العمر 14 عامًا، أدّت دورها الممثلة الأردنية كرم طاهر. عندما احتلت العصابات الصّهيونية قريتها، خبّأها أبوها في مخزن خوفًا على سلامتها، حيث كانت تراقب عبر شقوق الجدار ما كان يُرتكب من فظائع في الخارج.

وتتابع أحداث القصة بعد أن تتحول “فرحة” من تلميذة صغيرة مرحة قادرة على مواجهة المعايير الجندرية والمجتمعية في بلدتها، إلى واحدة من ضحايا الاحتلال والحرب البائسة، والشاهدة على دمار عالم بأسره.

يستند الفيلم إلى قصة حقيقية حدثت لصديقة والدة المخرجة الأردنية في طفولتها أثناء النكبة، وهي الآن لاجئة في سوريا.

وقد صرّحت مخرجة الفيلم دارين سلام لعرب نيوز: “لا أخشى من قول الحقيقة. يجب أن نفعل هذا لأن الأفلام تبقى بعد موتنا. لذلك قررت إخراج هذا الفيلم لا تعبيرًا عن موقفي السياسي، بل لإنني وفيّة للقصّة الّتي سمعتها”.

يرى الباحثون والمراقبون الفلسطينيون أن الفيلم يمنح الفلسطينيين، بخاصةٍ من يعيشون في الشّتات، فرصة لتذكّر جرح ظلّ كامنًا في النفوس لفترة طويلة بسبب عدم سرد الأحداث ونقلها بدقة.

النكبةُ والألم

كانت النكبة من أصعب الأحداث المؤلمة التي وقعت في تاريخ فلسطين وشعبها. فقد تعرّض الفلسطينيون للعديد من حملات التطهير العرقي والإبادة عندما أعلنت إسرائيل قيام دولتها في 15 مايو 1948.

ويُعتقد أن أكثر من 300 ألف شخص قد هجروا بيوتهم في الأشهر السابقة بحثًا عن ملاذ آمن في الدول المجاورة. ففرّت العائلات الفلسطينية من العنف بأعداد كبيرة، ما أدى في النهاية إلى نزوح 83% من الفلسطينيين.

أما من بقوا، فقد شكّلوا مناطق تواجد صغيرة داخل حدود الضفة الغربية وغزة، في حين سيطرت إسرائيل على بقية البلاد.

وقد صرّحت مخرجة الفيلم لمجلة تايم أن القصة تتعلّق بالفلسطينيين كلّهم، حتى أحفاد الناجين الذين لم يشهدوا النكبة بأنفسهم، فقد سمعوا الحكايات التي روتها عائلاتهم. وقصة الفيلم مستوحاة من “راضية”، وهي امرأة فلسطينية نجت من القتل وسارت من قريتها حتى وصلت إلى سوريا.

وقالت سلام: “لا تُوجد أفلام تروي أحداث تلك الفترة في فلسطين تحديدًا. ولكن كأيِّ مواطن أردني من أصل فلسطيني، أو حتى كأيّ شخص عربي، نجد أنفسنا قد تربينا على سماع تلك القصص عن فلسطين والنكبة. وتلك القصص التي سمعتها من جدي وجدتي وعائلات أصدقائي قد اندمجت لتشكّل شخصية فرحة”.

وأوضحت المخرجة أن اسم البطلة يشير إلى الحياة ما قبل النكبة، قبل أن تضيع فرحة الناس على حد قول أجدادنا. وذكرت المخرجة أنّها لم تنجح في العثور على راضية، إلا أن تعليقات المشاهدين قد أثبتت صدق قصتها.

جرح دائم

ترى الكاتبة والحقوقية الفلسطينية الأمريكية سوزان أبو الهوى أن الفيلم قد سلّط الضوء على ثقافة لطالما تعرّضت للقمع وأخفيَت عن الجمهور الغربي.

وتعتقد الكاتبة أن الفيلم يُعدّ وسيطًا مؤثرًا يمكن من خلاله فهم الصدمة والاعتراف بها. وأضافت أن القصص التي تروي معاناة الفلسطينيين ضرورية من أجل مواجهة البروباغندا والرقابة الإسرائيلية شأنها شأن القصص التي تروي حياتهم وتبرز ثقافتهم. بخاصةٍ في الوقت الذي تفاقم فيه عنف القوات الإسرائيلية ضد الفلسطينيين، فقد قتلت 165 فلسطينيًا على الأقل في الضفة الغربية وحدها، ما جعل 2022 العام الأكثر دموية منذ أكثر من عقد.

وجدير بالذكر أن الحكومة الإسرائيلية لطالما سعت إلى التنصل من مسؤولية مقتل المدنيين الفلسطينيين من خلال توجيه اللّوم إلى الضحايا وعائلاتهم وتصويرهم على أنّهم إرهابيون معادون للسامية. كما توظف إسرائيل الإعلام لكسب الاعتراف العالمي من خلال نقل صورة تقدمية عن نفسها في مواجهة “تخلف” الفلسطينيين، وإخفاء ما يحدث على أرض الواقع.

وقد كشف تقرير أجرته شركة استشارات مستقلة بطلب من شركة ميتا، الشركة الأم لفيسبوك، أن أصوات الفلسطينيين على فيسبوك وإنستغرام قد تعرضت للحظر خلال انتفاضة الفلسطينيين الحاشدة في مايو 2021 التي تلاها إخلاء قسري للسكان الفلسطينيين من حي الشيخ جراح. فقد فُرضت قيود على الحسابات، وإغلاق المنظمات أو تقييدها، وتعطيل حسابات المستخدمين، بل وتأثرت أيضًا الحسابات التي أظهرت تأييدها الفلسطينيين.

وقالت أبو الهوى: “نحن هدف لمحاولات عديدة لإسكاتنا، لكننا كثر ويصعب إنكار قصصنا وصورنا”. وأضافت: “الفنُ هو الإصرار على إيصال صوتك. إنّه يؤثّر في الناس بأشكال مختلفة، ويفتح مجالًا بين أفراد العائلة لإجراء نقاشات مهمة عن الماضي”.

مواجهة التحديات

وجدت أبو الهوى وكثير من المشاهدين صعوبة في مشاهدة الفيلم. وذلك لأنّه لم يكشف الآلام الكامنة فحسب، بل سلّط الضوء كذلك على الفلسطينيين الذين ما يزالون في حالة اضطراب جسدي ونفسي بسبب معاناتهم من القمع الإسرائيلي.

وقالت الكاتبة مؤكدةّ على أهميّة تصوير الفاعلية الفلسطينية: “لقد نجت فرحة من اعتداء الاحتلال على قريتها، لكن الفيلم لا يوقِع المشاهدين في فخ الدوامة العاطفية، وقد فعل ذلك ببراعة. فالفيلم يحكي قصة النجاة، خلاف الأفلام الأخرى التي تصورنا كضحايا فحسب.”

ويُذكر أن نتفليكس قد أصدرت في أغسطس الماضي مسلسل “مو” بإنتاج عربي بالتعاون مع المبدع والممثل الكوميدي الفلسطيني الأمريكي محمد عامر، والممثل المصري الأمريكي رامي يوسف. وقد توقّع النقّاد أن المسلسل سوف يساعد الجمهور الغربي والشباب الأمريكي على فهم السياسة الأمريكية الخارجية تجاه إسرائيل وإدراك أثرها على المنطقة عمومًا وفلسطين خصوصًا. لكن “أبو الهوى” ترى أنّه من الضروري توجيه التركيز على ما يلهم الفلسطينيين من تعبيرات فنية عن كفاحهم وتاريخهم.

إلا أن فيلم “فرحة” لم يمرَّ من دون ردّ فعل إسرائيلي. فقد صرّح وزير الثقافة الإسرائيلي هيلي تروبر أن الفيلم “مليء بالكذب والافتراءات”. وقال إن عرضه في دور السينما الإسرائيلية “وصمة عار”. ويُذكر أن تقييمات الفيلم على موقع IMDB قد شهدت انخفاضًا حادًا بعد نشر نحو 1000 مراجعة سلبية على صفحة الفيلم.

السّينما وسيلة

يرى أمية كابل، الأستاذ المساعد في الثقافة الأمريكية والسينما والتلفزيون والإعلام في جامعة ميشيغان، أن الحركات الاجتماعية يمكنها استخدام الفيلم للتعبير لجمهور أوسع عن شكواها ومطالبها. وأضاف أن الفيلم مفيد من الناحية الأرشيفية والأكاديمية.

ورغم ذلك، أكّد كابل على أن للصناعة والعمل والأنشطة السياسية التي تحدث خلف الكواليس تأثيرًا على قدرة الفيلم على تغيير ظروف الناس المادية أكثر مما يظهر على الشاشة.

وتابع: ” نرى جيل الشباب، أقلّه، حيث أعيش في الولايات المتحدة، أكثر تفهّمًا من آبائهم وأجدادهم. لذلك يُوجد بالتأكيد اهتمام كبير بالقضية الفلسطينية. لكن هذا التحوّل لم ينتج عن حضور الفلسطينيين المتزايد في الثقافة الشّعبية، بل إن وسائل الإعلام الجماهيرية هي التي تعكس هذا التحوّل الثقافي فينا”.

وأضاف كابل أن العوامل الاقتصادية أدت إلى رغبة نتفليكس في الاستفادة من هذه السوق النامية.

أما عن رد فعله على فيلم “فرحة”، فقد وصفه الأستاذ المساعد بأنه كان خليطًا من المشاعر المتضاربة.

وأوضح: “من المشجع أن أشاهد فيلمًا كهذا على منصة إعلامية شهيرة، لكنني أرى مشكلة في ضرورة تصوير معاناة الفلسطينيين على الشاشة حتى يقتنع الآخرون بأحقية الفلسطينيين في العدالة والحرية”.

وذكر الخبير أنه من بحثه الإثنوغرافي عن ثقافة السينما الفلسطينية في الشتات، وجد أن فلسطينيي الشتات يذكرون مرارًا أن السينما هي إحدى الطرق القليلة التي يلامسون فيها فلسطين. ويمكن للسينما أن تكون حافزًا مفيدًا في فهم العلاقات العائلية والصّعوبات العاطفية، بخاصةٍ عند التعامل مع الصدمة العابرة للأجيال.

وقال كابل: “من الممكن أن تتحول سينما النكبة إلى صنف فني مستقل. ويُرجّح أن يشجع فيلم فرحة على إنتاج المزيد من الأفلام التاريخية في سياق السينما الفلسطينية والأفلام التي تدعم فلسطين”.