وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

محاولات سورية لإعادة تأريخ البشريّة

محاولات سورية لإعادة تأريخ
طالبة جامعية لبنانية وهو تقرأ رواية عربية أثناء استراحتها في مبنى الجامعة الأمريكية للعلوم والتكنولوجيا في بيروت يوم ٢١ إبريل ٢٠٠٩. المصدر: JOSEPH BARRAK / AFP.

يوسف شرقاوي

بعد انكسار نكسة ١٩٦٧ والتيقن من استحالة تجاوز الأنظمة العربية الرديئة، توجه الكتّاب السوريون إلى آفاق جديدة حاولوا من خلالها إعادة رسم الواقع الذي يعيشونه. الواقع المفروض منذ ذلك الحين دفع هؤلاء الكتّاب للجوء إلى شيء أقرب ما يكون إلى الفانتازيا أو الواقعية السحرية، حيث حاولوا ردّ القصور إلى عجزٍ موغل في القدم. وكان من بين هؤلاء الكاتبان السوريان ممدوح حمادة وسعد الله ونوس اللذان سعيا لخلق حاضر ووجود جديد ناتجين عن ماضٍ غير الذي نعرفه وعن تاريخ غير الذي تصفحناه في الكتب وقراناه.

إنه وجودٌ جديد، لكنه مشروط بالانكسارات التي تلقّتها العرب آنذاك. في تلك الحقبة، بين ستينيات وتسعينيات القرن المنصرم، كانت سوريا محكومة بعروبةٍ لا يمكن الفكاك منها. ومثقفوها كذلك انساقوا وراء العروبة والحلم الطوباوي بالوحدة. لذلك، كانت أية هزيمة تقع في أية بقعة عربية، تبدو وكأنها صفعة على خدّ المثقف أو الكاتب أو المفكر السوري.

نرى ذلك في القصص التي تعيد التأريخ للبشرية عند الكاتب والسيناريست ورسام الكاريكاتير السوري ممدوح حمادة، في دفتر الأباطرة، وعند المسرحي سعد الله ونوس في قصصه الوحيدة الموجودة في كتابه الأخير عن الذاكرة والموت.

كانت الفترة الممتدة بين العقدَين السابع والتاسع من القرن المنصرم خاملةً في تاريخ الوجود العربي. وتلك الفترة قد تكون الأكثر قهراً في هذا التاريخ المعاصر بعيد نكسة حزيران ١٩٦٧ وتردّي الأنظمة السياسية الحاكمة. وكان لا بدّ من ردّها إلى عجزٍ قديم، عجزٍ مفروض قدرياً، أو عن طريق الحظ. هذا ما لجأ إليه الكاتبان السوريان لتبرير انعدام فاعلية زمنهم.

وكان العرب إذ ذاك غير راضين عن تاريخهم لشعورهم بكونهم أقليّة، أو بتصييرهم أقليّة عبر الزمن. ورغم أنّ الكلمة تدلّ على الكمّ العددي. إلا أنها هنا تدلّ على جدوى الوجود، أو: الشرط الوجودي والتاريخي للإنسان. هذا ما كان شغل ونوس الشاغل في مسرحه: التسييس. ويمكن ألّا يستطيع الإنسان تحقيق شرطيه بسبب بيئته الجغرافيّة، فالشرط هو وجوب الفعل، ووجوب أن يفهم الإنسان موقعه من التاريخ، ودوره في صناعته.

يُعيد ممدوح حمادة في دفتره “الأباطرة” رسم أنظمةٍ سياسيّة في قصّة “الأجرودي”، حيث الشوارب تستطيع أن تغيّر التاريخ، من خلال وليّ عهد أجرودي (لا ينبت في ذقنه شعر وليس له شاربان)، فيعتبره أبوه الملك عاقاً. وحين نُصِّب الولي ملكاً، أصدر الفرمان تلو الفرمان لينتقم من الشوارب، وفرض الضرائب، ونشأ حزبٌ معارض اسمه حزب الشوارب. يستعرض بعدها حمادة صراعات نشبت داخل الحزب على الشعار، وبينه وبين الملكيّة.

يؤرّخ حمادة بعد ذلك للبشريّة بطريقةٍ مختلفة تماماً عبر قصته “ذنب البقرة”. إنه يرسم تاريخاً جديداً للملكيّة والصراع الدائر حولها من خلال أخّين “ربما كانا من بطن حواء إذا صدقت الأسطورة” يتصارعان على شجرة تين. يتدخل طرفٌ بشريٌّ، ثالث حيث يربط حبلاً إلى ساق شجرة التين ويمدّه إلى ساق شجرةٍ أخرى قاطعاً به الكرة الأرضيّة إلى نصفين: ما يقع شمال الحبل هو ملكٌ للأول (وقد قال إنه صاحب شجرة التين)، وما يقع جنوبه ملكٌ للثاني.

بين شجرة التين والشجرة الأخرى تقف بقرة، قُسِمَت بفعل الحبل أيضاً، وكانت تقف بشكلٍ معكوس، أي: نصفها الأمامي الواقع جنوب الحبل أصبح ملكاً للثاني لأنها تدير رأسها نحوه، ونصفها الخلفي الواقع شمال الحبل ملكاً للأول الذي كانت تدير له ذنبها. هكذا أصبح الثاني مسؤولاً عن إطعامها، والأوّل عن حلبها.

بعد شهور، كان الثاني يضع الحشائش أمام البقرة، فلاحظ تطوراً في هيئة الأول، حيث يرتدي قطعةً قماشية عوضاً عن القش. وبعد أيام، شاهد في قدمه نعلاً، من ثم رآه مكتسياً تماماً، ومعه الثالث (الذي فضّ النزاع بادئ الأمر) وصار يضيف كلمة “سيدي” عندما يخاطب الأول. جلب الأول ثوراً لقّح البقرة فأنجبت، وتوالت الثيران حتى امتلأت أرض الأول بالبقر.

بعد وقت، يقرف الأول من الثاني ويصفه بالبدائي، ويحاول الثاني أن ينقضّ عليه فيشهر الثالث (الذي صار تابعاً للأول) سيفاً في وجهه ويعلمه أنّ أمواله مصادرة باسم القانون، ومن يومها أصبح الأول إمبراطوراً والثاني رعيّة.

يختم ممدوح حمادة قصّته بسؤال: “ماذا كان سيحدث لو أنّ البقرة كانت تدير ذنبها في الاتجاه المعاكس عندما رُسِمَت الحدود؟”

في هذا التأريخ الجديد، والتصنيف الجغرافي، دلالة واضحة ربما تنتقد تقسيم العالم إلى شمال وجنوب، وهذا التقسيم تمّ بفعل قوى معيّنة، مثل: الشمال الغني، الجنوب الفقير. الشمال المتقدم، الجنوب النامي. وفي القصة، يقع النصف الأمامي من البقرة في الجنوب، لكنها تدير رأسها إلى الشمال. لذلك، أخذ “الأول” القسم الأغنى منها، وفي ذلك مفارقةٌ تراجيكوميدية.  يمكن اعتبار البقرة في هذه الحالة خط برانت الوهمي الذي قسم العالم إلى شمال وجنوب، حيث لا يستند التقسيم إلى حقيقة جغرافية، فأستراليا مثلاً تقع في الجنوب جغرافياً، لكنها تُصنَّف من دول الشمال. من أجل ذلك أعاد حمادة هذا التقسيم إلى مزحة، في اتّجاه بقرة وذنبها، معتمداً إعادة التأريخ للبشرية كلّها، بالعودة إلى قصة تحاكي قصة قابيل وهابيل.

فيما يركّز ممدوح حمادة على التقسيم المناطقيّ ويعيد التأريخ للبشرية بناءً عليه، يتّخذ ونوس منحى آخر، اجتماعياً، في فصل “رحلة في مجاهل موت عابر”. يؤرّخ فيه لمسيرة تمتد من ٢٧ ق.م إلى عام ٢٦٩٩ لأسرة تعيش في السراديب، عندها أمل غامض أنّ الشمس تتلألأ بالخارج.

عام ٢٧ ق.م يغوص أحد الأجداد في حمأة طينية، ولا يتم إنقاذه. السراديب عند ونوس لا تفضي إلا إلى السراديب، وعلى الجميع أن يسير فقط. سنة ٦٢٠ تحدث فتنة. يختلف ما تبقى من الأجداد حول التمائم، وحول اتجاه السير. وونوس يبقى محافظاً على نزعته العدمية في هذه القصة: السراديب تبقى سراديب رغم زواج الراوي وإنجابه لعائلة جديدة. لكنه وضع في زواياها مصابيح تخفف العتمة، وهم ما يزالون جميعهم يسيرون بحثاً عن الشمس: “عام ٢٢١٤ ما زلنا نسير. في عام ٢٣٧٠ ما زلنا نسير. في عام ٢٦٩٠ ما زلنا نسير. في عام ٢٦٩٩ خانتني قدماي وما زلنا نسير، وسيوالي أبنائي السير وكتابة هذا التاريخ”.

في هذا الفصل المكتوب بهذيانٍ تام في المشفى، نرى ونوس عبثياً، فاقداً إيمانه بالتغيير. النص مكتوب سنة ١٩٩٦، قبل رحيله بسنة. وفي هذه الفترة، تحديداً صرّح الرجل أنّ الكلمة ستبقى كلمة، والفعل فعلاً، وأظنه وصل إلى أكثر مراحل اللاجدوى مرارةً.

ينتج هذا التأريخ الجديد عند الرجلين إثر قلقٍ وجودي محض، مرتبط بالتاريخ نفسه. وهما يعيدان كتابة تاريخ البشريّة كلها لصنعِ حاضرٍ جديد، أو لتبرير الحاضر السيئ بماضٍ أسوأ منه. قد يبدأ الأمر بنظرة وجوديّة متفائلة، ما تلبث أن تنقلب إلى نزعة عدميّة ساخرة، لا إيمان فيها بإمكانيّة التغيير. هكذا يشوّه الكاتب بداية التاريخ، لأنّ النتيجة المشوّهة لا بدّ لها من سببٍ مُشوَّه.

 

المصادر:

علي، مصطفى محمد. الشمال والجنوب، الدلالة الجغرافية والاستخدام الدولي المعاصر. مجلة جامعة دمشق، المجلد ٢٧، العدد ١+٢، ٢٠١١. المصدر: https://www.google.com/url?sa=t&source=web&rct=j&url=http://www.damascusuniversity.edu.sy/mag/human/images/stories/393-424.pdf&ved=2ahUKEwjvgbTDyYDyAhXNyIUKHXGbAOAQFjAAegQIBBAC&usg=AOvVaw3udwTZnn6H2_4gwrCf2Odm

 

ملاحظة

الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.