وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الأدب اللاجئ: صوت ثورة في المنفى

مع موجات الهجرة التي شهدتها البلدان العربية بعد أحداث الربيع العربي، بدأ يتشكل أدب مهجري جديد يمكن تسميته بالأدب اللاجئ.

الأدب اللاجئ
صورة تم التقاطها يوم 19 نوفمبر 2020 لوسيم دياب، وهو مهجّر سوري يبلغ من العمر 19 عاماً، وهو يعرض كتبه في منزله الجديد، والذي هو عبارة عن خيمة موجودة في بلدة أطمة بمحافظة إدلب. المصدر: AAREF WATAD / AFP.

حسين علي الزعبي

مع موجات الهجرة التي شهدتها البلدان العربية بعد أحداث الربيع العربي، بدأ يتشكل أدب مهجري جديد يمكن تسميته بالأدب اللاجئ. ويُقصد بهذا الأدب الأعمال الأدبية للكُتاب العرب الذين أصبحوا في بلدان اللجوء. وظهر هذا المصطلح في دراسات عديدة منها دراسة بعنوان “أدب اللجوء السوري” لمركز حرمون للدراسات.

وكان الأدب العربي قد شهد الكثير من التقسيمات والتسميات مثل أدب المهجر وأدب المنفى وأدب السجون والأدب النسوي. إلا أنّ ظهور أدب اللجوء أثار جدلا في الأوساط الثقافية العربية عموما والسورية على وجه الخصوص، باعتباره تعريفًا “غامضًا وفضفاضاً“.

أدبٌ مختلف

الكاتبة والروائية السورية إيمان مسلماني ترى أنه من المبكر إطلاق أي تسميات على نتاجات الكتاب الأدبية في بلدان اللجوء. وتشير إلى أن المرحلة الحالية هي مرحلة إنتاج، سيتكفل الزمن بإطلاق الوصف المناسب لها، إن كان أدبًا مهجريًا جديدًا أو أدب لجوء.

تقول مسلماني: “ليس هناك أي تقارب بين أدب المهجر القديم الذي انتشر في مطلع القرن العشرين لمن هاجر من الأدباء من بلاد الشام باتجاه الأمريكيتين، وبين النتاجات الأدبية التي ظهرت بعد أحداث الربيع العربي. فأغلب نتاجات أدب المهجر حملت في طياتها الشوق والحنين للبلد الأم. أما نتاجات الأدب الحالي، فيطغى عليها الحديث عن الظلم الذي يتعرض له المواطنون في تلك البلدان”.

الكاتب والناشر حسين الضاهر يرى أن ملامح تسمية المرحلة الحالية لم تتشكل بعد وربما لن تتشكل في المدى القريب. ويشير الضاهر إلى الفوارق بين أدباء المهجر وأدباء ما بعد أحداث الربيع العربي.

وفي هذا الصدد، يقول الضاهر: “معظم الأسماء التي شكلت حركة أدب المهجر، خرجت من بلدانها اختياريًا على عكس الأدباء الذين هُجّروا عن أوطانهم بعد ثورات الربيع العربي. هذا الأمر انعكس على نتاج أدباء المرحلتين. أدباء الربيع العربي، إن صحت التسمية، يُلاحظ في نتاجهم النزعة الثورية، الصادمة أحيانًا، وأحيانًا السوداوية. ويعود السبب في ذلك إلى انعكاس الواقع الحالي على كتاباتهم. أما نتاجات أدب المهجر فكانت مغايرة نوعًا ما، تمثلت بالحنين للوطن، التغني به، والذكرى”.

ويطلق مصطلح “أدب المهجر” على النتاج الأدبي لشعراء عرب عاشوا في البلاد التي هاجروا إليها. ومع بداية الحرب العالمية الأولى، ظهرت إسهامات أدباء المهجر في ما سُمّي بالمدرسة المهجرية التي تركت بصمة على الأدب العربي.

ومن أدباء المهجر العرب جبران خليل جبران وميخائيل نعيمة وإيليا أبو ماضي. وانتشرت الأعمال الأدبية لهؤلاء الأدباء في المهجر والوطن. وأقبل المثقفون العرب على الاطلاع على تلك الأعمال الأدبية التي تتسم بعذوبة الأسلوب وجمال الصياغة.

رهان على الحركة النقدية

يعتقد الضاهر أنّ وجود الحركة النقدية سيسهم في وضع صورة واضحة لهذه المرحلة التي تعتبر بمثابة مرحلة انتقالية. ويضيف: “الثورة التكنولوجية والحروب والكوارث حرّكت الراكد. وإلى جانب تلك العوامل، فقد ساهم غياب المؤسسات المنظمة للحركة الأدبية في البلدان التي شهدت ثورات في خلق زوبعة أدبية ستنجو منها أعمال وأسماء قليلة تُركن على رف التاريخ. وهذه الأعمال هي التي ستحدّد فيما بعد معالم ما نعيشه الآن من مرحلة أدبية راهنة”.

في هذا السياق، تُشدّد الكاتبة والناقدة السورية علا الجبر على ضرورة تكريس مفاهيم ومصطلحات العمل النقدي لفترة تحوّل اعتبرتها حاسمة في الحياة الأدبية الناتجة بعد “الربيع العربي”. وتقول الجبر: “هذه الهزّة التاريخية ستكون العامل الأكبر في تغيير الخارطة الأدبية، فالأدب ما قبل هذه الفترة حتمًا لن يكون كالأدب في مرحلة الربيع العربي وما بعدها”.

هامش حرية ولكن…

الأدب اللاجئ
صورة تم التقاطها يوم 25 مايو 2022 لكتب “بستان عقل” للكاتب كنان عماد أبو حمرة، ورواية وجدان للكاتبة السورية مايا سويد أثناء عرضهما في مهرجان أبو ظبي الدولي للكتاب 2022. المصدر: Karim SAHIB / AFP.

خلال السنوات الماضية، شهدت الساحة السياسية العربية ثورات وانقلابات تبعتها أيضا متغيرات في المكون الأدبي الذي أنتج بعد هذه الهزات السياسية. هذه المتغيرات لفتت الانتباه إلى التقاطع الكبير بين الإنتاج السياسي والإنتاج الثقافي الأدبي، فضلا عن الاجتماعي المرتبط بيوميات الناس. ويمكن القول إن هذه المتغيرات قادت إلى تشكيل الملامح الأولى لما قد يكون لمدرسة واقعية تحاول أن تصور الواقع دون إغراق في المثاليات.

وفي هذا السياق، يقول شكري عياد في كتابه المذاهب الأدبية والنقدية إن الواقعية الأدبية تُعنَى بالنّاس العاديين سواءً أكانوا أخيارًا أم أشرارًا. هذه المدرسة، والكلام لعيّاد، تشير إلى أخلاق الناس وعاداتهم وما تعرّضوا له من أحداث ووقائع فعلوها، أو فُعِلت بهم. كما أنّها تصوّر واقعهم تصويرًا صادقًا، بما فيه من حالات مختلفة. وهي بذلك تسعى للكشف عن حقيقة الإنسان.

ويبدو أنّ الحالة الواقعية تفرض نمطاً خاصاً في السرد الروائي. وفي هذا الأمر، يقول الضاهر: “أصبح الكتّاب يميلون إلى البساطة التي يتسم بها حالياً الأدب الغربي عموماً والأوروبي على وجه الخصوص. وعلى هذا الأساس، فقد تخلّى عددٌ كبير من الكتّاب السوريين عن استخدام المفردات والرمزيات المعقدة مقابل الحصول على نصٍّ يحمل البساطة والعمق في آن. وبطبيعة الحال، فإن هذه البساطة تعني وصول أفكار الكتّاب اللاجئين بطريقةٍ أفضل عندما يتم ترجمة أعمالهم إلى لغاتٍ أخرى”.

وفي الموجة الروائية التي أنتجتها فترة “الربيع العربي”، يمكن ملاحظة حالة شديدة الحضور في الأعمال الروائية وهي المحاولة التوثيقية لما جرى ويجري. ولأنّ العمل الروائي الواحد لا يمكن أن يلم بكامل الحالة، حاولت بعض الأعمال أن تقدم حيّزاً معيّناً من معايشات الواقع.

وفي هذا، يمكن الإشارة إلى رواية “الموت عمل شاق” للكاتب السوري خالد خليفة، الذي قال في أحد تصريحاته: “لقد أصبحنا مشكلة لذاتنا. لا نستطيع التفكير خارج ما حدث وسنبقى نكتب عنه لمئتي سنة قادمة كحدٍّ أدنى”.

تجري أحداث الرواية على الطريق بين دمشق وحلب، حيث كان على بلبل أن ينفّذَ وصية والده عبد اللطيف الذي توفي في دمشق ويدفِنَ جثمانه في مدفن العائلة شمالي حلب. وللقيام بهذا الأمر، استعان بلبل بأخيه حسين الذي يملك باصًا صغيراً ورافقتهما شقيقتهما فاطمة. وبفعل الإجراءات والحواجز المختلقة، تتحوّل المهمة إلى سفرٍ طويل يدوم أربعة أيامٍ بلياليها.

ويتخلّل الرحلة احتجاز الجثة وتوقيف الأبناء عدّة مرات على حواجز النظام وحواجز الجهات الأخرى. ويؤدي طول الرحلة إلى تعفّن الجثة التي وُضعت في الباص دون تابوت وبدأت تتحلل. ويكتمل المشهد الأليم بهجوم كلاب البراري الشرسة على الباص بفعل الرائحة أثناء توقف الأبناء في إحدى الليالي على مفترقٍ للطرق.

في سياق هذه الرحلة وما تشهده من حوارات، يقدم الكاتب ماضي عائلة عبد اللطيف وعلاقات أفرادها. ويقوم خليفة بذلك من خلال الجدل الذي كان يدور بين بلبل وحسين، ومن خلال العودة الروائية إلى ماضي العائلة، وصولا إلى جدلية الوطن والثورة. كما يلفت الكاتب النظر إلى بعض التحولات القِيَميّة التي تطرأ على العائلة عند الانتقال من الريف إلى المدينة.

مساحة الحرية والعلاقة مع مجتمع اللجوء

الأدب اللاجئ
صورة تم التقاطها يوم 14 مايو 2018 للكاتب خالد مصطفى أثناء حضوره لعرض كتابه في معهد الدراسات الشرقية بجامعة لايبزغ. المصدر: Johannes Stein/ dpa-Zentralbild/ dpa Picture-Alliance via AFP.

إذا كانت الظروف منحت خالد خليفة القدرة على البقاء في سوريا، أو التنقل بينها وبين المغتربات، فإنها لم تتح للكتّاب الشباب هذه الميزة. ووجد هؤلاء الكتاب في دول المنافي مساحة واسعة تكاد تكون مفتوحة لتوثيق تجاربهم الحياتية بشكل روائي. وفي هذا، يمكن الإشارة إلى عدد من الروايات التي تناولت محنة الاعتقال وعبور البحر إلى دول اللجوء.

وهنا، يمكن الإشارة إلى رواية “عائد إلى حلب” للكاتب عبد الله مكسور. ويسرد مكسور في روايته تجربته المريرة مع الاعتقال وما تعرّض له من تعذيب بشع أثناء الوجود في المعتقل.

ولعلّ الرواية الأشهر في هذا المجال القوقعة للكاتب مصطفى خليفة. وتسرد هذه الرواية يوميات شاب ألقي القبض عليه لدى وصوله إلى مطار بلده عائدا إليه من فرنسا. ويمضي الشاب، الذي كان في فرنسا لدراسة الإخراج، اثنتي عشرة سنة في السجن دون أن يعرف التهمة الموجهة إليه.

وفي نهاية المطاف، يتّضح أنّ التهمة المختلفة هي الانتماء للإخوان المسلمين، علماً بأن الشاب مسيحي الديانة. ويرتكز مصطفى خليفة في روايته على معايشات الشخصيّة المركزيّة في الرواية وليس ما يقوم به من أفعال، ليحاول بذلك إظهار أن الشاب ليس بطلاً، وإنّما إنسانٌ عادي يراقب ما يدور حوله.

وفي هذا المنحى، يسجّل حسين الضاهر هذه المسألة كميزة أوجدتها ثورات الربيع العربي التي كسرت حواجز كثيرة. ويقول: “الثورات أعطت الحرية لبعض الكتّاب ليتطرقوا لموضوعاتٍ كان من الصعب التطرق إليها. كما كانت الثورات محفزًا للكثير منهم ليطلقوا العنان لإبداعهم الذي كان مقيدًا لأسباب عديدة لعلّ أبرزها فرض الأنظمة الديكتاتورية لقبضتها الأمنية”.

وإن كان رأي الضاهر صحيحاً في أحد جوانبه، فالصحيح أيضا أن بلاد اللجوء منحت الكتّاب هذه المساحة من الديمقراطية. وربما لولاها لما شهدنا روايات المدرسة الواقعية.

أما عن العلاقة بين النتاجات الأدبية ومجتمعات اللجوء، ترى الكاتبة مسلماني أنّ التأثر اقتصر على البيئة الخارجية والطابع الخارجي للحياة في تلك المجتمعات ولم يصل لأعماق الثقافة الأدبية فيها. وتقول مسلماني في هذا الصدد: “تأثّر الأدباء بتلك المجتمعات ما زال محدودا ويرتبط بمعرفة لغات وثقافات تلك البلدان. لكنّ هذا التأثر قد يزداد بمرور الوقت”.

من جهته، يقول الشاعر محمد المطرود إنّ العاملين في الشأن الثقافي حاولوا خلال السنوات الأولى من الأزمة السورية نقل معاناة من بقي في سوريا. لكن هؤلاء، والكلام للمطرود، أخذوا يدخلون شيئا فشيئا في بنية البلاد الجديدة، وهو ما قد يجعل نتاجاتهم الأدبية فيما بعد أكثر عمقا في تناولها لمجتمعات اللجوء.

في هذا السياق، يمكن الإشارة إلى رواية “دوار” للكاتب الفلسطيني السوري أحمد عزّام. وتبدأ أحداث الرواية عند دخول تيسير إلى تركيا، ليجد نفسه، بلحظة، في عمق حياة جديدة ظنّها مختلفة اختلافاً جذرياً عمّا قاساه في بلده سوريا. ويكتشف أنه لم يستطع الفصل بين معاناته الحالية المتمثلة في اللجوء، ومعاناته السابقة المرتبطة بتواجده في السجن عندما كان في سوريا.

صعوبات يفرضها الواقع

قبل أحداث الربيع العربي، عانى الأدباء العرب عموما والسوريّون على وجه الخصوص من نقص هامش الحرية وتسـلـّط الرقيب السياسي والثقافي على كتاباتهم. ومن الصعوبات التي عانى منها الأدباء سيطرة مفاهيم اجتماعية بالية على العقلية الثقافية الحكومية، وتحكّم الدولة والسلطة في الثقافة والأدب وتوجيهه من خلال وزارات الثقافة. بالمقابل، لم تكسر الأعمال الروائية الجديدة التابوهات المجتمعية والدينية.

وما زالت هذه الأعمال، رغم مساحة الحرية الموجودة، منطقةً يحذرها الكتاب بشكل عام. وقد يعود السبب في ذلك إلى أن كسر التابوهات السياسية ما زال أولوية بما أن مسبباتها ما زالت قائمة.

ومن الناحية التقنية والتجارية، أظهرت الطفرة الأدبية صعوبات وتحديات جديدة أمام الكتّاب. ويقول حسين الضاهر في هذا الصدد: “معظم دور النشر توفّق بين المسارين التجاري والثقافي. ولم تعد مهمة هذه الدور نشر المواد الأدبية الجيدة كما كان في السابق. ويستثنى من ذلك الحالات التي يحظى فيها الكاتب بجمهورٍ جيّد”.

ويضيف: “أصبح العثور على ناشرٍ يقوم بطباعة مادة الكاتب وتوزيعها وإعطائه نصيبًا من الأرباح ضربًا من ضروب المستحيل. وفي الوقت الراهن، أصبحت معظم دور النشر تعتمد على نفسها لتحقيق الاستمرارية، في ظل غياب المؤسسات الداعمة لحركة النشر. وأدى هذا الأمر إلى توقّف دور كبيرة وعريقة عن العمل”.

أما الكاتبة إيمان مسلماني، فتقول: “أدى غياب القارئ العربي في بلدان اللجوء الأوروبية إلى خلق صعوبات ترتبط بترويج الأعمال الأدبية في تلك البلدان. ويعني هذا خلق عائق أمام تبني العمل الأدبي من أغلب دور النشر، خاصّة وأنّ معظمها يركّز على مجموعة من الكتاب المعروفين الذين تؤمن أعمالهم لها أرباحاً سريعة”.