القيود السياسية والاجتماعية في المنطقة تصعّب على الفنانين إقامة حفلات فردية أو مع فنانين آخرين.
دانا حوراني
هربًا من الأزمة التي تفتك بلبنان، تعزف سارة هنيدي على آلة سنثسايزر (جهاز مزج الموسيقى) في شقة صغيرة في وسط مدينة بيروت.
وبهذا الجهاز الذي أهداه إياها أصدقاؤها في عيد ميلادها عام 2019، ترسم صورًا موسيقية تخلق عالمًا مختلفًا داخل غرفتها.
فقد قالت لفنك: “تساعدني الموسيقى على التأقلم مع الأحداث الخارجية. ولا أشعر بمرور الساعات في أثناء العزف منذ بدأت ذلك خلال الإغلاق العام في فترة جائحة كورونا”.
وتعمل هنيدي محررة ومدققة لغوية، لكنها جزء من مشهد الموسيقى التجريبية في لبنان الذي ترى أن شعبيته ازدادت خلال جائحة كورونا.
وأضافت: “تجذب الموسيقى التجريبية الفنانين الشباب إليها لأنها متاحة للجميع وغير مكلفة، فلست بحاجة إلى أدوات باهظة ولا إلى سنوات من التدريب حتى تمارسها”.
بإمكان الهواة دخول عالم صناعة الموسيقى، وهو ما ساعد بعض الفنانين التجريبيين في المنطقة على تحقيق النجاح والشهرة بأدوات بسيطة مثل السنثسايزر وآلة الطبل إلكترونية وجهاز حاسوب محمول.
ويرى فنانو هذا النوع ومنتجوه أنه يلبي حاجة عالمية وعابرة للحدود لا تستطيع الأنواع الأخرى من الموسيقى تلبيتها. في حين حذّر نقاده من تهديد الحداثة للفنون التقليدية والتراث وتعريضها للخطر.
ما هي الموسيقى التجريبية؟
يصف مصطلح “الموسيقى التجريبية” ممارسات موسيقية فائقة الحداثة في منتصف القرن العشرين اتبعت نهجًا جديدًا في التأليف الموسيقيّ، ما أدى بها إلى الخروج بنتائج مخالفة للتيار السائد.
وقد ازدهرت هذه الثقافة الفرعية في النوادي الليلية “الأندرغراوند” في الدول الغربية ثم انتشرت في السنوات الأخيرة. وتتفاعل التيارات التجريبية اليوم مع المجتمعات في كل أنحاء العالم بفضل استخدامها الصوتيات والموجات الصوتية والأصوات المجردة.
قالت هنيدي: “هذه الممارسة ليست متاحة في العديد من دوائر موسيقى البوب على سبيل المثال. لذلك نحتاج إلى خلق لغة جديدة تعبّر عن مشاعرنا وتعكس حياتنا، لأن كلمات الأغاني السائدة لا تعبّر عن تجاربنا في أغلب الأحيان”.
وأوضحت هنيدي أن هناك نمطين يغلبان على أصوات الموسيقى التجريبية وهما النعومة والخشونة. فنجد الموسيقى التي ننتجها ناعمة حالمة رقيقة، أما الأصوات “الخشنة” فهي جافة وشديدة وصاخبة.
وقالت: “الأصوات الخشنة تعكس معاناة الناس الداخلية، أما الأصوات الناعمة فتتيح للمستمعين تغيير حالتهم المزاجية والتخلص من المشاعر السلبية الملازمة لهم”.
لكن القيود السياسية والاجتماعية في المنطقة تصعّب على الفنانين إقامة حفلات فردية أو مع فنانين آخرين. ففي غزة على سبيل المثال، يجد الموسيقيون أنفسهم مقيّدين بحدود القطاع الصغير الذي تحوّل إلى سجن كبير بعد الحصار الإسرائيلي المستمر منذ 15 عامًا.
وفي إيران، يتحايل الموسيقيون على حظر النظام للملاهي الليلية، فيحتفلون في الشقق أو بعيدًا في الصحراء. كما يصعب أن ينجح الفنانون، والفنانات على وجه الخصوص، في دول الخليج بسبب الثقافة الدينية المحافظة.
لكن هنيدي تقول: “رغم سيطرة الرجال على مجال الموسيقى التجريبية، فإن النساء والرجال حققوا نجاحات فيه”.
فن واحد وأنواع من الفنانين
خيمت الاضطرابات والفوضى السياسية طوال العقد الماضي على أشكال الفن في سوريا المنكوبة. لكن تيارات الأندرغراوند جذبت أضواء الموسيقى العالمية إليها.
فقد شارك سعادة خوري في تأسيس “أندرغراوند هاوس سوريا“، وهي مؤسسة رائدة في الموسيقى الإلكترونية حيث يستطيع الناس الرقص وإطلاق غضبهم وإحباطهم “على ألحان قاتمة من موسيقى الفيوتشر باس”.
وفي تونس، أصبحت “شوكة“، وهي شركة إنتاج مكرسة للموسيقى التجريبية في دول العالم الثالث، أشهر من نار على علم لكل من في المجال. وضمّ إصدارهم “SERA3” أحد عشر مقطعًا موسيقيًا يعكس “أصوات الدمار من سوريا، وسايكاديليك التريب هوب من تركيا، وبيئة الكلام الدارج من مصر”.
وأشارت هنيدي إلى أنه في بيروت، التي كانت وجهة مرتادي الملاهي الليلية في المنطقة، تكثر مجتمعات الموسيقيين التجريبيين الذين يدمجون السياسة في موسيقاهم أو يتجاهلونها تمامًا.
وقالت: “ندرك نحن الموسيقيين التجريبيين اللبنانيين البيئة المتداعية من حولنا، ومهمتنا أن نفكك هذه المشاعر والمفاهيم ونعيد بناءها من جديد”.
وأضافت: “هجر المجتمع أشخاص كثيرون في السنوات الماضية ما أدى إلى انكماشه. لكن العديد من الناس ينضمون الآن، ونستطيع التعبير عن صدماتنا وخبراتنا الذاتية وشراكتنا في هذا المجتمع”.
وفي مصر، قال آدم شعلان، مؤسس المنصة الموسيقية وشركة التسجيل هز Hizz في القاهرة، لفنك إن المشهد التجريبي تغير تمامًا بعد جائحة كورونا.
وأشار إلى أن إجراءات الإغلاق مع أزمة الطاقة والركود الاقتصادي أخمدت حياة هذا المجتمع وفرحته.
وقال شعلان: “يمر العالم أجمع بشعور عام بالاكتئاب، فقد كان الناس يأتون إلى حفلاتنا بأعداد كبيرة للهرب والاستلهام من الأشياء الجديدة التي يتعرضون لها كذلك. لكننا الآن نرى الناس يسعون إلى الهرب ولا شيء سوى الهرب”.
طريق إلى النجومية
يتفق شعلان وهنيدي على أن هذا المشهد فتح باب فرص جديدة لتحقيق الموسيقين العرب النجاح والشهرة في بلدان غير بلدانهم. كما يتفقان على أن غياب الكلمات عن موسيقاهم يجتذب الشركات الأجنبية التي ترعى المواهب المحلية وتدعم الميزات التجريدية والشاملة لهذا الصنف الموسيقيّ.
وتُعدّ يارا أسمر وطارق عطوي نموذجين من لبنان حصلا على دعم خارجي ولفتا انتباه العالم بإصدارهما ألبومات وتقديمهما عروضًا خارج بلديهما.
كما قامت مؤلفة الموسيقى التجريبية المصرية ندى الشاذلي بجولة عالمية بعد إصدارها ألبومها الأول “أهوار” في نوفمبر 2017.
كما أصدر الفنان السوري وائل القاق منذ سفره إلى فرنسا عام 2012 ثلاثة ألبومات تدمج ألحان التراث الشامي مع أصوات الرقص التجريبي.
وقالت هنيدي: “تُوجد فرص صغيرة للمبتدئين. فقد ينتج الموسيقيون التجريبيون موسيقى تصويرية لأفلامٍ قصيرة ويحصلون على منح من مؤسسات الفنون المحلية أو الأجنبية. وهي طريقة للانتقال إلى العيش في أوروبا أو أي مكان آخر”.
الجديد في مواجهة القديم
يرى الخبير الموسيقي سام أرنيليان أن التيار التجريبي يفتقر إلى تعريف واضح ومسار للتطور رغم الشعبية التي يجنيها في أوساط بعض الدوائر الضيقة ومرتادي الحفلات.
وأضاف أرنيليان: “الموسيقى التجريبية مثلها مثل باقي أصناف الموسيقى، فهي رد فعل على العالم الخارجي. وهي طريقة يفضلها موسيقيون للتواصل وإن لم تكن اللغة حاضرة. وقد كانت بقية الأصناف الموسيقية في الماضي تحذف كلمات الأغاني للتحايل على القيود الاجتماعية وخوفًا من العقوبات، فمن الطبيعي أن يصم الناس هذا النوع الجديد بالعدوانية وألّا يتقبّلوه في البداية، فقد حدث ذلك مع بقية الأصناف في بدايتها”.
كما أكّد الخبير الموسيقي على أن الجهود التي يبذلها الشباب للانضمام إلى صفوف الموسيقيين المعاصرين لا ينبغي أن تحجب أهمية الحفاظ على الموسيقى والفنون التقليدية في الشرق الأوسط.
فهو يرى أن الموسيقى هي زينة تراث كل بلد وثقافته، وطمسها يمهّد الطريق لتسلل نفوذ خارجي يفرض هوية ثقافية جديدة على الأجيال القادمة.
وأضاف أرنيليان: “تستطيع أي ثقافة أجنبية فرض قيمها ولغاتها وأنماطها الفنية إذا فقدنا الرابط بيننا وبين فنوننا التقليدية”.
ولذلك دمج العديد من الفنانين التجريبيين بين موسيقاهم ومؤثراتهم الذاتية، وقدّموا مزيجًا بين التقليد والحداثة. فعلى سبيل المثال، حرّف السعودي مسيلمة الآيات القرآنية لتصبح إيقاعات قذرة وغير تقليدية، كما يؤلف الكويتي يوسف ياسين ألحاناً للغيتار مستقاة من الألحان العربية.
وأردف أرنيليان بقوله إن مجاراة العصر أمر ضروري لتطور حياة الناس، لكن علينا أن ننتظر لنرى هل سيتغلب المشهد التجريبي الجديد والحيوي -وغيره من أشكال الموسيقى الحديثة الشعبية- على ألحان الشرق الأوسط التقليدية التي تضمحل، أم سينمدج معها ليخلق مزجاً جديداً؟