وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

دول الخليج تراهن على العملات الرقميّة لتعزيز تجارتها الدوليّة

تخطط دول الخليج لاعتماد العملات الرقميّة في المستقبل، في مسعى لتسهيل وتسريع العمليّات التجاريّة والماليّة وتقليل كلفتها.

دول الخليج العملات الرقميّة
عملة البيتكوين المشفرة. مارتن بورو / وكالة الصحافة الفرنسية

علي نور الدين

تشير أبحاث صندوق النقد الدولي إلى أنّ أكثر من نصف المصارف المركزيّة حول أنحاء العالم تجري دراسات لإصدار عملات رقميّة خاصّة بها، أو أنّها وضعت خططًا استراتيجية لإصدار هذا النوع من العملات.

وخلال العام 2022، كان هناك أكثر من 100 عملة رقميّة صادرة عن “البنوك” المركزية، لا زالت تمرّ بمراحل مختلفة من البحث والتطوير، تمهيدًا لطرحها في الأسواق.

ومن أصل كل هذه التجارب والمشاريع، ثمّة 15 عملة رقميّة صادرة عن مصارف مركزيّة، وصلت اليوم إلى مرحلة التجريب، بعدما مرّت بمراحل البحث ووضع المفهوم والإصدار التمهيدي.

عمليًا، وتمامًا مثل العملات المشفّرة الرائجة مثل بيتكوين، تسمح عملات المصارف المركزيّة الرقميّة (CBDC) بإجراء المعاملات الماليّة بسهولة وسرعة فائقة عبر الإنترنت، ومن دون المرور بالمصارف التجاريّة. لكن وبعكس بيتكوين والعملات المشفّرة، تبقى عملات المصارف المركزيّة الرقميّة منظّمة بشكل مركزي، ما يمنع قيمتها من التقلّبات السريعة ، وبما يحول أيضًا دون استعمالها لغايات غير مشروعة.

وفي العادة، تختلف الأسباب التي تدفع المصارف المركزية لإنشاء عملات رقميّة خاصّة بها. وهذه الأسباب تتراوح بين تأمين بدائل تنافس العملات المشفّرة الخارجة عن سيطرة الدولة، وتوفير وسائط دفع إلكترونيّة للفئات التي لا تملك حسابات مصرفيّة، وخصوصًا في البلدان التي تعاني من ضعف في تغطية الخدمات المصرفيّة. كما تستهدف العملات الرقميّة تسهيل وتسريع التجارة الخارجيّة، وتقليل الحاجة لشراء العملة الصعبة لإتمام عمليّات الدفع الإلكترونيّة.

في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يبدو من الواضح أن دول الخليج تلعب دورًا رياديًا في سوق العملات الرقميّة، إلى حد وجود برامج لتجريب وتطوير هذا النوع من العملات في جميع دول الخليج دون استثناء. بل ويمكن القول أيضًا إنّ المملكة العربيّة السعوديّة والإمارات العربيّة المتحدة سبقتا الغالبيّة الساحقة من الدول الغربيّة، ذات الأنظمة الماليّة المتطوّرة، في الدخول بمرحلة تجربة استخدام العملات الرقميّة، بعد إنجاز الأبحاث الضروريّة لذلك.

يفرض هذا الواقع دراسة تجارب الدول الخليجيّة في مجال العملات الرقميّة، للبحث أولًا عن جدوى الاستثمار الذي قامت به هذه الدول في هذا النوع من العملات، وللسؤال ثانيًا عن الغاية أو الأهداف الاقتصاديّة من خوض هذه التجربة.

الإمارات: اكتمال نموذج التداول بالعملات الرقميّة

تُعتبر الإمارات الدولة العربيّة الأسرع والأكثر تقدمًا، في إكمال النموذج المالي المطلوب للتداول بالعملات الرقميّة.

ففي شهر آذار/مارس 2023، أعلنت الإمارات جهوزيّتها لإطلاق مشروع “الدرهم الرقمي”، الذي يفترض أن يقدّم عملة افتراضيّة يمكن استعمالها في جميع المعاملات التجاريّة داخل وخارج الإمارات.

ولإطلاق المشروع، وقّعت الإمارات اتفاقيّات مع شركتي “G42 Cloud” و”R3″ من أجل البدء بتنفيذ الخطوات العمليّة المطلوبة لإصدار هذه العملة الرقميّة. وبهذه الاتفاقيّات، تكون الإمارات قد أقدمت على الخطوة الأخيرة، باتجاه إطلاق نظام كامل للتداول بالعملة الرقميّة.

لكن قبل الوصول إلى هذه المرحلة المتقدّمة الآن، كانت الإمارات قد حضّرت الأرضيّة عبر تصميم نظام الدفع والتحويل المالي، الذي استعملت على أساسه العملة الرقميّة.

فمنذ العام 2021، عمل المصرف المركزي الإماراتي على مشروع “الجسر”، بالتنسيق مع مركز الابتكار التابع لبنك التسويات الدولية في هونغ كونغ، وسلطة النقد في هونغ كونغ، وبنك تايلاند المركزي، ومعهد العملات الرقمية التابع لبنك الشعب الصيني. واستهدف المشروع منذ ذلك الوقت تصميم آليّات لاستخدام العملات الرقميّة، من أجل إتمام عمليّات تجاريّة عابرة الحدود، وبأنظمة دفع تمرّ عبر مصارف مركزيّة متعددة.

وبالفعل، تمكّن مشروع “الجسر” من اختبار مجموعة من المدفوعات ذات القيمة الحقيقيّة، بين المصارف المركزيّة المشمولة بالمشروع، وباستخدام عملات رقميّة. ورغم أنّ هذه المدفوعات كانت مجرّد عمليّات تجريبيّة، لدراسة جدوى استعمال العملات الرقميّة بين البلدان والمصارف المركزيّة، إلا أنّ هذه التجربة أثبتت إمكانيّة تسريع عمليّة تحويل الأموال عبر الحدود من عدّة أيّام إلى ثوانٍ معدودة، باستخدام العملات الرقميّة. كما أثبتت قدرة هذه العملات على التخلّص من جميع تكاليف وعمولات المراسلات بين المصارف التجاريّة.

تجدر الإشارة إلى أنّ قيمة المدفوعات التي تمّت من خلال مشروع “الجسر” بلغت حدود ال80 مليون درهم إماراتي، أي ما يوازي نحو 22 مليون دولار أميركي، على امتداد فترة ستّة أسابيع. كما أثبت المشروع إمكانيّة وضع معايير أمان متقدمة للتداولات التي تستخدم العملات الرقميّة، بالإضافة إلى معايير مكافحة تبييض الأموال وتمويل الإرهاب.

وكانت الإمارات قد بدأت أولى الخطوات التجريبيّة في هذا المجال من خلال مشروع “عابر” عام 2019، بالتعاون مع المملكة العربيّة السعوديّة. ومن خلال ذلك المشروع، تمّت دراسة إمكانيّة استعمال العملات الرقميّة لإتمام التحويلات بين البلدين، ومع دول أخرى، من دون العبور بالمصارف التجاريّة وتحويلاتها كوسيط مالي. وبالفعل، تمكّن المشروع في تلك المرحلة من وضع عدّة خيارات وطرق للتداول بالعملات الرقميّة، كما تمكّن من تجربة وتقييم هذه الخيارات للبناء عليها في المستقبل.

في خلاصة الأمر، يبدو أن الإمارات قد تمكّنت اليوم من الاستفادة من جميع هذه التجارب، لإطلاق عملتها الرقميّة الخاصّة. وكما كان واضحًا، كانت الإمارات مهتمّة منذ البداية بالعملات الرقميّة كوسيلة لتطوير تجارتها الدوليّة، من خلال تخفيض تكاليف وتعقيدات إجراء التحويلات الماليّة مع الأنظمة الماليّة الأجنبيّة.

فالعملات الرقميّة، وبعكس التحويلات البنكيّة، لا تمرّ بالبيروقراطيّات الإداريّة المصرفيّة، ولا بمعاملات المصارف المراسلة، بل تجري بشكل مباشر بين الطرفين، فيما تقوم المصارف المركزيّة لاحقًا بتسوية المدفوعات في ما بينها بشكل مباشر. وهذه الخاصيّة، تسهم بزيادة تنافسيّة وفعاليّة التبادلات التجاريّة العابرة الحدود.

وعلى هذا الأساس، يتكامل اهتمام الإمارات بالعملات الرقميّة لتطوير تجارتها الدوليّة، مع النموذج الاقتصادي الإماراتي القائم على السوق المفتوحة، وحرص الدولة على تنويع اقتصادها والتقليل من اعتمادها على مداخيل تصدير النفط، وزيادة مداخيل الاقتصاد من التجارة غير النفطيّة.

إنّ اهتمام الإمارات بالآفاق التجاريّة الواعدة بالعملات الرقميّة، كان واضحًا من التفاهمات التي عقدتها مع الهند في بداية العام 2023، والتي تركّزت على تجربة العملات الرقميّة في المعاملات التجاريّة بين الدولتين.

وشملت التفاهمات أيضًا ربط منصّات الدفع السريعة بين الدولتين، والتعاون لتطوير التطبيقات التي تستخدم العملات الرقميّة، بهدف تقليل كلفة المعاملات الماليّة بين الهند والإمارات. ومن المعلوم أن الهند هي أكبر مستورد للصادرات الإماراتيّة غير النفطيّة، ما يفسّر حرص الإمارات على تطبيق آليّات الدفع عبر العملات الرقميّة مع هذه الدولة بالذات.

السعوديّة: تأنٍّ قبل إطلاق العملة الرقميّة

تمامًا كالإمارات، عملت السعوديّة منذ العام 2019 على مشاريع متعددة، لدراسة آليّات الدفع عبر العملات الرقميّة، وخصوصًا تلك التي تنطوي على عمليّات عابرة الحدود.

وكما أشرنا سابقًا، مثّل مشروع “عابر” مع الإمارات نفسها أبرز هذه المشاريع.

وبناءً على كل هذه التجارب، دخل البنك المركزي السعودي منذ بداية العام 2023 في عمليّة اختبار عملة رقميّة خاصّة بالسعوديّة، بالتعاون مع شركات تقنيّة ماليّة عاملة في هذا المجال، وبالتنسيق مع العديد من المصارف المركزيّة الأجنبيّة التي تجرّب اليوم عملات رقميّة مماثلة.

وعلى هذا الأساس، يمكن القول إنّ السعوديّة تحل في المرتبة الثانية عربيًا وخليجيًا، بعد الإمارات العربيّة المتحدة، من جهة درجة المرونة والاستعداد لاستخدام العملة الرقميّة. إذ سيكون بإمكان السعوديّة، بعد تجربة عملتها الرقميّة عام 2023، العمل على مشروع إطلاق العملة كما تفعل الإمارات اليوم.

ومع ذلك، يمكن القول إنّ المصرف المركزي السعودي، وبخلاف الإمارات، يبدي اليوم بعض التريّث والتحفّظ قبل الاندفاع بإطلاق هذه العملة الرقميّة. إذ يعكف حاليًا على دراسة جميع المخاطر المرتبطة بعمليّات العملة الرقميّة، كما يقوم بدراسة التداعيات الاقتصاديّة التي يمكن أن تنتج عن استخدام هذه العملة، قبل اتخاذ أي قرار باعتمادها في المستقبل.

وقد تكون هذه المقاربة المتأنّية ناتجة عن خشية السعوديّة من تأثير العملة الرقميّة على النظام المصرفي المحلّي، الذي سيتأثّر حكمًا في حال انتقل جزء كبير من المعاملات الماليّة من المصارف إلى سوق العملات الرقميّة. كما يخشى البنك المركزي من تأثيرهذه العملة على سيطرته على سوق النقد، وخصوصًا أنّ العملات الرقميّة تمتاز بسهولة التداول بها عبر الحدود، بخلاف التحويلات المصرفيّة التقليديّة.

وهنا، قد يكون الفارق بين التأنّي السعودي، مقابل الاندفاع والحماس الإماراتي، ناتجًا عن تأقلم الإمارات منذ زمن طويل مع فكرة السوق الحرّة والمفتوحة، في حين أنّ السعوديّة بدأت مؤخّرًا –وبخطوات متدرّجة- بالذهاب في هذا الاتجاه. لكن تمامًا كالإمارات، من الواضح أن السعوديّة تبدي رغبتها بدخول سوق العملات الرقميّة ولو بعد قليل من التأنّي، للاستفادة من فوائد هذه العملات في تجارتها الخارجيّة.

استعداد الدول الخليجيّة الأخرى

تتأخر الدول الخليجيّة الأخرى اليوم عن الإمارات والسعوديّة في مجال تجربة العملات الرقميّة، وإن كانت هذه الدول حريصة على دخول هذا السوق لاحقًا، كما يبدو من تحضيراتها.

فبنك قطر المركزي مازال حاليًا في مرحلة “استكشاف” آفاق العملات الرقميّة، ودراسة كيفيّة تطبيقها في المستقبل، من دون أن يدخل حتّى الآن في مرحلة تطوير وتجربة نماذج وآليّات دفع قائمة على أساس العملات الرقميّة. وكما هو واضح، سيكون على قطر الدخول في مراحل طويلة من تجربة أنظمة الدفع، كما فعلت الإمارات والسعوديّة من قبل، من أجل التمكّن من تطوير أنظمة تحويل إلكترونيّة، مربوطة بالمصرف المركزي.

في المقابل، بدأت البحرين في أواخر نيسان/أبريل 2023 بإجراء دراسات مبدئيّة، للبحث بإمكانيّة إطلاق “دينار بحريني رقمي”، ضمن خطّة أوسع لتطوير أنظمة الدفع الإلكترونيّة.

كما شكّل البنك المركزي الكويتي في بدايات نيسان/أبريل 2023 لجنة من خبراء النقد، لدراسة تجارب المصارف المركزيّة الأخرى في مجال العملات الرقميّة، والبحث في إمكانيّة إطلاق عملة رقميّة كويتيّة.

أمّا سلطنة عُمان، فبدأت منذ العام 2022 بتطوير نماذج ودراسات لعملة رقميّة خاصّة بها، مدفوعةً بالخوف من إقبال الشباب العُماني على العملات المشفّرة والبيتكوين، التي يعتبرها المصرف المركزي العُماني عملات عالية المخاطر.

بالنتيجة، من الأكيد أنّ جميع الدول الخليجيّة وضعت خططًا للاتجاه في المستقبل نحو التعامل بالعملات الرقميّة، في مسعى لتسهيل وتسريع العمليّات التجاريّة والماليّة وتقليل كلفتها.

ويبدو أيضًا أن الإمارات، ومن بعدها السعوديّة، ستكونان في طليعة الدول العربيّة التي ستطلق عملاتها الرقميّة الخاصّة، بينما ستنتظر سائرالدول الخليجيّة للاستفادة من تجربة الدولتين قبل إطلاق عملاتها الرقميّة الخاصّة.

أمّا تجربة الإمارات عند إطلاق العملة الرقميّة، فستكون جديرة بالدراسة والتحليل، وخصوصًا من جهة تأثير هذه العملة على العمليّات التجاريّة العابرة الحدود، بالنظر إلى حجم التجارة الدوليّة الضخم الذي تتمتّع به هذه الدولة.