
عثرنا على أسطورة العاقل الحقيقي
يوسف شرقاوي
لم يكن الفنان التشكيلي السوري لؤي كيالي (١٩٣٤-١٩٧٨) فناناً اعتيادياً. لقد كان ذلك المجنون الذي كشف زيف تعقلنا ولا مبالاتنا ورضوخنا. كيالي خرج عن المألوف الخانق وفضح حجم إذعاننا وقبولنا. كما أظهر لنا كم هو عالم مرفوض ومقيت وخانق، وكم هو عالم لا معقول ولا مقبول. كم هو مفجع ومبكٍ، وكم نحن خائفون وخانعون وقابلون.
كيالي كان إنساناً. لم يتقولب كفنان أو كسياسي أو كبوهيمي أو كثوري، بل احتفظ بكونه إنساناً، وحين مرّ في تلك المراحل كلها مرّ بها كإنسان وعاد منها كإنسان.
حاز كيالي شعبية وانتشاراً كبيرين بين الأوساط المثقفة والشعبية. اكتشف فجأة فقراءً وجائعين. اكتشف صيادين وحصادين وأطفالاً مشردين. واكتشف قضايا يموت الناس من أجلها وهي تستحق ذلك. واكتشف عذابات يعيشها الناس. اكتشف حياةً لا تليق بالبشر. ذلك ما جعله ينحاز للبائسين المسحوقين والفقراء المشردين: الباعة المتجولين، بائعي الجرائد، ماسحي الأحذية، بائعي الجوارب، بائعي اليانصيب، الصيادين، العمال، عاملة الغسيل، العتّال، حلاق القرية، مصلح شباك الصيد. تخلّى حين اكتشفهم، دفعةً واحدة، عن جمهوره البرجوازي القديم.
بقي جنونه موضع جدال لعشرات السنين، تأكيداً أو نفياً له، احتفالاً به أو تملصاً منه. وصار الفنان، الذي مات محترقاً – سواء كان ذلك انتحاراً أو بفعل الصدفة – أسطورة تمّ الإجماع عليها. يتطلّب تحوّل الإنسان إلى أسطورة كثيراً من الآمال المبعثرة والمتشبّث بها بقوة. كذلك كانت آمال الذين يعرفون كيالي، وهم يحاولون تأكيد جنونه، لأنّ هذا يعني أنه كان عاقلاً في زمنٍ محكومٍ بالذل والهدر الإنساني والهزيمة، فيما كانت رواية عائلته مختلفة، بسبب منبته الطبقي.
هما ميتتان لرجلٍ واحد، كما يحدث في رواية جورج أمادو. إنّ لؤي كيالي، كأسطورة، هو كينكاس هدير الماء، كبطل رواية.
صوّر كيالي في لوحاته الجحيم المرعب الذي كان سائداً في زمنه – وما يزال. كان ذلك واضحاً في لوحته “ثم ماذا“، وفي معرضه “في سبيل القضية“. وبدا ذلك في لوحات “ماسحي الأحذية“، و”البائعين” و”صيادي الأسماك“. كان يتواطأ، سراً وعلانية، مع الحرية الإنسانية، ويدعو إليها.
إنّ طريقة رسمه، رغم ذلك، لا تفجّر قضيّة الفقر والتشرّد والبؤس، بل تنبع من إحساس إنساني جمالي على أنه لا ينظر إلى الواقع براهنيته، إنما يرمي بأنظاره إلى عمق الآن ثم يستشرف الآتي.
اللقمة الشحيحة للأطفال الذين رسمهم لم تكن تفجر يأساً في أعماق الفنان، بل حناناً بالغاً. لذلك، هو لا يخون ذلك الحب بتشريح مبالغ فيه، ولا بتشويه يبتعد عن الجمال الذي يعشقه.
كان كيالي يقدّر الشخصيات التي يرسمها ولا يدينها. لكنه حلم وطالب أن تكون في مواقع أخرى تليق بمقامها الإنساني، دون أن يستخدم جعجعة أو إطناباً خطابياً. كان يرسمها بلمسة حنونة أكثر إيلاماً في النفس من ملايين الخطب والعنف المباشر. استطاع كيالي، لأول مرة في تاريخ الفن التشكيلي السوري، أن يبعث الحياة ويؤسس مشروعاً حضارياً عربياً في الرسم، أساسه الإنسان وموضوعه “كرامته”، كما يقول الباحث والناقد أنور محمد.
على الطرف الآخر، لم يتم استخدام أية مفردة تحيل إلى الواقع السياسي الذي دفع الفنان نحو الفقراء. حتى طبيبه الدكتور عبد الخالق سلطان وصف جنونه على أنه “مرض النفاس الدوري”، وعدّد العوامل النفسية والاجتماعية والأسرية لكنه أغفل السياسية.
لماذا اختار كيالي الفقراء إذن؟ لماذا اختار ماسح الأحذية وبائعي العلكة والورود واليانصيب؟ لا شك أنه كان رافضاً لهذه المهن التي تهدر كرامة الإنسان، وتقلّص اعتزازه. إذا كان كيالي قد جن، فإنه جنّ لأنه كان فريسة لديكتاتور يحرق أحلامه ويمثل بها أمام عينيه، ولأنه (كيالي) كان يظهر غضبه ورضاه، فيقول نعم أو لا دون حسابات أو خوف من أحد، وهذه رؤيته. المجنون له رؤية يحرّر فيها عقله من الجنون، من جنوننا نحن العقلاء.
لكن، بعد أن خلع الفنان جمهوره القديم، هل استقبله جمهوره الجديد؟ كان ذلك ربما واحداً من أسباب جنونه. كان كيالي قريناً لفان خوخ. عاش معاناته الروحية ونهايته الفجائعية، وكتب عنه، واصفاً معاناته نفسها ورفضه مِن قبل مَن توجّه إليهم: “كما حدث للفنان فان خوخ، الذي دفعه قلبه الكبير، الذي وسع محبة العالم أجمع، إلى أن يعمل واعظاً – في أوائل حياته – في السجون والمناجم؛ أعطاهم ألبسته وطعامه. ثم دفعه حبه للناس، الذين لم يفهموه أبداً ولقبوه بالمجنون، إلى أن يقطع أذنه ليقدمها إلى امرأة أعجبت بها؛ تعبيراً عن محبته لها. رفضوا محبته لأنهم لم يفهموها ولم يعتادوها فرفضوه هو أيضاً، فتخلى عنهم، ولكنه لم يتخل عن محبته لهم، إذ لجأ إلى الرسم؛ إلى الألوان؛ ليعبر عنها. لكنهم رفضوها من جديد. فاضطره هذا – أعطاهم كإنسان ورفضوا وأعطاهم كفنان فرفضوا – إلى أن يتخلى عنهم وعن محبتهم بهروبه الكبير إلى الطبيعة ليعيش معها مأساة جديدة. إنّ الطبيعة أعطته لكنها رفضت عطاءه كما رفضت حبه للحياة. وأخيراً تحطمت هذه الموهبة الخلاقة المبدعة المعطاءة برصاصة مسدس أطلقها هو هروباً من ذات الحب العارم للناس والطبيعة والحياة”.
وأخيراً، انتهى الفنان تحت رماد المعاناة، كما يقول ممدوح عدوان. إذ كان لؤي قد احترق مرتين، الأولى حين أحرق لوحات معرضه “في سبيل القضية” بعيد نكسة حزيران، وهنا بدأ التحول. أما الثانية فبسيجارته، التي أودت به إلى الموت.
لقد مات فناناً، وكان موته فنياً، يشبه إحدى لوحاته، حيث الموت – كما تقول سيلفيا بلاث – فنٌّ، كأيّ شيءٍ آخر.
المصادر:
- عدوان، ممدوح. دفاعاً عن الجنون. دار ممدوح عدوان. ٢٠١٢. المصدر: https://www.goodreads.com/book/show/11729225.
- صالح، نبيل. رواية اسمها سورية، ج ٣. إصدار خاص، ٢٠٠٧.
المصدر: https://www.goodreads.com/book/show/11878992. - كيالي، لؤي. أرشيف الصحافة، موقع لؤي كيالي الإلكتروني. المصدر: http://www.louay-kayali.com/index.php?page=press&lang=ar
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.