يعطي اليمنيون الأولوية لشراء القات على الاحتياجات الأساسية لأسرهم وينفقون ما يقرب من 35٪ من دخلهم عليها. ومع ذلك، فإن زراعة القات تزيد من معاناتهم.
أبوبكر باذيب
تتجاهل شريحة واسعة من اليمنيين كل محاذير العالم الصحية والتقارير الطبية التي تصنّف نبتة القات كمخدّر. فهم يجدون في تعاطي هذه المادة متنفساً نفسياً واجتماعياً لما يعيشونه من مرارة المعاناة الإنسانية.
والقات الذي تنتشر زراعته في كلٍّ من اليمن وإثيوبيا والقرن الأفريقي بشكل حصري، تحتوي أوراقه على مركبي الكاثين والكاثينون. ويؤثر هذان المركّبان على الجسم بطريقة مشابهة لمنشط الأمفيتامين ولكن بقوة أقل.
وبات تعاطي القات من أبرز العادات الاجتماعية في اليمن. ويُدخل مضغ القات متعاطيه في حالة من الغبطة والنشوة والشعور باليقظة والتنبه والنشاط. وسرعان ما تنتقل حالة المتعاطي خلال ساعات إلى انعزال ورغبة بعدم الحديث. وينتهي الأمر بمتعاطي القات بمواجهة أضرارٍ صحية لا تنتهي.
يدافع اليمنيون عن القات كنبتة غير مخدرة ولا يمكن مقارنتها بباقي المخدرات، كون الشخص الذي يتناوله لا يدمن عليه. ويمكن له الإقلاع عنه وتركه دون تأثر طبي أو عضوي مباشر.
إلا أن إدراج القات على قوائم المخدرات في معظم دول العالم، وتجريم حامله يتماشى مع فرضية تصنيف المنظمات الدولية الذي تعتبر القات مخدّراً ضاراً يتسبب بإدمانٍ نفسي وأضرار طبية عديدة.
ويعتبر القات الشيء الوحيد الذي يمكن لليمنيين الاتفاق عليه باختلاف انتماءاتهم السياسية، وتعدد فئاتهم الاجتماعية، وتفاوت مستوياتهم الاقتصادية. وبات القات رمزاً اجتماعياً وشرطاً للمناسبات المختلفة.
وتتناول الغالبية العظمى من اليمنيين القات. وبحسب إحدى الدراسات، فإنّ “قرابة 90٪ من الرجال اليمنيين، و73% من النساء، و20% من الأطفال دون سن 12 عاما يمضغون القات يوميا”.
على المستوى الشعبي، يُطلق الناس على هذه العادة اسم “تخزين القات”، مستمدين هذا الوصف من العملية التي يتم من خلالها التعامل مع وريقة القات الخضراء التي يتم وضعها في الفم ومن ثم مضغها بشكل تام والاحتفاظ بها “أو تخزينها” على يمين أو شمال تجويف الفم من الداخل لساعات طويلة.
ويسمّى الشخص الذي يقوم بهذه العملية بـ “المُخَزّن”. وجرت العادة لدى اليمنيين على أن يقوموا بتخزين القات تقريباً بشكلٍ يومي، ولفترةٍ قد لا تقل عن ست ساعات في اليوم الواحد. ويتحكّم في ذلك القدرة المالية للشخص “المخزن” الذي يمكن أن يعطي أولوية لتدبير قيمة وتكلفة “كيس القات” عن الالتزامات العائلية الضرورية.
ويسعى الكثير من اليمنيين منذ ساعات الصباح الأولى لتدبير قيمة القات، وترتيب شرائه. وجرت عادة اليمنيين على تناول وجبة الغداء بين الساعة الواحدة والثانية ظهراً، ليسارعوا بعدها إلى الدخول في أجواء تخزين القات.
وتبدو الساعات الأولى لجلسة القات إيجابية ويسودها الضحك والأحاديث العامة السياسية والرياضية وغيرها. وتسيطر على جلسات تخزين القات الأجواء النفسية المريحة. وسرعان ما يتحوّل جوّ الجلسة إلى هدوء وجدية، وتقلّ الأحاديث حيث يكون فم المتعاطي قد امتلأ على آخره بورقيات القات. ويصل حينذاك المتعاطي لمرحلة الصمت والشرود الذهني، ثم في أحيان كثيرة إلى تعكّر المزاج والنفسية السيئة.
اقتصاد القات
تؤكد بعض الدراسات أن ما يتم إنفاقه على القات في اليمن يصل إلى 35% من دخل الأسرة. وكشف تقريرٌ لمنظمة العمل الدولية عن أن إنفاق اليمنيين من متعاطي القات يزيد عن 400 مليار ريال في السنة، ما يعادل 1.6 مليار دولار أمريكي تقريباً.
وبالرغم من الأوضاع الاقتصادية الخانقة لليمنيين، سيّما وأن 85% من اليمنيين بحاجة للمساعدات الغذائية بحسب تقارير الأمم المتحدة، تشير دراسة حكومية أجريت منذ سنوات إلى أنّ الإنفاق على شراء القات يأتي في المرتبة الثانية بعد الإنفاق على الحبوب في المناطق الريفية.
ويؤكد هذا الأمر أولوية شراء القات وتناوله. كما أنه يدل على قدرة اليمنيين على تدبير تكاليف تعاطي القات من مصروفٍ يومي يصل إلى أضعاف دخلهم الشهري. وعلى هذا النحو، فإن تخزين القات يفاقم المعاناة والاحتياج الذي يتباين في ترتيب أولويات الضرورة والحاجة للأسر اليمنية.
ويقول أحمد العلي -بائع قات- في حديث لفنك “إن أسعار وجودة القات تتنوع وتتفاوت بتنوع مناطق زراعته. وتصل قيمة القات العالي الجودة لما يكفي الشخص لليوم الواحد إلى قرابة 50 ألف ريال يمني، أي ما يساوي 100 دولار أمريكي تقريبا. أما أسعار القات المتوسط والأقل جودة فتصل إلى 5000 ريال يمني، أي يساوي 10 دولار تقريبا. وهناك أيضاً أنواع أقل جودة وتكلفة”.
وتشير تقارير إلى أن المساحة المزروعة بالقات تزيد عن حجم المساحات التي تزرع بمحاصيل أخرى. ويشغل القات حوالي 15% من المساحة الإجمالية للأراضي الصالحة للزراعة في اليمن. كما أن زراعته تستهلك ما يزيد عن 40% من إجمالي كمية المياه المخصصة لأغراض الزراعة. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ القات من أكثر المحاصيل استهلاكاً للمياه.
ويعدّ هذا أيضاً جرس إنذارٍ خطيرا، باعتبار اليمن من الدول المهددة بنضوب المياه. وتواجه العاصمة صنعاء نقصاً حاداً وتهديداً خطيراً لنضوب مخزونه وأحواضه المائية وآباره الجوفية.
ووفقاً لتقارير وزارة الزراعة اليمنية، فإنّ مساحة زراعة القات زادت خلال العقود الأربعة الماضية بحوالي 21 مرة. ويصل عدد المحافظات التي يُزرع فيها القات إلى 18 محافظة من إجمالي 21 محافظة يمنية، علماً بأن زراعته تنتشر بدرجة كبيرة في محافظات عدن وحضرموت والمهرة وسقطرى وشبوة، وأمانة العاصمة.
ويشكل القات ما يقارب ثلث الناتج المحلي الإجمالي الزراعي في اليمن. وتوفر زراعة القات العمل لشخص واحد من بين كل سبع أشخاص في اليمن. وبحسب الدراسات، فإن القات سلعة لا تضيف أيّة قيمة حقيقية للإنتاج والدخل القومي لليمن، باعتباره منتجاً غير قابل للتصدير أو الاعتماد عليه كعائد في الإيرادات الحكومية.
في مقابلة مع فنك، رأى الخبير الاقتصادي الدكتور صلاح المقطري أن الدولة مطالبة بالعمل “على الحد من زراعة القات من خلال رفع الضرائب والعوائد المالية المفروضة عليه”. وكانت الضرائب المفروضة على زراعة القات في بداية ثمانينيات القرن الماضي تبلغ 30%. وبعد ذلك، أصدرت الحكومة القانون رقم 70 من عام 1991 الذي قضى بتخفيض الضرائب المفروضة على زراعة القات لتصل إلى 10%. وأدى ذلــك إلــى ارتفــاع نســبة المزارعين والمتاجريــن بالقات، وبالتالـي إلـى زيـادة أعـداد المستهلكين.
ويؤكد المقطري عدم وجود حــل لتزايد مساحات القات وتداوله إلا بإعادة رفــع ضرائــب القــات بشكل تدريجي إلى أن تصل إلـى 100%. كما شدّد على ضرورة أن تذهــب هذه العائدات إلى تشجيع مزارعي المنتجــات الزراعيــة الأخــرى وحث مزارعي القات على إنتاج محاصيل أخــرى مثـل العنـب والبن وغيرها من المحاصيل الزراعية.
وبحسب المقطري، فإن تطبيق الإجراءات السابقة سيحد من كميات القات المنتجة والمستهلكة في آنٍ واحد. ويرى المقطري أنّ الدولـة يمكن أن تبدأ بتعميم التجربة على مناطق معينة تجد أنها قـادرة على استبدال القات بالمحاصيل الأخرى.
دورة حياة نبتة القات
في مقابلة مع فنك، قال المزارع محسن صالح من منطقة الأهجر بمحافظة المحويت: “رغم صعوبة زراعة القات وتطلبه لمجهوداتٍ وعناية كبيرة، إلا أنّ المزارع يجني أضعاف ما يبذله من جهد وينفقه من أموال على زراعة القات”.
ويضيف: “هذه الأرباح دفعت الكثير من المزارعين إلى استبدال زراعة المحاصيل الأخرى مثل البن أو الخضروات والفواكة بزراعة القات. كما أنّ زراعة القات تدرّ الدخل الأكبر والأكثر والأسرع على مدار العام بخلاف المحاصيل الاخرى”.
ووفقا لصالح، فإنّ بدايات زراعة القات تحتاج لوقت طويل ورعاية خاصة وشاقة وتكاليف عالية. ولا يمكن قطف أغصان القات إلا بعد مرور عامين على الأقل على زراعته. ولا تصبح كمية المنتج قابلة للمتاجرة والبيع إلا بعد مرور أربع سنوات من زراعته.
ويضيف: “تمرّ زراعة القات بمراحل متعددة. وتبدأ عملية الزراعة بتسوية الأرض وتهيئتها ومن ثم وضع الشتلات بشكل صفوف متراصة مع مراعاة المساحة الفاصلة بين كل غرسة وأخرى. وبعد ذلك، يتم ريّها بكميات كبيرة من المياه. ونقوم أيضاً بتقليب التربة حول شجرة القات كل خمسة عشر يوماً للتأكد من إزالة الحشائش من حولها. كما نرش شجرة القات بالمبيدات الكيميائية للقضاء على أي عفن أو فطريات أثناء زراعتها، وبما يساعد على تعزيز نموها”.
وبعد هذه المدة الطويلة، يبدأ المزارع بجني أرباح بيع القات لثلاث أو أربع مرات في العام. وتصبح غرسة القات شجرة قابلة للإنتاج المتواصل طوال العام خصوصا مع استخدام كميات كبيرة من المبيدات والاسمدة التي تضاعف من إنتاجية الشجيرات والمزارع رغم الأضرار الصحية الكبيرة لذلك.
ويراعي المزارعون حفظ القات بعد قطفه في قشر شجر الموز للحفاظ على جودته دون أن يذبل، لأن القات بمختلف أنواعه يتأثر كثيرا بالأجواء الحارة والباردة.
وتتعدد أصناف القات وأنواعه بين مسميات مختلفة مثل الأرحبي والشامي والهمداني والمفصل والصوتي والصبري والغيلي، حتى أنّ هناك نوعا من القات اسمه الحوثي.
التوعية بأضرار القات
سعت بعض الجمعيات المتخصصة في مجال التوعية بأضرار القات إلى تنظيم دورات توعية للمزارعين. كما تضمّنت مساعي هذه الجمعيات تشجيع المزارعين على العودة لزراعة المحاصيل النقدية التي تدر دخل وفائدة حقيقة لهم واليمن. إلا أنّ فقدان الدولة للقدرة على دعم هذه الجهود جعلها تبدو وحيدة وفردية لا يمكن تعميمها كتجربة ناجحة.
كما أنّ جهود التوعية تواجه مقاومةً شعبية واجتماعية كبيرة، تجعل من قدرة التأثير والاستمرار شبه معدومة. وهذا قد يفسر أسباب عدم سعي الحكومات اليمنية المتعاقبة خلال عقود طويلة بعدم اتخاذ أي إجراءات للحد من زراعته أو تداوله في أسواق خارج المدن.
من جانبٍ آخر، تحمل زراعة وأسواق بيع القات أثراً سلبياً على جماليات المظهر العام للمدن اليمنية. وبحسب الباحث الدكتور رياض الأحمدي، فإنّ القات وأسواقه في المدن جرّد الكثير من الجماليات والشكل العام. وفي مقابلة مع فنك، قال الأحمدي: “باتت أسواق القات بيئة للفوضى والضوضاء والخلافات. وقد تصل الأمور إلى استخدام العنف والسلاح الأبيض أو الناري”. ويصف الاحمدي هذه الأسواق بأنها “تشويهٌ بصري، وتلوث بيئي، وهي أشبه ما تكون بحضائر الأغنام والأبقار واسطبلات الخيول”.
ويقول الأحمدي إنّ زراعة القات تؤثر على جماليات العمران اليمني للبيوت من الداخل وتجعل مجالس اللقاءات الاجتماعية تتحول إلى مناظر غير حضارية. ويضيف: “تناول القات يترافق مع عاداتٍ سلبياتٍ متعددة كالتدخين وتناول المشروبات الغازية. كما أنّ منظر متناول القات نفسه كريه، ويترافق مع تغيّر المزاج بصورة منفرة”.
على النقيض من ذلك، يتفاخر معظم اليمنيين بتناول أو مضغ القات في المناسبات، سواء كانت أفراحاً أو أتراحاً. وينطبق هذا الأمر على مجالس النساء والرجال على حد سواء. ووصل الأمر إلى مرحلةٍ بات فيها عدم اصطحاب القات أثناء حضور المناسبات الاجتماعية بمثابة عيبٍ اجتماعي. ويمكن أن يشكل حرجاً كبيراً ونقصاً في الاحترام، إذ بات يراه البعض كعرف اجتماعي متفق عليه في اليمن.
ليس ذلك فقط، بل أن تعاطي القات يمثل رمزا شكلياً للرجولة في ثقافةٍ يصفها بعض الآباء أنها “ثقافة مغلوطة”. وفي الوقت الراهن، يقدّم الكثير من الآباء القات لأبنائهم، تشجيعاً تارةً وفرضاً تارةً أخرى على اعتبار أن ذلك “رجولة” وأن الولد بات “من الكبار”.
ويشجّع بعض الآباء أبناءهم على تناول القات في فترات الاختبارات المدرسية كنوع من تحفيز النشاط وإيقاظ الانتباه، وبحجة أنه يساعد على التركيز والحفظ والسهر.
ووفقاً لبعض التقارير الطبية، فقد أدى استمرار تناول اليمنيين للقات بشكل يومي إلى إعادة تشكيل الخارطة الصحية للأمراض في اليمن. وباتت بعض الأمراض شبه مستشرية بين أوساط متناولي القات.
وتنقسم تلك الأمراض بين الأمراض النفسية والعضوية. ومن أبرز الأمراض التي تصيب متناولي القات الأرق وصعوبة النوم ونقص الإنتاجية. كما انتشرت أمراض سرطانات القناة الهضمية بين صفوف المخزّنين. وتشمل قائمة الأمراض كلاً من أمراض الفم، والتهاب المعدة المزمن، والإمساك، والبواسير، وفقدان الوزن، وقرحة الإثني عشر. كما يعتبر تليف الكبد أحد أبرز الأمراض انتشاراً بين أوساط متناولي القات.
الحرب والقات
فرض اقتصاد القات أعرافاً ومعادلاتٍ غريبة على مستوى تعامل أطراف الحرب اليمنية مع بعضها البعض. وبات لدى الأطراف المتحاربة عرفاً جديداً يرتبط بنقل القات من المدن والقرى اليمنية إلى الأسواق المختلفة. ففي سنوات الحرب الماضية، جرت العادة على أن يوقف المتحاربون المواجهات وتبادل النيران أثناء الساعات الاولى لتناول القات “التخزين”.
ويقول أحد سكان المدن التي عاشت أياماً من المواجهات إنّ المواطنين يستغلون تلك الفترات للانتقال أو شراء حاجاتهم من الأسواق، كونها فترة أمان يمكن خلالها التنقل بين الأحياء المختلفة.
وبالتعليق على علاقة اليمنيين مع القات خلال سنوات وعقود طويلة، تبين أنه بات من المستمسكات المتجذرة في المجتمع اليمني، بالرغم من كلّ السلبيات التي يسببها في الحياة والصحة والبيئة والإنسان والاقتصاد على حدًّ سواء. وبات الشاذ والمختلف هو الشخص الذي يدعو لمقاومته أو تقنين استخدامه وتناوله.
وبطبيعة الحال، فإن تجذّر هذه الظاهرة على المستوى المجتمعي يضيف تحدياتٍ جديدة للمجتمع اليمني الذي يعيش ويلات الحرب وتداعياتها وتشرذم السلطة وتفتت الجغرافيا.