علي نور الدين
خلال العام الماضي، لم يتعدّى متوسّط سعر برميل النفط (خام برنت) حدود ال41.84 دولارًا ، وهو ما مثّل متوسّط سنوي متدنّي جدًا، لم تشهده الأسواق العالميّة منذ أكثر من ستة عشر سنة. وفي شهر نيسان 2020 بالتحديد، سجّل سعر برميل خام برنت انخفاضات تاريخيّة إلى مستويات قاربت ال9.12 دولارًا ، وهو ما مثّل ذروة التدهور في أسعار النفط في تلك السنة. بل ويذكر الجميع أيضاً كيف تراجعت أسعار العقود الآجلة للنفط الأميركي في الشهر نفسه إلى مستويات سلبيّة، لأوّل مرة في تاريخ الولايات المتحدة الأميركيّة، لتعكس بذلك عمق الأزمة الناتجة الناتجة عن تراجع الطلب على المحروقات عالميًّا، إلى الحد الذي دفع الشركات الأميركيّة المنتجة للنفط إلى عرض المال مقابل التخلّص من إنتاجها المستقبلي من النفط.
جميع هذه التطوّرات، جاءت السنة الماضية كنتيجة لتفشّي وباء كورونا، وما رافقه من تراجع في الطلب على المحروقات نتيجة القيود على التنقّل، والتراجع في معدلات الانتاج بسبب قرارات الإقفال الشامل في معظم دول العالم، بالإضافة إلى انخفاض معدلات الاستثمار والاستهلاك بشكل عام إثر الأزمة الاقتصاديّة التي رافقت تفشّي الوباء.
وفي المحصّلة، واجهت الدول المصدّرة للنفط أزمات ماليّة قاسية خلال العام الماضي، جرّاء تراجع إيرادتها من بيع النفط. مع الإشارة إلى أنّ هذه الدول كانت قد صممت ميزانيّاتها السنويّة وخططت لنفقاتها على أساس الإيرادات المتوقّعة من بيع النفط وفق الأسعار القديمة المرتفعة، فيما أدّى انخفاض سعر البرميل إلى تدنّي الإيردات إلى مستويات مختلفة، مما أدى عجوزات كبيرة في الميزانيّات. ولهذا السبب بالتحديد، سجّلت دول الخليج العربي على سبيل المثال عجوزات في ميزانيّاتها بقيمة إجماليّة تجاوزت حدود ال180 مليار دولار أميركي، في النصف الأوّل من 2020 وحده، فيما نالت السعوديّة حصّة الأسد من هذه العجوزات بنسبة قاربت ال55%. ولتغطية هذا العجز، كان على الدول الخليجيّة اقتراض نحو 100 مليار دولار من الأسواق الماليّة، فيما غطّت الجزء المتبقي، أي 80 مليار دولار، من احتياطاتها الماليّة الخاصّة.
باختصار، عاشت الدول المصدّرة للنفط في النصف الأوّل من العام 2020 أزمتها القاسية الناتجة عن تراجع الإيرادات، فيما عانت الدول الصناعيّة المستوردة للمحروقات من أزمة موازية نتيجة إقفال الأسواق وتراجع الطلب والاستهلاك. وبانتظار إعادة فتح الأسواق، كان ضمور معدلات النمو الاقتصادي وارتفاع الديون السياديّة عنوان المرحلة بالنسبة لجميع الاقتصادات العالميّة ، المستوردة والمصدّرة للنفط، والنامية والمتقدّمة على حدٍ سواء.
الانتعاشة الاقتصاديّة وارتفاع أسعار النفط
مع نهاية العام الماضي، عادت الاقتصادات العالميّة هذه السنة لتستعيد عافيتها تدريجيًّا مع خروجها من حالات الاقفال التام والشامل، ومع عودة معدلات الطلب والاستهلاك إلى الارتفاع من جديد. لكنّ معدلات انتاج المواد الأساسيّة بمختلف أنواعها، ومنها المحروقات، لم تواكب هذا الارتفاع في الطلب بنفس النسبة، نظرًا لتباطؤ العمل في المشاريع الاستثماريّة المخصصة للإنتاج منذ العام الماضي، وعدم قدرة سلاسل الإمداد على التعامل مع ارتفاع الطلب المستجد. ولذلك، كان من الطبيعي أن يشهد الاقتصاد العالمي معدلات تضخّم مرتفعة، وخصوصًا بالنسبة إلى أسعار المواد الأساسيّة، وفي طليعتها النفط. وهكذا، بدأت أسعار النفط العالميّة بتسجيل ارتفاعات متتالية، وصولاً إلى مستويات تجاوزت ال85 دولارًا بالنسبة إلى برميل خام برنت خلال شهر تشرين الأوّل، وهو ما يتجاوز ضعفي متوسّط سعر البرميل خلال العام الماضي.
وفي الوقت نفسه، بدأت مجموعة من العوامل بالضغط على أسعار النفط خلال الفترة الماضية، ودفعها نحو المزيد من الارتفاع. وفي طليعة هذه العوامل، كان اقتراب فصل الشتاء في أوروبا وأميركا الشماليّة، وهو ما يصاحبه في العادة طلب إضافي على مصادر الطاقة للتدفئة. وفي الوقت نفسه، استمرّ الشح في إمدادات الفحم الحجري ، الذي يمثّل في العادة بديل تقليدي للنفط الخام في الأسواق العالميّة، ما ساهم بدوره في زيادة الإقبال على مشتقات النفط. وفي القارّة الأوروبيّة بالتحديد، كانت أسعار الغاز ترتفع بفعل الزيادة الجنونيّة في الطلب عليه مقارنة بالعرض المحدود، وهو ما رفع الطلب على أسعار سائر أنواع المحروقات التي يمكن أن تمثّل بديل للغاز الطبيعي.
على أي حال، ومع استمرار هذه العوامل بالضغط على أسواق البترول بنفس الطريقة، يتوقّع كثيرون استمرار الارتفاع في أسعار المحروقات خلال الفترة المتبقية من هذا العام، وفي النصف الأوّل من العام المقبل، وصولاً إلى مستويات قد تتجاوز ال90 دولارًا للبرميل خلال سنة 2022. مع الإشارة إلى أن البنك الدولي نفسه توقّع أن يستمر الارتفاع التدريجي في أسعار النفط حتّى منتصف العام القادم، وهو ما سيساهم في زيادة الضغوط التضخّمية على المستوى العالمي.
الدول المصدّرة للنفط: أبرز المستفيدين
من البديهي أن تمثّل كل هذه التطوّرات فرصة لا تقدّر بثمن بالنسبة إلى الدول المصدّرة للنفط، التي كانت حتّى أمس القريب تعاني من انخفاض أسعار البترول وتراجع مداخيلها من تصديره. فبنتيجة هذه الارتفاعات في سعر برميل النفط، توقّع البنك الدولي أن تسجّل دول الخليج مثلاً نموًّا في اقتصاداتها بمعدّل كلّي يقارب ال2.2%، في مقابل الانكماش الذي سجّلته العام الماضي والذي تجاوز مستوى ال4.8%. أما احتياطات هذه الدول من العملة الصعبة، التي شهدت بعض الاستنزاف لتمويل العجز في ميزانيات هذه الدول، فتوقّع البنك أن تستعيد نسب نموّها لترتفع بقدر يتراوح بين 300 و350 مليار دولار خلال السنوات الثلاث المقبلة.
المملكة العربيّة السعوديّة بالتحديد، حلّت في طليعة الدول المستفيدة من انتعاشة أسعار النفط عالميًّا، إذ أظهرت أرقام الهيئة العامّة للإحصاء في المملكة نمو ناتجها المحلّي الإجمالي بنسبة 6.8% في الفصل الثالث وحده من هذا العام. ونسبة النمو المرتفعة هذه تعود تحديداً إلى الزيادة التي تمكنت المملكة من تحقيقها من أنشطتها النفطيّة، والتي تجاوزت خلال هذه الفترة بالتحديد نسبة 9%. أمّا أهم ما في الموضوع، فهو أن المملكة عادت لتسجّل فوائض في ميزانيتها خلال هذه الفترة، بمستويات تجاوزت ال1.79 مليار دولار، ولأوّل مرّة من العام 2019.
ببساطة، جاء ارتفاع أسعار النفط لينتشل كبرى الاقتصادات التي تعتمد على تصديرها من الأزمة الخانقة التي عانت منها طوال العام الماضي، والتي أدّت إلى ارتفاع مديونيّاتها السياديّة وتقلّص ناتجها المحلّي، ناهيك عن مشاكل لا تحصى على مستوى معدلات البطالة وارتفاع مديونيّات القطاع الخاص. وهذا التحسّن بالتحديد هو ما دفع وكالة فيتش للتصنيف الائتماني لتحسين نظرتها المستقبليّة بالنسبة للاقتصاد السعودي.
صراع المصالح يستعر: بين الدول المصدّرة والمستوردة
تمثّل منظمة أوبيك حاليًا أبرز التكتلات الدوليّة التي تتصدّى لمهمّة الدفاع عن مصالح الدول المصدّرة للنفط، حيث تضم المنظمّة حالياً 13 دولة، بينما تُقدّر الاحتياطات النفطيّة الموجودة لدى الدول الأعضاء فيها بنحو 79.4% من الاحتياطات البتروليّة الموجودة في العالم. وللدفاع عن مصالح الدول الأعضاء، تقوم المنظّمة بتنسيق قرارات وإجراءات هذه الدول، وتحديداً من ناحية حجم النفط الذي تنتجه كل دولة والسياسات المتبعة في التسويق، بهدف السيطرة على كمية النفط المعروض في الأسواق، وضمان أسعار تحافظ على مداخيل الدول النفطيّة. وبينما تمثّل المملكة العربيّة السعوديّة أبرز أقطاب هذا التكتّل، تم تشكيل تحالف أوبيك+ ليضم بالإضافة إلى دول منظمة أوبيك، 10 دول أخرى من غير الأعضاء، أبرزها روسيا.
في الوقت الراهن، تلتزم الدول المنتجة للنفط، والمنضوية في تحالف أوبيك+، بخطة متحفظّة لزيادة الانتاج، بهدف الحفاظ على مكاسبها الناتجة عن زيادة أسعار النفط عالمياً. بمعنى آخر، لم تعمد هذه الدول إلى زيادة إنتاجها بكميات متوازنة ، ليتناسب مع الزيادة في الطلب على النفط هذا العام، نظراً لاستفادتها من ارتفاع الأسعار الناتج عن محدوديّة العرض مقابل الطلب المتزايد. وبذلك، تحوّل إصرار هذه الدول على خطّة الإنتاج المتحفّظة الحاليّة إلى أحد أسباب الارتفاع العالمي في أسعار المحروقات، بالإضافة إلى جميع الأسباب المتعلّقة بزيادة الطلب على النفط. أمّا أبرز الدول التي قادت هذا الإصرار على الخطة داخل التحالف، فكانت روسيا والسعودية، اللتان تمثّلان أكثر الدول تأثيراً داخل هذا التحالف.
وفي مقابل هذا التحالف، قادت الولايات المتحدة الأميركيّة مسعى الضغط على أوبيك+ لزيادة إنتاجها من النفط، إلى جانب مجموعة من الدول الصناعيّة المستوردة للنفط كالصين واليابان والهند والمملكة المتحدة وغيرها. فمن الناحية العمليّة، اعتبرت هذه الدول الصناعيّة أن ارتفاع أسعار المحروقات المستوردة سيلجم من تعافي اقتصاداتها من تداعيات وباء كورونا، وسيضر بصناعاتها المحليّة التي تعتمد تكاليفها الإنتاجيّة على أسعار مصادر الطاقة إلى حد كبير. ولهذا السبب، حاولت هذه الدول الضغط على تحالف أوبيك+ لزيادة الإنتاج، بهدف خفض أسعار النفط في الأسواق، وهو ما لم يتناسب حتماً مع مصالح دول أوبيك+.
هكذا دخل العالم أتون حرب المصالح بين كبرى الدول الصناعيّة المستوردة للنفط، والدول المصدّرة له. وآخر فصول هذا الصراع كان لجوء الولايات المتحدة إلى استخدام احتياطاتها الاستراتيجيّة المخزّنة من النفط، لضخّه بالأسواق، في محاولة للي ذراع أوبيك+ وخفض أسعار النفط بمعزل عن معدلات إنتاجها. أما المسألة اللافتة، فكانت تنسيق الولايات المتحدة الأميركيّة مع معسكر كامل من الدول الصناعيّة للقيام بالخطوة نفسها، حيث انضمّت إلى الولايات المتحدة في هذه الخطّة كوريا الجنوبيّة واليابان والصين والمملكة المتحدة والهند. وبذلك، كانت الولايات المتحدة الأميركيّة توسس لأوّل مرّة لمواجهة جماعيّة وجريئة من هذا النوع، في وجه تحالف أوبيك+.
في المحصّلة، ستكون أسعار النفط خلال الفترة المقبلة رهينة صراع المصالح القائم بين الجهتين، خصوصًا إذا قررت دول أوبيك+ الرد على الخطوة الأميركيّة بوقف زيادة إنتاجها نهائيّاً، للحؤول دون انخفاض أسعار النفط من جديد. أما المتضرر الأكبر من كل هذه الأحداث، فسيكون الدول النامية التي لا تنتمي إلى أي من الطرفين، أي تحديداً الدول التي تستورد النفط ولا تنتجه، ودون أن تنتمي إلى معسكر الدول الصناعيّة التي تمتلك قطاعات إنتاجيّة وازنة وصلبة. فهذه الدول، ستدفع فاتورة زيادة أسعار المحروقات، وما سينتج عنها من زيادة في عجز ميزانها التجاري، لكنّها لن تستفيد عبر قطاعاتها الإنتاجيّة من انتعاشة الأسواق العالميّة وزيادة الاستهلاك.