كَبُرَرجب طيب أردوغان من بداياتٍ متواضعة إلى عملاقٍ سياسي، ليُعيد تشكيل تركيا متفوقاً على أي قائدٍ تركي آخر منذ أيام مصطفى كمال أتاتورك، الأب المبجل لتركيا الحديثة.
واليوم، أصبح المؤسس الفخور لرئاسةٍ قوية، ممارساً بمهارة سلطة منقطعة النظير ومترئساً نظاماً سياسياً لا يرتكز على حزبٍ أو كتلة، بل على رجلٍ واحد، هو أردوغان نفسه. بالنسبة لأنصاره، جلب أردوغان لتركيا سنواتٍ من النمو الاقتصادي المستدام، كما زاد من نفوذ أنقرة الدولي ودافع عن الإسلام السني، والقومية التي تحنّ إلى العثمانية. أما بالنسبة لمنتقديه، فهو مستبدٌ وغير متسامحٍ مع معارضي رؤيته لمستقبل تركيا وأساليبه لتحقيق ذلك.
وبشراكةٍ مع عبد الله غول، الذي خلفه أردوغان بمنصب الرئيس، أسس حزب العدالة والتنمية عام 2001، وهو حزب اليمين الوسط المحافظ الذي سعى إلى إدخال السياسات الإسلامية إلى التيار التركي. فقد حقق الحزب هذا الهدف بنجاحٍ مذهل، حيث فاز في الإنتخابات العامة في عام 2002، و2007، و2011، ومرتين في عام 2015.
فلم تأتِ شخصيةٌ تُهيمن على السياسة التركية لفترةٍ طويلة منذ أيام أتاتورك، إلا أن صعوده الصاروخي شوّه بسلسلةٍ من الإدعاءات بسوء الإدارة، وانتهاكات حقوق الإنسان، وقمع حرية التعبير، وحملة التطهير واسعة النطاق في البلاد.
فأردوغان الذي ولد عام 1954 في اسطنبول وترعرع على سواحل البحر الأسود في تركيا لأبٍ يعمل في خفر السواحل، خريج مدرسة ثانوية إسلامية وكلية الإدارة في جامعة مرمرة.
وأثناء وجوده في الجامعة، التقى أردوغان بنجم الدين أربكان، الذي أصبح أول رئيس وزراء إسلامي للبلاد ومرشداً للسياسي الشاب المنتظر. وبعد الانقلاب العسكري عام 1980، انضم اردوغان إلى حزب الرفاه بقيادة أربكان، ليصعد في صفوف الحزب إلى أن تم انتخابه للبرلمان عام 1991 (إلا أن الحظ لم يحالفه بالوصول إلى مقعده في البرلمان). بيد أنه حقق نجاحاً مدوياً عام 1994 بعد انتخابه عمدة اسطنبول، مما أثار المخاوف في صفوف النخبة الحاكمة في المدينة من محاولته فرض قيودٍ على الكحول وأنماط الحياة “غير الإسلامية.” وعلى الرغم من أنه أثبت أنه إداري مؤهل وعملي للمدينة، إلا أنه لم يدم طويلاً في منصبه الرسمي. ففي عام 1997، تم تجريده من منصبه وحكم عليه بالسجن 10 أشهر لاقتباسه أبياتاً شعرية إسلامية في خطابٍ علني.
تضمنت القصيدة البيت التالي:
“مساجدنا ثكناتنا، قبابنا خوذاتنا، مآذننا حرابنا، والمصلون جنودنا…،” حيث اعتبرتها القضاء العلماني انتهاكاً للمبادىء ذات الفكر الكمالي في البلاد. قضى خلف القضبان أربعة أشهرٍ فحسب، إلا أنها شكلت نقطة تحولٍ في حياة الرئيس المستقبلي، الذي استخدم محاكمته والاهتمام الذي حصل عليه كشعلةٍ للأتراك ذوي التوجهات الإسلامية الغاضبين من العلمانية القمعية لدستور البلاد.
ومع تجريده من منصبه كعمدة اسطنبول، مُنع أيضاً من الترشح للانتخابات البرلمانية لخمس سنوات؛ حظرٌ أبطلته حكومة حزب العدالة والتنمية على الفور عام 2003، بعد أن أصبح أكبر حزبٍ في انتخابات تركيا عام 2002، بعد حصوله على أكثر من ثلث أصوات الناخبين. وفي مارس 2003، ترشح أردوغان وفاز في الانتخابات الفرعية في مدينة سرت، مسقط رأس زوجته، مستكملاً تحولاً طال انتظاره في السياسة الإسلامية في تركيا.
وطوال حياته المهنية، حرص أردوغان على الحفاظ على مفاهيم قربه من الشعب، حيث اعتمد إلى حدٍ كبير نمط السياسات الشعبوية في التجمعات والخطب العامة للتواصل مع الناخبين. وعادةً ما تعج خطاباته بالمصطلحات الإسلامية اليومية، والنبرة التحاورية، والإزدراء الإيجابي للسلطة المؤسسية في الداخل والخارج. فقد قربته سياساته الإسلامية البلاغية العثمانية، وحتى مشواره المهني القصير كلاعب كرة قدم محترف، من قاعدة ناخبيه الضخمة من المحافظين من الطبقة العاملة. ومع ذلك، مع ازدهار اقتصاد تركيا، ازدهرت أيضاً ثروات الأتراك. ولكونه يمثل قصة نجاحٍ لمن صنع نفسه بنفسه، أصبح أردوغان رمزاً للحظ الجيد بالنسبة للكثيرين من الطبقة الوسطى المحافظة الآخذة بالنمو في تركيا.
فقد كان جوهر حزب العدالة والتنمية الذي يتبع له أردوغان انشقاقا عن حزب الفضيلة التركي، الذي حظرته المحاكم في عام 2001 لأنشطته “المناهضة للعلمانية.” ومن المفارقات، أن أردوغان صعد بحزب العدالة والتنمية إلى السلطة بالنأي بنفسه بعيداً عن الحركات الإسلامية السابقة في تركيا، وتبني تيارا أكثر وسطية.
ومع ذلك، حمل تظلمه ضد الحرس القديم للفكر الكمالي في تركيا معه. فأردوغان الذي كان لا يزال يشعر بالإذلال من العقوبة التي قضاها في السجن والإدانة السياسية بسبب معتقداته الدينية، وبمجرد وصوله إلى السلطة، جعل من كبح نفوذ الجيش، الذي كان يتمتع بالقوة يوماً ما، ما يشبه الحملة الشخصية. بدءاً من محاكمات منظمة أرغنيكون عام 2003، التي تورط فيها عشرات كبار ضباط الجيش في مؤامرةٍ إنقلابية، وصولاً إلى حملة التطهير التي شهدتها البلاد العام الماضي، أعاد أردوغان تركيز سلطة البلاد، بقوة، بأيدي البرلمان، والتي باتت اليوم بين يديه، من خلال السلطة التنفيذية. فقد أجبر الجيش على الإذعان للحكم البرلماني، حيث بات يرأس المناصب العليا في الجيش شخصيات موالية تمتلك خلفيةً مماثلة لأردوغان. فهم من نوعية الرجال، تماماً كحال الرئيس، ما كانوا سيرتقوا قط في المناصب في ظل النظام القديم.
فقد شكلت رؤية أردوغان لـ”تركيا جديدة” محور سياساته. وبالرغم من كونه مفهوم مُبهم، إلا أن أردوغان إدعى أنه يُشير إلى تركيا ديمقراطية خالية من الإنقلابات العسكرية. وباسترجاع الأحداث السابقة، قد يكون انقلاب مراكز السلطة السابقة في تركيا الوصف الأكثر دقة.
ويرى قليلون أنه عندما اجتاح حزب العدالة والتنمية السلطة، ترأس أردوغان حكومةً نفذت الإصلاحات التحررية التي تشتد الحاجة إليها بسرعةٍ وفعاليةٍ أكبر، تقريباً، من أي من سابقاتها. فقد فتح برلمانه جميع الأبواب، من المدارس إلى الجيش وحتى البرلمان نفسه، أمام النساء المحجبات، مما يُبشر بقبولٍ جديد للدين في الحياة التركية الرسمية.
تم انتقاد أردوغان، الأب لأربعة أبناء- غير المدخن والممتنع عن احتساء الكحول، لفرضه القيم الإسلامية التي يتبعها في حياته على تركيا. كما فرضت حكومته قوانين صارمة على بيع الكحول عام 2013، وبعد ثلاث سنوات ادعى أنه لا ينبغي على الأسرة المسلمة أخذ تحديد النسل بعين الاعتبار. كما اتسمت خطاباته أيضاً بانتقاد المساواة بين الجنسين والنسوية، إذ وصل به الأمر إلى حد القول أن الرجال والنساء لا يمكن أن يعاملوا على قدم المساواة.
ومع ذلك، فقد شجع، منذ الأيام الأولى لدخوله المعترك السياسي، مشاركة النساء في المجال السياسي. ففي ذلك الوقت، كان إدراج النساء المحجبات في الشؤون العامة التركية هدفاً رئيسياً للسياسيين الإسلاميين، ذلك أنهن يمثلن رمزاً قوياً للحياة الإسلامية اليومية لمعظم الأتراك داخل نظام حكمٍ شديد العلمانية.
وفي ظل حكم أردوغان، تطورت تركيا لتصبح مركز قوة للتصنيع والتصدير، مما حدّ من مخاوف الأزمة المالية ولتصبح معدلات التضخم المرتفعة التي عانت منها البلاد في التسعينيات، من الماضي.
بيد أن “تركيا الجديدة” هذه تحمل في طياتها بعض السمات المثيرة للقلق من تركيا القديمة، التي عاود الكثير منها الظهور مع تشديد أرودغان قبضته على السلطة. وعلى ما يُعتقد، فإن صراعه المستمر مع رجل الدين المنفي وحليفه السابق فتح الله غولن، وراء المزاعم التي انتشرت عام 2014 بالفساد المستشري على أعلى مستويات الحكومة، الذي قيل أن أردوغان وابنه تورطا به.
ومع ذلك، كان القمع الذي طال حقوق الإنسان، وحرية الصحافة، وحرية التعبير، وحتى الديمقراطية، أكثر بشاعة. فقد سُجن العشرات من السياسيين المعارضين والصحفيين من مختلف الأطياف الإعلامية وعشرات الآلاف من الموظفين الحكوميين والعسكريين والمواطنين بتهمة المشاركة فى الارهاب. وعليه، يمكن بالتأكيد اعتبار محاولة الإنقلاب في العام الماضي، التي زُعم أن جماعة غولن تقف وراءها، رد فعلٍ على حصر السلطة بين أيدي أردوغان، والتي بلغت ذروتها مع فوزه في الاستفتاء الدستوري في أبريل الماضي.
عزز أردوغان مكانته في كتب التاريخ كثاني أبرز حاكمٍ في تركيا الحديثة، إلا أنه يبدو عازماً على التفوق على ذلك. وحتى بعد استفتاء العام الماضي، قام بتنظيم عملية تطهيرٍ لمسؤولي حزب العدالة والتنمية المنتخبين في المدن التي كانت فيها نتائج التصويت أقل مما هو متوقع. ويبدو أن الموالين لأردوغان هم الوحيدون الذين سينجون في خضم هذا التعديل الأخير على السياسة التركية. وإذا ما بدا مستقبل تركيا غير مضمون، فهناك أمرٌ واحدٌ أكيد: سيكون رجب طيب أردوغان محوره.