وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

بعد الانقلاب الفاشل، الاقتصاد التركي يُصارع من أجل الانتعاش

تركيا الاقتصادية
وصول السياح الروس إلى مطار أنطاليافي مدينة أنطاليا، تركيا في 9 يوليو 2016. Photo Mustafa Ciftci

منذ توليه منصب رئيس الوزراء في عام 2003، كانت القيادة الاقتصادية المتينة، الدعامة الأساسية لقوة الرئيس الحالي رجب طيب أردوغان. فبانفصاله عن التقاليد الشعبية للإسلام السياسي، أبقى أردوغان الاقتصاد في مسارٍ ثابت، وواصل العمل بجدول الأعمال الاصلاحي لأسلافه مثل الاقتصادي السابق في البنك الدولي كمال درويش.

فطوال غالبية العقد الأول من الألفية الثانية، كانت تركيا الاقتصاد الأسرع نمواً في أوروبا. فقد تبجج ظافر كاجلايان، وزير الشؤون الاقتصادية السابق، فخراً بـ”المعجزة التركية“، مؤخراً في عام 2012.

ومع ذلك، منذ عام 2013، بدأت المعجزة التركية بالتلاشي. فقد أسفرت احتجاجات “حديقة جيزي” واسعة النطاق في صيف ذلك العام، والتي فسرها كثيرون باعتبارها تنامي استياء الطبقة الوسطى، عن انحرافٍ سلطوي أضر أيضاً باقتصاد البلاد. ويُعزى تباطؤ تركيا جزئياً إلى عوامل دولية، مثل ضعف النمو في منطقة اليورو، وتصويب السياسة النقدية الأمريكية، والركود الروسي والحروب في كلٍ من العراق وسوريا. وإلى جانب تصاعد المخاوف بشأن مزاعم الفساد والاستقرار السياسي وتدهور الوضع الأمني، أُعتم بريق النجاح الاقتصادي في تركيا.

واليوم، وفي أعقاب محاولة الانقلاب الفاشل في يوليو 2016، أصبحت القضية أكثر إلحاحاً: إلى أين يذهب الاقتصاد التركي؟

عند سؤاله في مقابلةٍ له مع Fanack في الأول من أكتوبر 2016 حول ما إذا كان الانقلاب الفاشل له أثرٌ سلبي على المستثمرين المحليين، أجاب مستشار الاستثمار المُقيم في العاصمة واشنطن، Baris Kayaalp، بـ”نعم ولا.” يشبه Kayaalp الأمر بقضية “الدكتور جيكل ومستر هايد.” فالبنسة للمستثمرين ممن يملكون توازناً مناسباً من الرغبة في المخاطرة وموارد رأس المال والخبرة الميدانية، يمكن أن تكون تركيا الوجهة المثالية، إلا أنها ليست مكاناً لضعاف القلوب. فالمخاطر مرتفعة، والتيارات قوية، وإن كنت لا تجيد السباحة، فمن السهل أن يجرفك التيار.”

كما كرر Gunes Kolsuz، وهو طالب دكتوراه في جامعة بيلكنت، وشريك إداري في شركة للعلاقات الحكومية ومقرها أنقرة، والذي أجرينا معه مقابلةً بعد يومين، أقوال Kayaalp. فقد قال “إن الاستثمار في الخارج مشابهٌ تماماً لتسلق جبل إيفرست، وباستخدام نفس المقياس، الشريك المحلي بأهمية الشيربا (سكان جبل إيفرست) الخبير.” وأضاف “أنت بحاجة لشخصٍ يُجري المكالمات ويفتح الأبواب ويسويّ الدروب.” وحتى يوم الانقلاب، كانت جماعة غولن

، الجناة المزعومين، يتمتعون بسطوة هائلة في الدوائر الحكومية. ويقول Kolsuz “لربما كان أتباع غولن من أكثر الصلات والعلاقات طلباً،” مُضيفاً أن “إشراكهم لم يكن أمراً صعباً. فقد كانت حركة غولن تمتلك مدارس ومساجد وشركات في جميع أنحاء العالم. فيمكنك بكل بساطة التواجد في أيّ منها لتأسس لنفسك موطىء قدم.”

“لن يكون من المبالغة القول أنّ غالبية السفارات التركية كانت بمثابة مكتب اتصالٍ لحركة غولن. وبطبيعة الحال، لم يعد الأمر كذلك، أصبح هذا من الماضي،” هذا ما أكده سليم سازاك، وهو خبيرٌ تركي في Century Foundation، وهي مؤسسة فكرية مقرها نيويورك. وباعتباره طالب دكتوراه في جامعة براون، أجرى سازاك بحوثاً أيضاً في العلاقات ما بين القطاعين العام والخاص في حكومة حزب العدالة والتنمية. يقول سازاك في هذا الشأن “حزب العدالة والتنمية لا يُنكر أن جماعة غولن كانوا حلفائهم الأقرب لأكثر من عقدٍ من الزمان. فلغة ما بعد الانقلاب تحمل نبرة الندم، وليس الإنكار.” وأضاف “كان حزب العدالة والتنمية يملك الأصوات، بينما امتلكت جماعة غولن المال. كانوا يملكون وسائل الإعلام الخاصة بهم، وكانو يعرفون تماماً كيف تعمل واشنطن، وكان لديهم وجودٌ في البيروقراطية. فلم يكن بمقدور حزب العدالة والتنمية البقاء في منصبه دون التحالف معهم.”

فقد صرّح نائب رئيس الوزراء التركي للشؤون الاقتصادي، محمد شيمشك، باعترافٍ بهذا الشأن، إذ قال في مؤتمرٍ صحفي في 21 يوليو 2016، بعد أقل من أسبوع على محاولة الانقلاب “صحيحٌ أن جماعة غولن امتلكت مطلق الحرية في عصرنا.” وأضاف “لم نكن نتمتع بالخبرة في الحكومة. لم يكن لدينا الكثير من الناس العاملين في البيروقراطية التركية. كنا ننظر لجماعة غولن باعتبارها قوة لصالح البلاد. فقد تأخرنا في إدراك نواياهم في السيطرة على القضاء والشرطة والجيش التركي، إلا أن رئيسنا [أردوغان] أدرك ذلك، وقام برد الفعل المطلوب.”

ووفقاً لسازاك، توّضح تصريحات شيمشك أيضاً جنون وصرامة عمليات التطهير التالية للانقلاب في تركيا. “لا زلنا لا نعرف مدى وجود جماعة غولن في الحكومة، إلا أن حزب العدالة والتنمية يعلم، ذلك أنه دوره كان فعالاً في وضعهم في تلك المقاعد،” يُجادل سازاك. ويُضيف “واليوم باتوا في موقفٍ حيث جميع الناس من حولهم موالين محتملين لجماعة غولن، وليس هناك أي وسيلة، أي اختبارٍ للمصداقية لمن من أنصار جماعة غولن ومن لا.”

وفي معرض سؤالنا حول مدى تأثير التطورات الأخيرة، بما في ذلك تخفيض وكالة موديز تصنيف تركيا الائتماني إلى أقل من الدرجة الاستثمارية في سبتمبر، على اقتصاد البلاد، اتفق ثلاثتهم على أن البلاد ستواجه تحدياتٍ مستقبلية، إلا أن نظرتهم كانت متفائلة.

وصرح سازاك “عندما تُصنف وكالاتين من أصل ثلاث وكلات رائدة ديونك على أنها أقل من المستوى الاستثماري، أو أن تكلفة ضمان سنداتك أعلى من سلوفينيا، ورومانيا أو حتى روسيا، وهي دولٌ تعاني فساداً بشكلٍ شنيع وتقبع في ظل عقوباتٍ دولية وتشارك في حربين، فلا تعتبر هذه أعمال مستمرة كالعادة.” ويُضيف “يقول الرئيس أردوغان أنه لا يهتم بهذا، وأن وكالات التصنيف تستند إلى السياسة في قراراتها، وربما كان محقاً. ولكن مع خفض التصنيف، ستواجه تركيا اليوم صعوبةً أكبر في جذب رأس المال الأجنبي اللازم لتغطية العجز في حسابها الجاري. ووفقاً لبنك جيه بي مورغان تشيس، قد ينتهي الأمر ببيع ما تصل قيمته إلى 8,7 مليار من السندات التركية. وفي هذا السياق، هل لن يتهم المستثمر لأن أردوغان لا يهتم؟ بالطبع، لا.”

ويقول Kolsuz “كان الاقتصاد يواجه بالفعل رياحاً معاكسة مثل انخفاض الطلب المحلي، والتهديد المتزايد من قِبل تنظيم الدولة الإسلامية، وتجدد القتال مع حزب العمال الكردستاني.” ويُضيف “عندما تُضيف إلى هذا صدمة خارجية كبرى مثل محاولة الانقلاب، فلا مناص من تعرض اقتصادك لضربة، وستعكس التصنيفات الائتمانية ذلك.”

السياحة، والتي تمثل ما نسبته 4,4% من الناتج المحلي الإجمالي في تركيا، أحد الأمثلة على ذلك. ففي يوليو، انخفضت أعداد السائحين الوافدين بما نسبته 37%. وإلى جانب التهديدات الأمنية المتزايدة، سببٌ آخر غاية في الأهمية لهذا التراجع هو التوتر مع روسيا. فقد انخفضت أعداد السياح الروس بنسبة 93% منذ أن أسقطت القوات الجوية التركية طائرة حربية روسية في نوفمبر 2015، مما اضطر أنقرة إلى رأب الصدع مع موسكو.

“أنقرة غاضبة من وكالة موديز ليس بسبب خفضها تصنيف تركيا، الذي كان من المرجح أن يحصل في غضون 12 شهراً، ولكن لأن هذا التخفيض الحاصل تم بعد شهرين فقط من محاولة الانقلاب،” يقول Kolsuz. ويُضيف “على الرغم من محاولة الانقلاب، أظهرت تركيا انضباطاً مالياً، وحافظت على ضبط نسبة الدين إلى الناتج المحلي الإجمالي، وأقرت إصلاحات منحٍ حكومية حاسمة. فلا يوجد أي دليلٍ على وجود تباطؤ في النمو. بل إن وكالة موديز نفسها تستشهد باقتصاد البلاد الضخم والمرن، والنمو الإيجابي والسجل المالي القوي كأسباب لتوقعاتها المستقرة. تشعر أنقرة أن التعامل تم معها على نحوٍ غير عادل، وأن وجهة النظر تصب في لغتها السياسية.”

ويُضيف Kayaalp، “لا شك أن خفض وكالة موديز للتصنيف جاء في وقتٍ عصيب.” ويُضيف، “ففي صباح ذلك اليوم، عقد الرئيس أردوغان إجتماع طاولة مستديرة في نيويورك مع مايكل بلومبرج، وعدد من المستثمرين ورجال الأعمال من مؤسسات رائدة مثل سيتي (Citi)، ولازرد (Lazard)، واربورغ بينكوس، وغيرهم. أنباء خفض وكالة موديز تواترات مساء ذلك اليوم.”

وتابع “لدى تركيا الكثير من إمكانات النمو، إلا أن هناك أيضاً بعض المخاطر. ففي سنوات الازدهار، لم تستطع العديد من الشركات المحملة بالديون تقديم خدماتها أكثر من ذلك. استثمر البعض في توسيع القدرات التي باتت اليوم غير مستخدمة. وفي قطاعاتٍ معينة، للعوامل الجيوسياسية تأثير، مثل مزراعي الحمضيات الذين تضرروا بسبب الحظر الروسي على الصادرات التركية، أو أصحاب الفنادق الذين تضرروا بسبب الركود في القطاع السياحي، أو شركات الشحن التي خسرت أعمالها بسبب توقف التجارة عبر الحدود مع سوريا والعراق. أعتقد أن الأمر يتعلق بشكلٍ أكبر بكل قضية على حدتها وليس باعتبارها أزمةً شاملة.”

فقد اتفق المحللون جميعاً على ثلاثة عوامل أساسية من شأنها أن تشكل مصير الاقتصاد التركي. أولاً، سيادة القانون. يقول سازاك بهذا الشأن “على المدى الطويل، إن أي تدهورٍ في سيادة القانون سيكون له تأثير سلبي على الرغبة في الاستثمار. إن تصرفات الحكومة منذ الانقلاب، وبخاصة فرضها سُلطة قانون الطوارىء، أثارت مخاوف من حُكم أكثر استبداداً. فالنظام يبدو خائفاً بالفعل من المنافسة السياسية، ولا يرغب برؤية تجذر الديمقراطية بشكلٍ أعمق. وإذا ما أصبحت حالة الطوارىء ذريعة الحكومة لتجاهل الديمقراطية، وخلق انطباع أن أي شخصٍ يقف في طريق الرئيس أردوغان سيخاطر بفقدان أعماله، فإن هذا من شأنه أن يجعل تركيا دولةً يُنبذ الاستثمار بها، وبالتالي، لا تختلف عن روسيا.”

بينما أشار Kolsuz إلى مخاطر العملة، سيما بالنظر إلى عبء الديون الضخمة في بعض القطاعات، فيقول “فقدت الليرة نحو 40% من قيمتها مقابل الدولار منذ أن ألغى تدريجياً الاحتياطي الفدرالي الأمريكي برنامج التحفيز النقدي.” ويتابع “إذا ما خرجت أسعار العملات عن السيطرة، ستبدأ الشركات تتهاوى، مما يضع تركيا في وجه عاصفةٍ من البطالة المتزايدة، وانخفاض الاستهلاك، ومخاطر نظامية في القطاع المالي. هذا هو السيناريو الكارثي.”

ووفقاً لـ Kayaalp، من الضروري جداً مراقبة قطاع الإنشاءات. “ارتكز النجاح الاقتصادي المبكر لأردوغان على النهضة العمرانية، والتي تزامنت مع وفرة السيولة العالمية التي غمرت الأسواق مع الائتمان الرخيص الذي وجد طريقه من خلال البنوك لشركات التطوير العقاري.” ويُضيف “كما أن نجاح قطاع الإنشاءات كان متداخلاُ مع الحظوظ السياسية لحزب العدالة والتنمية. فقد كان هناك درجة معينة من المقايضة بين السياسة والأعمال، والتي كُشف عن البعض منها في تحقيقات الفساد عام 2013. واليوم، أسعار الفائدة تشهد ارتفاعاً كبيراً ومفاجئاً، بينما يتباطؤ الاقتصاد وبات يتعذر خدمة القروض المقوّمة بالدولار. وعلاوة على ذلك، تواصل أسعار المساكن ارتفاعها على الرغم من المخزون العقاري الفائض، الذي يبدو كالفقاعة. هذا هو الخطر الحقيقي: إذا ما كان هناك فقاعة، وانفجرت، يمكن أن يُطلق هذا سلسلةً من ردود الفعل، السياسية والاقتصادية.”