وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

تقليد رواية القصص الكردية بالغناء يخطو أولى خطواته في طريقٍ طويل نحو إعتراف اليونسكو

باعتبارها واحدة من أقدم أشكال التعبير الثقافي في بلاد ما بين النهرين، ينبغي إضافة غناء الروايات (dengbej) إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي، وذلك بحسب مطربة الأوبرا بيرفن تشكار، التي بدأت بتوقيع عريضة لجمع الدعم ورفع الوعي بأهمية تقليد غناء الروايات، وهو تقليد كردي قديم لرواية القصص. وفي هذا الصدد، قالت تشكار، وهي كردية الأصل وتعيش في ألمانيا وتقدم عروضاً في جميع أنحاء أوروبا، لـفَنَك، “جمع التواقيع ليس سوى جزء من الحملة. أريد التعاون مع المعاهد الموسيقية والثقافية لتحقيق ذلك.”

من الصعب تحديد عمر تقليد غناء الروايات الحقيقي، بيد أنه يعود بالتأكيد إلى ما قبل الإسلام. ففي الأيام الخوالي، كان المغنون الرواة يتجولون بين البلدات والقرى ويشاركون قصص الحب والموت والنضال والسياسة. كان هذا التقليد وسيلةً لإبقاء الناس على اطلاعٍ بالأحداث والتطورات في المجتمع ولكن أيضاً لنقل القصص التاريخية والأساطير إلى الأجيال القادمة. يمكن للمرء القول أن المغني الراوي هو تعبير رئيسي عن الأسلوب الشفهي الذي حافظت من خلاله الثقافة الكردية على بقائها. وعلى حد تعبير تشكار، “لولا المغنين الرواة، لربما اختفت ثقافتنا.”

نشأت تشكار في بلدة ديريك الصغيرة في مقاطعة ماردين، جنوب شرق تركيا. وقالت إن المغنين الرواة كانوا جزءاً من حياتها، وبحسب قولها “في طفولتي، كان جدي يستمع دائماً إلى المغنين الرواة العظماء على الراديو أو على المسجل. كان هذا أيضاً حال العديد من الأكراد.”

لا بد أن هذا التصرف كان محفوفاً بالمخاطر بالنسبة لجدها لأن تشكار كانت طفلة في الثمانينات، إذ لم تكن الثقافة الكردية حرة في تاريخ الجمهورية التركية، التي تأسست عام 1923، ولكن بعد الانقلاب العسكري عام 1980، وصل القمع إلى مستوياتٍ جديدة. فقد كان مجرد التحدث باللغة الكردية قد يزج بك في السجن، ناهيك عن المشاركة في تعبيرات أكثر نشاطاً عن الثقافة الكردية، مثل غناء الروايات. لم يتحسن الوضع حتى نهاية القرن، عندما وصل حزب العدالة والتنمية، الذي يتزعمه الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان، إلى السلطة.

انتهزت الحركة الكردية الفرصة لمحاولة إنقاذ هذا التقليد – حيث كان الفن على وشك الانقراض على نحوٍ خطير في ذلك الوقت، إذ كان معظمهم من كبار السن وبعض النساء المسنات الذين لا يزالون يتقنون الطريقة التقليدية لرواية القصص. تركزت الجهود في ديار بكر، أكبر مدينة كردية في جنوب شرق تركيا، حيث تم فتح منزل لغناء الروايات في عام 2007، كما يظهر في الصورة. كان يقع في المركز التاريخي في مبنى تقليدي مع فناء، ومبني من أحجار البازلت السوداء التي تُميّز المدينة. وإن كانت الظروف الجوية مناسبة، يمكن للزوار في أي وقت من اليوم الدخول للمركز حيث سيجدون دوماً بضعة مطربين يجلسون في الفناء، بينما في الأيام الماطرة يتواجدون في الغرف المفروشة بالفرش التقليدي في الداخل.

وعلى الرغم من الإشارة إلى أولئك الفنانيين بـ”المغنين،” إلا أن الأسلوب يتراوح في الواقع بين إلقاء الشعر والغناء. وعادةً، يضع المغني الراوي كف يده مقعراً خلف أذنه. وعندما يجتمع أكثر من مغني، فإنهم عادةً ما يتولون قص روايات بعضهم البعض. يمكن أن تكون القصص التي يتم سردها قديمة أو أكثر حداثة، لكن يتوقع من أفضل المؤدين تقديم قصصٍ جديدة أيضاً، مضيفين التطورات السياسية الحديثة إلى الأغاني الحالية، أو في بعض الأحيان يستخدمون المزاح. يمكن للجلسة الواحدة أن تستغرق من نصف ساعة إلى ساعة أو أكثر من ذلك – كما لم يكن الغناء طوال الليل استثناءً في الأيام الخوالي.

استناداً إلى وصف “التراث الثقافي غير المادي” على موقع اليونسكو، يبدو أنه من غير المحتمل أن لا يتم الإعتراف بتقليد غناء الروايات: ويشمل هذا التقاليد أو أشكال التعبير الحية الموروثة من أسلافنا والتي ستنقل إلى أحفادنا، مثل التقاليد الشفهية، وفنون الأداء، والممارسات الاجتماعية، والطقوس، والمناسبات الاحتفالية، والمعارف والممارسات المتعلقة بالطبيعة والكون، أو المعارف والمهارات المرتبطة بإنتاج الصناعات الحرفية التقليدية. كما ينص وصفٌ أكثر تفصيلاً على أن التراث غير المادي هو، من بين أمور أخرى، “تراث تقليدي ومعاصر وحي في الوقت نفسه” و”تراث قائم على الجماعات.” بمعنى آخر، يجب على المجتمع نفسه أن يعترف بالتقليد باعتباره تراثاً، ولا يمكن فرض هذا من قبل أي شخص خارج المجتمع.

على الرغم من ذلك، هناك صعوبة: يمكن للدول فقط أن تطلب رسمياً إضافة تراثٍ ما إلى قائمة اليونسكو. ففي أيامه الأولى، ربما منح حزب العدالة والتنمية الحاكم الثقافة الكردية بعض الحرية، لكن العديد من هذه “الحريات” تم إلغاؤها. يرجع هذا إلى تجدد العنف في المنطقة منذ عام 2015، عندما انتهت “عملية السلام” التي استمرت ثلاث سنوات. أثر هذا أيضاً على حي سور، حيث يقع منزل هذا التقليد. وعلى الرغم من أن المنزل لا يزال قائماً ويعمل، إلا أن روح إحياء الثقافة الكردية السابقة تضاءلت.

تجدر الإشارة إلى أن قلعة ديار بكر وحدائق هوسال أضيفت إلى قائمة اليونسكو للتراث الثقافي في عام 2015. ومع ذلك، فإن القلعة والحدائق ليست كردية على نحوٍ خاص ولكنها تعكس التنوع الثقافي والديني الذي يمثل تاريخ المنطقة. إن غناء الروايات ليس فقط تراثاً غير مادي ولكنه أيضاً تراث كردي خالص أيضاً، ولطالما كان له جانبٌ سياسي – فالعديد من الأغاني تشهد على الصراع الكردي.

وبإلقاء نظرةٍ على قائمة التراث الثقافي غير المادي يظهر أنه حتى الآن ترتبط جميع المشاركات من تركيا بالثقافة التركية، باستثناء عيد النوروز، وهو مهرجان ربيعي يتم الاحتفال به في غرب آسيا. ويبدو من غير المحتمل أن تبدي تركيا على المدى القصير أي اهتمام بترويج تقليد غناء الروايات لليونسكو. بل إن تشكار على علمٍ بذلك غير أنها تقول إن العريضة غير سياسية بالمطلق وأنها تعتزم التحدث إلى مؤسسات الدولة حول هدفها.

ومع ذلك، تركز حالياً على الخطوات الأولى لطريقٍ طويل: إلى جانب تقديم الإلتماسات، تحاول إقامة روابط مع المؤسسات الثقافية والفنانين الذين يرغبون في الترويج لهذا التقليد أيضاً، لبناء تحالفٍ بأكبر حجمٍ ممكن، ومدعومٍ من قبل أكبر عددٍ ممكن من المواطنين يمكنها الوصول إليهم، وبحسب قولها “أقوم بذلك من أعماق قلبي، وآمل أن ينضم آخرون. جميعنا نحب ثقافة غناء الروايات.”