وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة: هكذا ستتأثّر المنطقة العربيّة

مع استمرار أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة، من الواضح أنّ ثمّة مخاطر جديّة تحوم حول استثمارات دول الخليج في القطاعات المصرفيّة الأميركيّة والأوروبيّة.

أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة
شعار بنك كريدي سويس السويسري كما يظهر في بازل، 4 أبريل 2023. فابريس كوفريني / وكالة فرانس برس

علي نور الدين

من الواضح أنّ ثمّة مخاطر جديّة تحوم حول استثمارات دول الخليج في القطاعات المصرفيّة الأميركيّة والأوروبيّة، جرّاء أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة. وهذا العامل بالذات، رتّب أساسًا حتّى اللحظة خسائر وازنة على دول الخليج. إلا أنّ احتياطات المصارف الخليجيّة، قادرة على حمايتها من عدوى الإفلاسات التي تحصل في الغرب. في المقابل، ستواجه القطاعات الماليّة والمصرفيّة في دول أخرى كمصر وتونس والسودان المزيد من شح السيولة، نتيجة الأزمات التي تعصف بالنظام المالي العالمي.

أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة كانت قد بدأت منذ العام 2022، بفعل البيئة النقديّة والماليّة الضاغطة التي دخلها النظام المالي العالمي. وكانت النتيجة إفلاس مجموعة من المصارف الأميركيّة عام 2023، ومن بينها مصرف “سيليكون فالي”، ما مثّل أكبر إفلاس مصرفي في الولايات المتحدة منذ حصول الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008. وفي أوروبا، جاءت أزمة “كريدي سويس”، ثاني أكبر المصارف السويسريّة، وأحد أكبر 30 مصرفًا على مستوى العالم، ما أثار المزيد من القلق تجاه إمكانيّة تفشّي عدوى الإفلاسات المصرفيّة.

لذلك، سرعان ما طرحت أسئلة جديّة عن تداعيات ما يجري على مستوى المنطقة العربيّة، وخصوصًا لجهة مناعة الأنظمة المصرفيّة والماليّة العربيّة، ومدى إمكانيّة تأثرّها بموجة الإفلاسات المصرفيّة التي تحصل في الغرب. وهذا ما يقودنا إلى السؤال عن احتمالات تعرّض القطاعات المصرفيّة العربيّة لنوعيّة المخاطرعينها، التي أدّت إلى الضغط على المصارف الأميركيّة والأوروبيّة مؤخّرًا. كما كان من الطبيعي السؤال هنا عن الخسائر العربيّة، التي تحققت أو يمكن أن تتحقق في المستقبل، جرّاء أزمة المصارف في أوروبا والولايات المتحدة. وكالعادة، ستتفاوت التداعيات بحسب الوضعيّة الماليّة والنقديّة لكل دولة عربيّة.

أسباب الأزمة في الولايات المتحدة وأوروبا

من المهم أوّلًا فهم نوعيّة المخاطر التي أحاطت بالمصارف في الولايات المتحدة وأوروبا، والتي أدّت إلى أزمتها الراهنة، من أجل تقييم إمكانيّة تأثّر المصارف العربيّة بهذه المخاطر.

ففي الولايات المتحدة، بدأت أزمة المصارف منذ شهر مارس/آذار 2022، عندما بدأ الاحتياطي الفيدرالي تدريجيًا برفع معدلات الفوائد المستهدفة. ومنذ ذلك، وخلال سنة واحدة، اتخذ الاحتياطي الفيدرالي تسعة قرارات متتالية لرفع الفوائد، ما رفع النطاق الأعلى للفوائد المستهدفة من 0.25% في بداية شهر مارس/آذار 2022، إلى 5% خلال شهر مارس/آذار 2023.

هكذا، تضاعفت الفوائد المستهدفة من الاحتياطي الفيدرالي فبلغت نطاقها الأعلى بنحو 20 مرّة خلال هذه الفترة، ما عكس سياسة انكماشيّة قاسية. ومن المهم الإشارة هنا إلى أنّ معدّل الفوائد الأميركيّة الحالي يمثّل اليوم أعلى مستوى تاريخي لها، منذ حصول الأزمة الماليّة العالميّة عام 2008. أمّا السبب الأساسي الذي دفع الاحتياطي الفيدرالي الى ااتباع هذه السياسية، فهو ببساطة محاولة ضبط معدّلات التضخّم، التي ارتفعت في الولايات المتحدة في شهر مايو/أيّار 2022 إلى أعلى مستوى لها منذ 40 سنة.

وفي الاتحاد الأوروبي، اعتمد المصرف المركزي الأوروبي السياسة عينها، ما أدّى إلى بلوغ معدّل الفائدة الرئيس للمصرف حدود ال3% في شهر مارس/آذار 2023، بعدما كان هذا المعدّل يسجّل مستويات سلبيّة (تحت الصفر) في يوليو/تمّوز 2022. كما سارت بهذا الاتجاه المصارف المركزيّة في كل من بريطانيا وسويسرا، وسائر الدول الغربيّة المؤثّرة في أسواق المال. وفي كل هذه الحالات، كان الهاجس الأساسي هو ضبط التضخّم.

كان من المتوقّع أن تؤدّي هذه السياسة الانكماشيّة إلى ضغوط كبيرة على القطاع المصرفي في الغرب. فرفع الفوائد في أسواق المال، يجبر المصارف على زيادة الفوائد التي تدفعها للمودعين لديها، للحؤول دون انتقال السيولة من المصارف إلى أسواق سندات الدين، التي تنخفض أسعارها وترتفع عوائدها إلى حد مغرٍ جدًا عند ارتفاع فوائد السوق. وهكذا يؤدّي رفع فوائد الودائع إلى زيادة أعباء المصارف وتقليص أرباحها.

وحتّى بعد رفع فوائد الودائع، ستظل المصارف تعاني من خسارة جزء من ودائعها، التي ستتجه لشراء سندات الدين الحكوميّة بعد انخفاض أسعارها وارتفاع مردود الاستثمار فيها، بسبب انخفاض مخاطر هذه السندات بشدّة في الدول الغربيّة.

من ناحية أخرى، تحتفظ غالبيّة المصارف بسندات حكوميّة طويلة الأمد، كاحتياطات إستراتيجيّة، فيما انخفضت أسعار هذه الموجودات في السوق بعد ارتفاع الفوائد. ولهذا السبب، وبمجرّد حصول ضغط على سيولة المصارف بسبب فقدانها جزءًا من الودائع، كما يحصل اليوم، وعند اضطرارها لبيع هذه السندات في السوق، ستتكبّد المصارف خسائر كبيرة نتيجة انخفاض أسعار السندات. وهذا ما يخلق فجوات في الميزانيّات المصرفيّة، نتيجة فقدان المصارف جزءًا من قيمة موجوداتها.

في واقع الأمر، ما نتحدّث عنه ليس سيناريو نظريًا، أو توقّعات قد تحدث أو لا تحدث في المستقبل. بل هذا تحديدًا ما حصل مع مصرف “سيليكون فالي” في الولايات المتحدة، الذي تكبّد خسائر ضخمة نتيجة اضطراره لبيع جزء من محفظة سندات الدين التي يملكها، لتأمين سحوبات المودعين. كما عانى المصرف من الخسائر التي نتجت من اضطراره لرفع قيمة الفوائد التي يدفعها للمودعين، لمنع هروب هذه الودائع باتجاه أسواق الدين. في النتيجة، لم يتمكن المصرف من تأمين الرساميل المطلوبة لمعالجة هذه الخسائر، فحدثت حالة الهلع لدى المودعين، وتم إغلاق المصرف.

في حالة مصرف “كريدي سويس”، تقاطعت هذه السنة تداعيات السياسات الانكماشيّة ورفع الفوائد، وشح السيولة نتيجة نزوح الودائع باتجاه أسواق الدين، مع أزمات المصرف الخاصّة المتعلّقة بخسائر السنة الماضية والفضائح التي تعرّض لها. وهذا ما أدّى إلى الأزمة التي تسببت ببيع “كريدي سويس” لمصلحة مصرف UBS، ما أنهى مسيرة المصرف التي امتدت ل 167 عامًا.

خسائر خليجيّة جرّاء أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة

من المهم الإشارة أولًا إلى أنّ الدول العربيّة –وخصوصًا الخليجيّة- سجّلت أساسًا خسائر مؤثّرة، بفعل أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة.

فعلى سبيل المثال، امتلك البنك الأهلي السعودي 9.9% من قيمة أسهم مصرف “كريدي سويس”، قبل عقد صفقة بيعه لصالح UBS. ونتيجة بيع أسهم “كريدي سويس” بسعر زهيد، مقارنة بسعر استحواذ البنك الأهلي على الأسهم، تكبّد المصرف السعودي خسائر بقيمة 1.17 مليار دولار. مع الإشارة إلى أنّ البنك الأهلي مملوك بنسبة 37% من صندوق الاستثمارات العامّة السعودي، أحد أبرز الصناديق السياديّة الخليجيّة.

في المقابل، حلّت مجموعة العليّان السعوديّة في طليعة المتضرّرين من تعثّر “كريدي سويس” وبيعه، إذ حققت المجموعة خسائر قارب حجمها ال3.91 مليار دولار، من أصل قيمة الأسهم التي تملكها في المصرف السويسري. أمّا جهاز قطر للاستثمار، الصندوق السيادي التابع للدولة القطريّة، فبلغت خسائره نحو 3.44 مليار دولار، بعدما كان قد رفع قيمة مساهمته في “كريدي سويس” إلى نحو 7% من أسهم المصرف في شهر يناير/كانون الثاني 2023.

في الوقت الراهن، تخشى المصارف وصناديق الاستثمار الخليجيّة من تكبّد المزيد من الخسائر، جرّاء استثماراتها في المصارف الأجنبيّة. وهذه الخسائر يمكن أن تنتج عن تراجع أسعار أسهم المصارف الأوروبيّة والأميركيّة على المدى البعيد، أو عن تكرار سيناريو “كريدي سويس” في مصارف دوليّة كبيرة أخرى. وكانت صناديق الاستثمار والمصارف الخليجيّة قد توسّعت خلال السنتين الماضيتين في استثماراتها في المصارف الغربيّة، لتنويع اقتصادها، والاستفادة من الفوائض الماليّة الكبيرة التي حققتها الزيادات في سعر برميل النفط.

في الوقت نفسه، من الواضح أن المصارف الخليجيّة عينها ستكون معرّضة لنفس الضغوط التي تعرّضت لها المصارف الغربيّة، جرّاء ارتفاع أسعار الفوائد واتباع السياسات الانكماشيّة.

فالمصارف المركزيّة في قطر والسعوديّة والبحرين والإمارات والكويت وعمان لجأت منذ شهر مارس/آذار 2022 إلى مواكبة الاحتياطي الفيدرالي والبنك المركزي الأوروبي، بالنسبة لاتجاهات معدلات الفائدة، من خلال رفع معدلات الفائدة في دول الخليج بالتوازي مع رفعها في الدول الغربيّة. وكانت المصارف المركزيّة الخليجيّة قد ذهبت بهذا الاتجاه للحؤول دون انتقال السيولة من المصارف الخليجيّة إلى المصارف الغربيّة.

هذه التطوّرات، ستضع المصارف الخليجيّة أمام ضغط معدلات الفائدة المرتفعة الذي سبق وواجهته المصارف الغربيّة. وهكذا ستواجه المصارف الخليجيّة مشكلة التقلّص في قيمة بعض موجوداتها الاستثماريّة، كسندات الدين، بالإضافة إلى ارتفاع كلفة الفوائد التي يتم تسديدها للمودعين لديها. وهذا ما يفسّر تراجع أسعار أسهم المصارف الخليجيّة، وتراجع بورصات الخليج بشكل عام، في كل مرّة صدرت فيها قرارات قضت برفع الفائدة من قبل الاحتياطي الفيدرالي والمصارف المركزيّة الخليجيّة.

رغم كل خسائر دول ومصارف الخليج، الناتجة عن أزمة المصارف الأوروبيّة والأميركيّة، ورغم تعرّض النظام المالي في الخليج للمشاكل الناتجة عن ارتفاع الفوائد عينها، من المستبعد أن تُصاب المصارف الخليجيّة بعدوى الانهيارات التي حصلت في الغرب. أي بصورة أوضح، لن يكون مرجّحًا أن تشهد دول الخليج إقفالًا أو تصفية أو بيعًا لمصارف، كما جرى مع “كريدي سويس” السويسري أو “سيليكون فالي” الأميركي.

أمّا سبب حصانة المصارف الخليجيّة، وضعف احتمال تعرّضها لهذا السيناريو، فهو امتلاك القطاع المصرفي والصناديق الاستثماريّة في دول الخليج احتياطات سائلة ضخمة جدًا من العملات الأجنبيّة. وهذه الاحتياطات، ستسمح للمصارف المركزيّة والحكومات الخليجيّة بالتدخّل فورًا، لمعالجة أي ضغوط يمكن أن تؤثّر على سيولة المصارف التجاريّة الخليجيّة. ومن المعلوم أن ارتفاع أسعار النفط خلال الفترة الماضية ساهم في تراكم المزيد من هذه الاحتياطات، ما زاد من تضخّم موجودات الصناديق الاستثماريّة الخليجيّة.

تداعيات على الاقتصادات العربيّة المأزومة

في الوقت الراهن، يعاني العديد من الدول العربيّة من ظروف اقتصاديّة قاسية، كحال مصر وتونس والسودان، التي تعاني جميعها من شح التدفّقات النقديّة بالعملات الأجنبيّة إلى أنظمتها الماليّة.

ونتيجة الأزمة التي تعصف بالنظام المالي العالمي، وتشدد المصارف الأجنبيّة في استخدام سيولتها واستثمارها، من المتوقّع أن تتراجع أكثر التدفّقات الماليّة بالعملة الصعبة إلى هذه الدول، ما قد يزيد من وقع أزماتها. مع الإشارة إلى أنّ رفع الفوائد، واعتماد السياسات الانكماشيّة من قبل المصارف المركزيّة الغربيّة، يؤدّي تلقائيًا إلى امتصاص السيولة من السوق والحد من تدفّقها باتجاه الدول النامية.

أمّا دولة كلبنان، فقد لا تتأثّر مصارفها كثيرًا بهذه التطوّرات، بعد أن بلغ القطاع المصرفي اللبناني درجة متقدمة من الانهيار، بما لا يسمح أصلًا باستقطاب أي ودائع أو تحويلات جديدة بالعملات الأجنبيّة. إلا أن الدولة اللبنانيّة قد تواجه مشاكل في الحصول على مساعدات سخيّة من الدول الغربيّة في المستقبل، في حال تفاقم الأزمات الماليّة لدى تلك الدول.

لكل هذه الأسباب، سيكون على جميع الدول العربيّة دراسة ما يجري على مستوى أزمة المصارف في أوروبا والولايات المتحدة، لفهم تداعيات هذه الأزمة على اقتصاداتها المحليّة. ومن المفترض أن تسعى كل دولة إلى صياغة المعالجات الكفيلة بتحييد قطاعها المصرفي ونظامها المالي عن هذا النوع من المخاطر الخارجيّة، كما على المصارف التجاريّة العربيّة أن تحرص على تكوين المؤونات القادرة على حمايتها من أزمات السيولة التي يمر بها العالم اليوم. فتحصين المصارف والأنظمة الماليّة قبل وقوع المشكلة، يبقى أفضل بكثير من تدخّل المصارف المركزيّة العربيّة بعد حصول حالات التعثّر، ما سيحمّل المال العام كلفة إنقاذ المصارف وتوفير التسهيلات لها.