في 14 يوليو 2015، توصل ممثلوا الدول الدائمة العضوية في مجلس أمن الأمم المتحدة– الصين، وفرنسا، وروسيا، والولايات المتحدة الأمريكية، والمملكة المتحدة، بالإضافة إلى ألمانيا (مجموعة 5+1)- إلى اتفاقٍ تاريخي مع إيران في فيينا- النمسا، للحدّ من الأنشطة النووية للجمهورية الإسلامية. استند الاتفاق النووي على مبدأ التنازلات المتبادلة، ففي مقابل موافقة إيران على عمليات تفتيشٍ تدخلية دولية ومراقبةٍ لمنشآتها النووية، وفرض قيودٍ على تخصيب اليورانيوم ومخزونها من الماء الثقيل، تحترم مجموعة (5+1) حق إيران في تخصيب اليورانيوم ورفع جميع العقوبات المتعلقة بالملف النووي.
وبحلول “يوم التنفيذ” لخطة العمل المشتركة الشاملة في 16 يناير، شرعت إيران في تنفيذ جميع التزاماتها، بدءاً من الحد من مخزونها من اليورانيوم المخصب بنسبة 98%، وتخفيض عدد أجهزة الطرد المركزي لتخصيب اليورانيوم إلى 6000، وتعديل مفاعل الماء الثقيل، وفرض تدابير مراقبة صارمة، وذلك من بين غيرها من الالتزامات التي تحققت من صحتها الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
ومع ذلك، فإن مستقبل هذه المقايضة في دائرة الخطر. فقد تهافت كبار رجال الأعمال الأجانب على إيران هذا العام، متلهفين لتوقيع صفقاتٍ سريعة بقيمة مليارات الدولارات بمجرد رفع العقوبات الدولية عن طهران. إلا أنّ الوعود التي أغرق بها الشعب الإيراني؛ النمو الاقتصادي الذي من شأنه أن يغير حياتهم، لم يتجسد بعد على أرض الواقع، كما لم تحصد إيران بعد المنافع المتوقعة، وخصوصاً أنّ العقوبات المالية والمصرفية في الولايات المتحدة الأمريكية حالت دون استعادة إيران لعائدات النفط المجمدة، التي تم الترويج لها بشكلٍ كبير، من البنوك في الخارج. ولتستعيد إيران هذه الأموال، الصادرة غالبيتها بالدولار الأمريكي، يتوجب على البنوك الأجنبية إجراء معاملات مقاصة الدولار لإيران، حيث تتردد هذه البنوك للقيام بذلك خوفاً من مخالفة قوانين الولايات المتحدة الأمريكية التي تحظر التعامل بالدولار مع شركاتٍ إيرانية. ووفقاً لوزير الخارجية الامريكية جون كيري، تمكنت إيران حتى الآن من استعادة 3 مليارات دولار فقط مما مجموعه 55 مليار إلى 100 مليار من الأموال المجمدة في الخارج.
ومما زاد الطين بلة، فقد أصدرت المحكمة العليا في الولايات المتحدة مؤخراً حكماً بتسليم ما يقارب قيمته 2 مليار دولار من الأصول الإيرانية المجمدة لصالح عائلات الضحايا الأمريكيين الذين قضوا في تفجيرات بيروت عام 1983. وفي ضوء ذلك، وصف الرئيس الإيراني المعتدل والعملي، حسن روحاني، القرار بأنه “استمرار للأعمال العدائية ضد إيران،” و”سرقة سافرة ووصمة عار على جبين القانون.”
ومن بين الخطوات الأمريكية الأخرى التي تنظر إليها إيران باعتبارها استفزازية، التغييرات على برنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول، الذي يمنع المواطنين من إيران والعراق والسودان وسوريا، فضلاً عن مواطني دول برنامج الإعفاء من تأشيرة الدخول الذين سافروا إلى هذه البلدان في غضون السنوات الخمس الماضية، من دخول الولايات المتحدة بدون تأشيرة، إذ تعتبر إيران هذه التدابير معوقاً لرجال الأعمال والسياح.
وفي خطابه الذي وجهه للعمّال في طهران في 25 أبريل، اتهم المرشد الأعلى، آية الله علي خامنئي، الولايات المتحدة بتقويض الاتفاق النووي مع إيران. وحسبما ذكرت رويترز عن خامنئي قوله “الولايات المتحدة تسمح للبنوك الأجنبية بالتعامل مع إيران على الورق فقط ولكنها فى الواقع تعمل على نشر “الإيرانوفوبيا” لتخويف جميع الجهات من التعامل مع طهران.” وأضاف “أميركا تعرقل وتخادع وتفتعل بلبلة، ثم تعاتب لأننا نشعر بريبة تجاهها.” وعلى الرغم من ذلك، لا يزال هناك سبب يدفع للأمل بالتغلب على العقبات التي تواجه الاتفاق، وأنّ إيران ستجني ثمارها التي تستحقها من التخفيف من العقوبات. فقد التقى وزير الخارجية الأمريكي، كيري، بوزير الخارجية الإيراني، ظريف، مرتين في أواخر أبريل لبحث إيجاد سُبلٍ لحل هذه المشاكل. وصرّح كيري للصحفيين قائلاً “الولايات المتحدة لا ولن تقف في طريق التعاملات المسموح بها مع إيران منذ أن بدأ سريان الاتفاق النووي.” وأضاف “أود التشديد على أننا رفعنا عقوباتنا المرتبطة بالنووي طبقاً لتعهداتنا، وثمة الآن فرص للمصارف الاجنبية للتعامل مع ايران. يبدو للأسف أن هناك قدراً من الغموض بين المصارف الاجنبية ونريد أن نوضح الأمر بقدر ما يمكننا.”
وفي الوقت نفسه، هناك قوى سياسية أمريكية قوية تسعى إلى مفاقمة العداء الأمريكي- الإيراني وإعادة البلدين مجدداً إلى مسار الحرب “الباردة.” ففي هذا السياق، تبذل جماعات المصلحة هذه ما بوسعها لتقويض الاتفاق السياسي التاريخي، وهي التي تمتلك نفوذاً قوياً على الكونغرس الأمريكي، الذي يسعى لفرض عشرات العقوبات الجديدة ضد إيران. وفي صراع اللحظات الأخيرة لجهود الجمهوريين تقويض الاتفاق النووي الإيراني وإفشال خطط الولايات المتحدة لشراء الماء الثقيل الإيراني؛ الذي سيساعد إيران في تلبية شروط الاتفاق، هددوا بعرقلة عملية اعتماد المشروع في مجلس الشيوخ الأمريكي. فقد عرض السيناتور الجمهوري توم كوتون من ولاية أركنساس تعديلاً على مشروع قانون الطاقة والمياه لتقييد عملية الشراء.
وعلاوة على ذلك، ففي يناير 2017، سيستلم رئيس أمريكي جديد منصبه، حيث من المتوقع أنّ جميع المرشحين الحاليين سيكونون أكثر قسوة على إيران من الرئيس الحالي باراك أوباما، وذلك وفقاً لمحللين أمريكيين. فعلى سبيل المثال، وصف دونالد ترامب، في خطابه عن السياسة الخارجية في 25 أبريل، الاتفاق مع إيران بـ”العار،” حيث قال “كحال العديد من أسوء إتفاقاتنا، هذا نتيجة عدم استعدادنا لترك طاولة المفاوضات.” وأضاف أن الولايات المتحدة “قدمت الكثير من التنازلات بمجرد الجلوس على طاولة المفاوضات… مع عدوٍ ملتزم بعداءه لأمريكا والراعي الأول في العالم للإرهاب، عندما كانت إيران تدعم بنشاط المجاهدين المناهضين للولايات المتحدة، وتدعو للموت لأمريكا، وتحتجز رهائن أمريكيين، وتهدد بإبادة إسرائيل، وتضطهد شعبها، وتطور الطاقة النووية والصواريخ الباليستية في انتهاك صريح للقانون الدولي.”
هل تغير المزاج الإيراني تجاه الغرب منذ توقيع الاتفاق النووي؟
ألمحت الإدارة الأمريكية أنّ الاتفاق النووي سيساعد الإيرانيين “المعتدلين” في الصراع على السُلطة مع المتشددين، إلا أن نتيجة الصراع الداخلي المُبهم على السُلطة في إيران أمرٌ لا يمكن التنبؤ به بالمطلق، وذلك وفقاً للمحللين. فالرئيس روحاني الوجه المبتسم للدولة الإيرانية، إلا أنّ آية الله علي خامنئي، المرشد الأعلى الإيراني، يبقى المحور الرئيسي العنيد للثورة الإسلامية في البلاد. ومع ذلك، فقد عززت الانتخابات البرلمانية الأخيرة موقف روحاني.
بالإضافة إلى ذلك، لا تزال ممارسات الحرس الثوري الإيراني، الذي يُسيطر على برنامج طهران النووي وقوة الصواريخ الباليستية، والتي تحدّت مراراً وتكراراً قوات البحرية الأميركية في الخليج الفارسي منذ التوصل إلى الاتفاق النووي، قائمة دون أي تغيير. فقد أطلقت سفن الحرس الثوري صواريخ على بعد 1500 ياردة عن حاملة الطائرات الأمريكية “هاري ترومان،” بالقرب من مضيق هرمز في أواخر ديسمبر الماضي. وفي يناير 2016، حلقت طائرات إيرانية دون طيار فوق سفن حربية أمريكية واحتجزوا بطريقة مهينة 10 بحارة أمريكيين ضلوا طريقهم داخل المياه الاقليمية الإيرانية.
ويرى النقاد الأمريكيون للاتفاق أنّ السبيل لتشجيع نشوء قيادة أكثر اعتدالاً في إيران لا يتمثل في إسترضاء الفصائل البراغماتية، بل بمعاقبة وإحباط مؤامرات المتشددين. ويقولون أيضاً أنّ المستفيدين الرئيسيين من الصفقات التجارية المتعددة الموقعة بين إيران والقوى الأجنبية منذ رفع العقوبات كانت المؤسسات الإيرانية العملاقة المملوكة للدولة، وليس الشركات الخاصة الصغيرة التي قد يكون لها مصلحة في الانفتاح الحقيقي على الغرب.