وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

رمضان 2023 في لبنان: ضيف على الكآبة والكرب

مع خسارة الليرة لأكثر من 98٪ من قيمتها، إلى جانب تآكل قيمة العملة، فإن شهر رمضان في لبنان 2023 أسوأ بكثير من العام الماضي.

رمضان 2023 في لبنان
أطفال لبنانيون يلعبون في زقاق في الجزء القديم من مدينة صيدا الساحلية جنوب لبنان ، جنوب بيروت خلال شهر رمضان المبارك. جوزيف عيد / وكالة الصحافة الفرنسية

دانا حوراني

في أحد محلات بيروت المزدحمة، وقفت حياة كنج، 53 عامًا، حائرة لا تدري ما الذي تقدر على شرائه. ولمّا ألقت نظرة على قسم الدواجن، وجدت كل شيء مسعّرًا بالدولار.

قالت كنج لفنك: “كان الوضع مختلفًا آخر مرة كنت هنا، إذ كانت الأسعار باللّيرة اللبّنانية. أما الآن، فما من شيء يمكنني شراؤه”.

يبدأ شهر رمضان الكريم في 32 مارس الجاري. ويواجه فيه اللبنانيون مصاعب جمّة، إضافة إلى عدم توفّرِ الأمن الغذائي نتيجة تفاقم الأزمة المالية التي بلغت عامها الرابع.

واعتمدت البلاد آلية تسعير جديدة للسلع كلها -لا سيما المستوردة منها- لتكون بالدولار، وذلك لتعزيز الشفافية وحماية المستهلكين من تقلبات سعر صرف الليرة اللبنانية يوميًا.

لكن التسعير بالدولار أثقل كاهل 90% من الشعب اللّبناني، ومن بينهم كنج التي تتقاضى راتبها باللّيرة ولا تستطيع الحصول على الدولار.

وقالت كنج: “اعتدنا التحضير لرمضان قبل قدومه بشهر، لكنني اليوم أعجز عن شراء نصف كميّة المكوّنات التي كنت استخدمها في تحضير الأطعمة في هذه المناسبة، واليوم بات هذا الأمر صعبًا بعد التسعير بالدولار الذي أدى إلى غلاء كل شيء”.

على أعتاب رمضان في لبنان

منذ بداية الأزمة عام 2019، فقدت الليرة اللبنانية أكثر من 98% من قيمتها، وسقط ثلاثة أرباع الشعب في هوة الفقر، كما تعذّر وصول الناس إلى ودائعهم المصرفية بسبب قواعد السحب الصارمة، وتدهورت قدرتهم الشرائية.

ورغم المصاعب التي تفاقمت في شهر رمضان الماضي، قال الخبراء والمراقبون إن التسعير بالدولار، إلى جانب تدهور الليرة، يمحو كل ما تبقى من شعور بالأمل والبهجة هذا العام.

فعلى سبيل المقارنة، كان سعر صرف الدولار في رمضان الماضي 27,000 ليرة تقريبًا، أما في رمضان هذا العام فقد ارتفع ليصل إلى 120,000 ليرة، الى حين كتابة هذا المقال.

وقالت المراقبة الاجتماعية وأحد ساكني مدينة صيدا، ماري خطار، لفنك إن الشعور بالألفة والاحتفال اختفى عن المدينة الساحلية في جنوب لبنان بعدما كان يعمّها خلال الشهر الفضيل.

وقد اشتُهرت المدينة باستضافة مختلف الأنشطة الترفيهية والروحانية والفنية خلال شهر رمضان، فقد تضمن جدول الأنشطة عام 2022 عروض سيرك وأمسيات حكي وسهرات موسيقية وموائد إفطار وسحور جماعية.

وقالت خطار إنه لا يبدو على المدينة أي علامة تدل على انشغالها بالأنشطة هذا العام.

وأضافت: “كانت صيدا في الماضي وجهة سكان بيروت لقضاء شهر رمضان بسبب أسعارها المقبولة وتنوع أنشطتها. لكنني أشك في أن يعود إليها العدد نفسه هذا العام لأن سعر كل شيء أصبح بالدولار ولا أرى أي زينة في الشوارع بعد”.

وبدل ذلك، تعطلت إضاءة الشوارع واكتظت بأكياس القمامة، وحتى قلعة صيدا البحرية التي بُنيت في القرن الثالث عشر، وهي أشهر معالم المدينة السياحية، لم تعد قابلة للزيارة بحسب قولها.

وقالت: “لقد جفت المياه التي تحتها تاركة رائحة الصرف الصحي الكريهة تتغلغل داخل الموقع التاريخي، وبقيت مخلفات الزيارات الأخيرة كما هي حتى الآن”. كما لم تعد البلدية تستطيع تحمل مسؤولياتها بسبب نقص التمويل، لتترك المدينة مجرد أطلال لما كانت عليه.

التكيف مع الواقع الجديد

ترى خطار أن أطباق اللّحوم وحلوى رمضان المشهورة كالقطائف والشعيبيات ستغيب عن موائد الإفطار في رمضان من هذا العام كما غابت العام الماضي.

وقالت: “أدخلت جميع العائلات تعديلات على طعامها، كلٌ حسب حالته. فعلى سبيل المثال، أصبحنا نستخدم لحمًا مفرومًا في طبخاتنا بدل قطع اللّحم البقري… لكن هناك عائلات لا تستطيع شراء طعام صحي، فضلًا عن اللّحوم”.

وترى خطار أن الأطباق النباتية وقوامها الفول والبقوليات ستغلب على موائد الإفطار هذا العام وأن هذا شكّل “صدمة لآبائنا والأجيال الكبيرة، فهم مجبرون على التأقلم في سن التقاعد مع الانهيار المالي بعدما كدّوا في عملهم لسنوات طويلة حتى يتفادوه”.

فحتى التمر الذي يُعدّ جزءًا لا يتجزأ من رمضان أصبح باهظ الثمن. وقالت خطار إن “نصف كيلو التمر الذي لا يكفي إلا بضعة أيام يساوي 400,000 ليرة، وهو ثمن لا نقدر عليه”.

كما شمل التغيير في أسلوب الحياة بسبب الأزمة المالية، استبدال المواصلات العامة بالمشي مسافات طويلة.

وقالت خطار بحسرة: “صرت أمشي أنا وكثير من جيراني إلى العمل لأننا لم نعد نتحمل تكلفة سيارة الأجرة، وسنمشي كذلك ونحن صائمون”.

وبينما تستمر بعض المنظمات غير الحكومية في تقديم المساعدات الغذائية، فقد تضررت هي الأخرى بسبب الأزمة الاقتصادية وتخفيض الميزانيات.

العمل الخيري في زمن الأزمة

قالت مديرة فودبلسد، مايا ترو، إن المستقبل القريب يبدو قاتمًا. فمن دون الأموال الكافية، ستعجز منظمتها غير الحكومية عن تقديم المساعدات الغذائية في رمضان وقد دأبت على تقديمها في الماضي.

وقالت ترو لفنك: “تشمل حملة هذا العام توفير مواد غذائية ووجبات ساخنة وموائد إفطار عامة. وهدفنا أن تستطيع كل العائلات في أنحاء البلاد الاستمتاع بهذا الشهر رغم الظروف الصعبة”.

وتستهدف المنظمة 3000 عائلة بإجمالي 13,500 مستفيد مباشر موزعين على مناطق لبنان الفقيرة كطرابلس والبقاع وبعلبك وبيروت.

ومع ذلك، قالت مايا ترو إن توقعات الوصول إلى التمويل الكافي قاتمة، فربما تعجز عن تقديم المساعدات بسبب هذه العقبات. وقد أطلقت حملة على موقع GoFundMe تستهدف 75,000 دولار وذلك لجلب ما أكبر قدر ممكن من المال.

ونجد نفس التخوفات عند بنك الطعام اللّبناني (LFB)، وهو منظمة غير حكومية مسؤولة عن توزيع المساعدات الغذائية في لبنان عن طريق شراكات مع منظمات مختلفة.

وقالت باتسي جاروجي، مديرة العمليات في بنك الطعام اللّبناني، لفنك: ” نقدّم منذ عام 2020 الوجبات الساخنة والإفطار الرمضاني في مختلف أرجاء لبنان عن طريق شراكتنا مع 130 منظمة غير حكومية”.

ومثلما حدث في السنوات السابقة، قالت جاروجي إنهم سيقيمون ستة مطابخ أهلية في أرجاء لبنان لتوزيع وجبات الإفطار التي تتكون من تمرتين ووجبة ساخنة وزجاجة مياه.

وأضافت: “في عام 2022، قدّمنا 46,200 وجبة في الشهر الكريم، وكانت هناك زيادة ملحوظة عن عام 2021 إذ قدّمنا 39,600 وجبة. لكننا نتوقع أن نقدّم 40,000 وجبة هذا العام بسبب المشكلات المالية التي طرأت”.

خيارات أقل

قالت جاروجي إن تحول المانحين الدوليين لمساعدة ضحايا حرب روسيا على أوكرانيا أدى إلى خسائر كبيرة في الميزانية.

وأضافت أن بعض المانحين فقدوا الثقة في المنظمات اللّبنانية غير الحكومية بعد سوء إدارة حزمة مساعدات بقيمة 318 مليون دولار أعقبت انفجار مرفأ بيروت ولم تصل إلى المتضررين كلهم.

وقالت جاروجي: “نسعى إلى القيام بكل ما نستطيع، لكن بعض المانحين يترددون في التواصل معنا، والبعض الآخر خفض قيمة تبرعاته”.

وبسبب ارتفاع أسعار اللحوم، يخطط بنك الطعام اللّبناني لتأمين وجبات لمدة 21 يومًا، أو خمسة أيام في الأسبوع، تتكون ثلاثة منها من اللّحوم وبقية الأيام ستكون وجبات نباتية.

وقالت جاروجي: “لا شك أننا سنأخذ القيمة الغذائية في اعتبارنا ونحن نعد الوجبات حتى نضمن وصول قيمة غذائية كافية لمن يأكلونها. لكننا قلقون على صحة الناس بشكل عام، إذ لم تعد المواد النباتية الأساسية كالأرز والعدس متوفرة”.

ويعاني مليونا شخص في لبنان، منهم 1.29 مليون مقيم في لبنان و700,000 لاجئ سوري انعدام الأمن الغذائي بحسب إحصاءات الأمم المتحدة. ومن المتوقع أن يزداد الوضع سوءًا خلال هذا العام.

وتتوقع جاروجي أن تختفي المواد الغذائية الأساسية من وجبات اللّبنانيين في المستقبل، إذ قالت: “أبلغنا العديد من الناس أنهم لم يتذوقوا اللحم منذ شهور، وأنهم توقفوا عن شراء السكر والخضراوات، ما قد يؤدي إلى نقص غذائي يضر بصحتهم”.

وقالت الناشطة الفلسطينية التي تعيش في مخيم مار إلياس للاجئين في بيروت، غادة ضاهر، لفنك إن الفلسطينيين مثلهم مثل اللبنانيين سيتخلون عن الخضراوات في إفطارهم في رمضان ومنها الفتوش، طبق السلطة المشهور في لبنان والمشهور على مائدة الإفطار.

وأضافت: “أتوقع أن تتقلص وجبة الإفطار إلى طبق رئيسٍ واحد”.

كما قالت إن بعض الناس وصلوا إلى مرحلة من اليأس تجعلهم يتمنون ألا يأتي رمضان لأن كلفته أعلى ممّا ينفقونه في الأشهر الأخرى . علاوة على ذلك، لا يدري من يعيلون أسرًا كبيرة ما يفعلون عندما سيصومون قرابة 14 ساعة ولا يجدون سوى قليل من الطعام على مائدة الإفطار.

وأشارت ضاهر إلى أن “البطالة ترتفع، والأجور تبقى على حالها أو تتراجع قيمتها ، تزامنًا مع التسعير بالدولار في أرجاء البلاد. وحتى من كانوا قادرين على العيش من قبل، صاروا فقراء ويزادون فقرًا”.

وقد ذكرت الأونروا في تقريرها لعام 2022 عن الفلسطينيين في لبنان أن 68% من العائلات الفلسطينية قلصت وجباتها في اليوم، و62% منها قللت كمية الطعام الذي تستهلكه، وأن 28% من البالغين يتغاضون عن بعض الوجبات حتى يستطيعوا إطعام أطفالهم.

ورغم أن الناس سيصومون لأن الصوم عبادة، تشك ضاهر أن تعمهم نفس الفرحة والبهجة التي ترافق الشهر كل عام.

الضربة القاضية

ترى ضاهر أن المجتمع الفلسطيني في لبنان يعاني ضربة أخرى حيث جرت العادة أن يكون شهر رمضان موسم العمل الخيري وتبرعات المانحين الدوليين لدعم هذا المجتمع. لكن هذا العام التفت المانحون إلى حدث مفاجئ.

وأوضحت قائلةً: “المانحون مشغولون بمساعدة ضحايا الزلزال في سوريا وتركيا، وهذا ما نتفهمه، لكنه يضر بالمجتمعات الفلسطينية التي لا تجد من يلتفت إليها”.

أما اللاجئون السوريون في لبنان البالغ عددهم 1.5 مليون، فتسعة من كل عشرة منهم يعيشون في فقر مدقع. وتعاني 49% من العائلات السورية اللاجئة انعدام الأمن الغذائي، وتعيش 60% منها في بيوت سيئة ومكتظة ومعرضة للخطر، بحسب المرصد الأورومتوسطي لحقوق الإنسان.

وقال الناشط السوري وخبير الإغاثة الإنسانية، حسين محمد الحسين: “لن تكون ظروف شهر الصيام مختلفًا عند اللاجئين السوريين، فقد اعتادوا تناول وجبة واحدة في اليوم لعدة شهور”.

وأضاف أن قدرة اللاجئين الشرائية انخفضت انخفاضًا حادًا لقلة المشاريع الجديدة في قطاعي الزراعة والبناء حيث يعمل السوريون في العادة.

وتابع: “صار نظام اللاجئين الغذائي نباتيًا بسبب شح اللحوم. لكن حتى هذا النظام لم يعد متاحًا. ثمة أزمة إنسانية معقدة تلوح في الأفق”.

وقال الحسين إن السوريين كانوا يتلقون المساعدات في الماضي، لا سيما في شهر رمضان. لكن الكثير منها توجه إلى اللّبنانيين الآن، فهُم في أمسّ الحاجة إلى المساعدة.

واختتم: “لن يزداد الوضع إلا سوءًا. ولا أتوقع إلا المزيد من الدعوات إلى المساعدات في الشهور القادمة”.