د.شربل ميدع وبشارة سمنة
يمكن أن يتخذ التحرش الجنسي في مكان العمل أشكالاً عديدة ويؤثر سلباً على ضحاياه، إذ يرتبط التحرش السري بالمزايا الوظيفية والترقيات والتباينات في الأجر والأمن الوظيفي، في حين أن المضايقات العلنية تتم من خلال إنشاء بيئة عمل غير مريحة ترهب الفرد أو تسيء إليه، ويمكن تنفيذ مثل هذه الاعتداءات جسدياً أو لفظياً وحتى عن طريق غيرها من الإيحاءات الصامتة. وكما أفاد البنك الدولي، فالنساء أكثر عرضةً من الرجال لمثل هذه التحرشات، إذ يؤثر هذا على أدائهنّ وصحتهنّ النفسية وينتهك كرامتهنّ وحقوقهنّ الإنسانية الأساسية.
يواجه الأفراد مثل هذه المضايقات في جميع مجالات العمل من الزراعة والعمل المنزي والتعليم وصيد الأسماك وعالم الموضة والصحة والصحافة والوظائف العامة وصولاً إلى الجيش، كما أوضحت منظمة هيومن رايتس ووتش. بل إن العديد من هذه المجالات، بالرغم من كونها ذات مخاطر تعرض عالية لخطر العنف، لا تزال دون قوانين حماية في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، إذ ما يزال هذا التحدي الأكبر في البلدان العربية بحسب السيدة فاتن أبو شقرة من منظمة كفى [منظمة مدنية لبنانية، غير حكومية وغير ربحية، نسوية وعلمانية، تتطلّع نحو مجتمع خالٍ من البنى الاجتماعية والاقتصادية والقانونية البطريركية والتمييزية تجاه النساء]. وفي هذا الصدد، أوضحت السيدة أبو شقرة بالقول “في حال عدم وجود أي قانون – فإن الإجراءات الوقائية الوحيدة المتاحة للمرأة تتمثل فيما إذا كانت الشركات تمتلك مدونة سلوك داخلية تغطي هذه القضايا أم لا.”
ومع وجود العديد من اللوائح والسياسات المتراخية داخل الشركات، ما يزال الكثيرون غير مدركين لحقيقة تعرضهم للتحرش الجنسي. وخلافاً لذلك، يجد أولئك المدركون للأمر أنفسهم غير قادرين على الإبلاغ عن الواقعة أو طلب الدعم مع عدم وجود قوانين تحميهم أو تجرّم التحرش الجنسي. وكما قالت د. مارشا هنري أستاذة في معهد النوع الاجتماعي ونائبة مدير مركز المرأة والسلام والأمن في كلية لندن للاقتصاد والعلوم السياسية، “من الصعب جداً معالجة التحرش الجنسي في مكان العمل، إذ يتوجب على الضحايا تقديم الكثير من الأدلة وعادةً بمجرد إدراكهم أن لديهم قضية يكونوا قد تركوا العمل.”
فقد أصبحت حركة #MeToo واحدةً من أكثر الحركات إنتشاراً على وسائل التواصل الاجتماعي ضد التحرش الجنسي والعنف، إذ كانت حركةً عالمية دُشنت بدايةً في الولايات المتحدة الأمريكية وانتشرت في جميع أرجاء العالم من الصين إلى أمريكا اللاتينية وصولاً إلى الشرق الأوسط والتي حملت عنوان #أنا كمان.
بدأت القصص في الظهور في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا حول سوء المعاملة، وعدم المساواة في الأجر لنفس العمل، أو التلميحات الجنسية في مكان العمل، إذ لم يكن هذا بالغريب ذلك أن 9 دول عربية فقط من أصل 22 دولة تمتلك قوانين لمكافحة التحرش الجنسي.
وعلى الرغم من قتامة المشهد، إلا أنه تم حشد العديد من المبادرات لمكافحة التحرش القائم على النوع الاجتماعي في العمل في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا.
ففي لبنان، أطلقت حملات مماثلة مثل حملة #مش بسيطة، التي تعني أن هذا غير مقبول، من قبل الجامعة الأمريكية في بيروت وحملة مكرورة التي أطلقتها منظمة كفى. تهدف مثل هذه الحملات إلى تسليط الضوء على الآثار السلبية للتحرش الجنسي اليومي بالنساء وحشد الحركات النسوية، والأعمال التجارية، والجهات الحكومية الفاعلة من مختلف البلدان العربية وتمكين النساء من الإفصاح عن الأمر ورفع أصواتهنّ.
وعلى الرغم من كل الجهود الحالية، ما يزال يتعين على الحكومات وأرباب العمل القيام بالمزيد، ذلك أن النقص في سبل الانتصاف القانوني المتاحة يسلط الضوء على الضرورة الملحة والحاجة إلى تدابير أقوى لمنع العنف والتحرشات المرتبطة بالعمل في المنطقة.
وفي هذا الصدد، اعتمدت منظمة العمل الدولية، في 21 يونيو 2019، الاتفاقية الرائدة رقم 190 للقضاء على العنف والتحرش في مكان العمل، إذ تعد الأولى من نوعها التي تضع المعايير القانونية الدولية لمنع العنف والتحرش في العمل والتصدي لهما.
تعد الاتفاقية رقم 190 شمولية في نهجها إذ تعالج المشكلة في القطاعين العام والخاص، والاقتصاد الرسمي وغير الرسمي، والمناطق الحضرية والريفية. توفر الاتفاقية إرشاداتٍ مهمة للحكومات حول كيفية منع هذا العنف وكيفية حماية العمال من وصمة العار والانتقام ليتمكنوا من الإفصاح عن الواقعة والحصول على العدالة التي يستحقونها بغض النظر عن وضعهم التعاقدي. بالإضافة إلى ذلك، تضمن شمول تداخل العنف المنزلي بالعمل أيضاً، كما توفر الخطوات اللازمة التي يمكن للحكومات اتخاذها لمساعدة الناجيات من العنف الأسري على طلب المساعدة دون فقدان وظائفهن.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه هنا، كيف يمكن أن تساعد الاتفاقية رقم 190 النشطاء والحكومات على حد سواء على تنفيذ جدول الأعمال هذا؟
تجيب الدكتورة مارشا موضحة: “المثير للاهتمام في هذه الاتفاقية هو أنها تنطبق على عالم العمل الأوسع وتشمل التحرش أو العنف من قبل أطراف ثالثة،” وأضافت: “بالنسبة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا، من المهم أن يختص هذا الإصلاح القانوني بأماكن العمل على وجه الخصوص، وبالتالي لا يمكن استبعاده لحصوله في الأماكن الخاصة أو الحميمة من حياة الناس.”
يسلط هذا الضوء على أهمية قيام الحكومات بإعطاء الأولوية للتصديق على اتفاقية منظمة العمل الدولية الخاصة بالعنف والتحرش – ولهذا السبب ينبغي على النشطاء أيضاً مواصلة الضغط بينما يبلغ الوعي الوطني والدولي ذروته. وبما أن أكثر من نصف الدول العربية هي دول أعضاء في منظمة العمل الدولية، فلا بد لها من اعتماد الاتفاقية رقم 190. وعلى هذا النحو، هناك حاجة إلى مشاورات مع ممثلي أصحاب العمل ومنظمات العمال وأصحاب المصلحة المختلفين. وعليه، ستتمكن الحكومات وصانعوا السياسيات، من خلال إشراك مختلف أصحاب المصلحة فحسب، من تطوير نهجٍ شامل ومتكامل ومراعي للنوع الاجتماعي لمنع العنف والتحرش والقضاء عليهما. وستكون الخطوة التالية هي التنفيذ من خلال تدابير المنع والحماية والإنفاذ، فضلاً عن التوجيه والتدريب.
كما تساهم الاتفاقية في تبسيط وتحديد الالتزامات الرئيسية للحكومات. أولاً، تسلط الضوء على عناصر القوانين والسياسات الوطنية التي يمكن أن تعكس الممارسات الواعدة، وذلك من خلال تضمين قوانين شاملة ضد التحرش والعنف في العمل وتدابير الوقاية مثل الحملات الإعلامية وتحديد القطاعات عالية الخطورة. ثانياً، تؤكد الاتفاقية على دور الإنفاذ من خلال عمليات التفتيش والتحقيقات. وأخيراً، توفر إمكانية الوصول للناجين من خلال آليات تقديم الشكاوى، وحماية المبلغين عن المخالفات، وتوفير الخدمات والتعويض.
وبالتالي، تصبح الاتفاقية رقم 190 أداةً ناجعة في يد المدافعين عن القضية لاستخدامها في تحسين الإطار القانوني وعلاقات العمل القائمة أصلاً.
وفي الوقت الراهن، تطالب جهاتٌ فاعلة مختلفة- القطاع الخاص والعام والقاعدة الشعبية والمجتمع المدني – بقانونٍ موحد لتجريم التحرش الجنسي في لبنان، إذ لم يقتصر الأمر على الحملات التي دشنوها، بل أوجدوا شراكاتٍ جديدة بين النشطاء المحليين والحكومة لمعالجة هذه القضية. ففي لبنان، يعمل مكتب وزير الدولة لشؤون التنمية الإدارية مع العديد من الجهات الفاعلة لإحداث هذا التغيير. وفي هذا الشأن، توضح السيدة فاتن أبو شقرة بالقول: ” قدمت وزيرة الدولة لشؤون التنمية الإدارية مشروع قانون إلى مجلس الوزراء بشأن التحرش وصادقت عليه اللجان النيابية المشتركة… بعد تمريره على لجنة الإدارة والعدل نتمنى إرساله إلى الهيئة العامة للتصويت والموافقة.” يُنظر إلى مناقشة مشروع القانون على أنه إنجاز في حد ذاته في بلدٍ معروف ببطء عملية الإصلاح القانوني.
في النهاية، لا يمكن لأي اقتصادٍ النمو بأقصى إمكاناته ما لم يضمن مشاركة المجتمع بأكمله بشكلٍ تام وعلى قدم المساواة. لذلك، لا يعتبر إصلاح الأطر القانونية قضيةً حاسمة فحسب للتأثير على الحياة المهنية للمرأة فقط، ولكن أيضاً لدفع عجلة النمو الاقتصادي، كما يقدم أدواتٍ جديدة لمواجهة التحديات المستقبلية للعمل مثل تنقل العمال، والتحقيقات المستقلة، وتنويع عقود العمل، وتأثير المعلومات الجديدة في علاقات العمل وديناميكيات العمل. ومع ذلك، وكما تشير الدكتورة مارشا، يتعين على النشطاء توخي الحذر بشأن كيفية صياغة هذه الإصلاحات القانونية، وتتساءل عما إذا كان من الممكن أن تؤدي إلى مراقبة النشاط الجنسي للمرأة و”احترامها” في أماكن العمل – أو ببساطة أن تصبح رادعاً لمشاركة المرأة في القوى العاملة.
في نهاية المطاف، وبغض النظر عن المنافع الاقتصادية، لا ينبغي على أي فردٍ التساهل مع التحرش الجنسي أو العنف. ولكن لسوء الحظ، ما يزال هذا واقعاً حتمياً للعديد من النساء في منطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا اللائي يحاولنّ الحفاظ على وظائفهن ومهنهن. واليوم. تقدم الاتفاقية رقم 190 فرصةً كبيرة لمنطقة الشرق الأوسط وشمال افريقيا لوضع حدٍ للتحرش والعنف القائم على النوع الاجتماعي فضلاً عن ضمان تقدم الأمن والسلامة والكرامة في مكان العمل. وعليه، قد تبدو الرحلة طويلة، إلا أنها باتت ملموسةً بالفعل.