دانا حوراني
في مدينة خيرسون الأوكرانية الخاضعة لسيطرة الجيش الروسي، عَلِق جورج فاضل، طالب البحرية اللبناني، وخمسة من زملائه عدة أيام. وبعد فشل عدة محاولات للاتصال بعدد من المسؤولين اللبنانيين، لجأ الطالب، البالغ من العمر 20 عامًا، هو وزملاؤه إلى الجيش الروسي طالبًا المساعدة بعد أن بدأ مخزون طعامهم ينفد.
وقال فاضل في حديثه إلى فنك: “إلتقيت بجنرال روسي وزودني هذا الأخير بوسيلة للتواصل معه. ثم اتصل بي لاحقًا ليُخبرني بقيام رحلة على متن قطار عسكري روسي. ولكن عقب فشل اتفاقيات وقف إطلاق النار، حذرنا من عاقبة الإقدام على ذلك. بعدها غامر ثلاثة طلاب ووصلوا بالفعل إلى وجهتهم آمنين”.
وذكر فاضل أيضًا أن كثيرًا من اللبنانيين المقيمين في أوكرانيا، ويُقدر عددهم بنحو 4500 شخص، قد فرّوا بعد اندلاع الحرب دون مساعدة الحكومة اللبنانية. وبينما أرسلت السفارات الأخرى حافلات لمساعدة مواطنيها، عجزت السفارة اللبنانية في أوكرانيا عن تأمين أي وسيلة نقل إلى الحدود، كما أن عدد موظفي الخط الساخن للاستعلامات لا يُلبي احتياجات اللبنانين العالقين.
وفي ظل هذا العجز الحكومي، أصبح ضروريًّا على اللبنانين الذين تقطعت بهم السبل في أوكرانيا أن يجدوا حلولًا بأنفسهم. وكأن أولئك الذين تركوا بيروت إلى كييف بحثًا عن حياة أفضل قد ارتحلوا من أزمة إلى أزمة أخرى، أمّا أهل لبنان نفسه فقد أقبلت الأزمة عليهم من جديد.
إذ يرى محللون أن اقتصاد البلاد المنهك سيعاني تداعيات الحرب التي ألقت بظلالها على واردات القمح والنفط تحديدًا.
فقد خسرت الليرة اللبنانية أكثر من 90% من قيمتها منذ عام 2019، وهو أحد أسوأ الانهيارات الاقتصادية في العالم منذ خمسينيات القرن التاسع عشر. ووفقًا لبعض التقديرات، فقد سقطت نحو 4 مليون أسرة تحت خط الفقر خلال العامين الماضيين، كما ارتفعت أسعار السلع الأساسية ارتفاعًا ضخمًا، علمًا بأن لبنان يستورد 80% منها.
ففي 11 مارس الماضي، ارتفع سعر الخبز بنحو 500 ليرة لبنانية بسبب نقص دعم السكر والخميرة. ورغم استمرار دعم القمح، يبقى مخزون البلاد منه قليلًا يدعو للقلق.
ويُذكر أن أوكرانيا وروسيا يمثلان معًا نحو 90% من واردات لبنان من القمح وزيت الطهو، بالإضافة إلى جزء كبير من واردات البلاد من الحبوب. وقلّصت العقوبات الاقتصادية حجم الواردات الروسية، وأصبحت موانئ التصدير الجنوبية في أوكرانيا ضمن ساحات القتال. وقد أعلن أمين سلام، وزير الاقتصاد والتجارة اللبناني، أن احتياطيات البلاد من القمح تكفي لمدة شهر واحد فقط.
وزد على ذلك أن ارتفاع أسعار النفط العالمية أدى إلى زيادة الأسعار الرسمية بنحو 33% في غضون أسبوعين. وقال مايك عازار، -المستشار المالي- إن لبنان قد يعاني كثيرًا بسبب هذه الأزمة نظرًا إلى نقص الاستعداد لمواجهة مثل هذه التحديات.
وقال عازار لفنك: “الناس يعتمدون اعتمادًا كبيرًا على مولدات الكهرباء، ويعاني معظمهم نقمة تضخم الفواتير الشهرية الباهظة التي ترتفع باستمرار. ولك أن تتخيل ما سيحدث في حال تفاقم ذلك الوضع. وقد استنفد الناس حلولهم والحكومة لم تتدخل بعد”.
أزمة النفط
وقد عادت مرة أخرى الطوابير لتصطف أمام محطات الوقود لساعات طويلة. وقد ظهرت أول مرة في أغسطس الماضي.
كانت نجاح طرابلسي في طريقها إلى العمل حين سمعت الخبر، فبدأت على الفور تبحث عن أقرب محطة وقود.
وقالت لفنك: “استيقظنا لنجد الطوابير الطويلة قد عادت مرة أخرى. ولا ندري ما إذا كانت الأزمة حقيقية أم لا! لذلك اضطُررت الانتظار أربع ساعات خشية أن تغلق محطات الوقود”.
أمّا أختها، فلم تجد محطة وقود تعمل حينئذ، لذلك قررت طرابلسي تقليل استخدامها للسيارة حفاظاً على الوقود.
وبحسب عازار، فإن العديد من محطات البنزين تخزن الوقود للاستفادة من الزيادة المتوقعة في الأسعار الرسمية. وبيّن عازار أن وضع لبنان يختلف عن كثير من الدول الأخرى التي توفر وسائل النقل العام وتدعم الكهرباء لمساعدة المواطنين. أمّا في لبنان فيُترك الناس وشأنهم.
وأضاف عازار أن “مالك العقار فرض عليّ رسومًا استثنائية مؤقتة بنسبة 30% من إيجاري حتى تنخفض أسعار الديزل. وتعرّض عدد من أصدقائي لموقف مماثل وقيل لهم أن فاتورة الكهرباء سترتفع بنحو 40%”.
ووفقًا لعازار، قد تصل الإيجارات إلى مليوني ليرة لبنانية، إلا أنها ما تزال أعلى بكثير من الحد الأدنى للأجور البالغ 675 ألف ليرة لبنانية.
أمّا حياة، فهي امرأة عاطلة من العمل تبلغ من العمر 65 عامًا ،تعيش بمفردها، وقد بدأت تفكر في التخلي عن المولد الكهربائي بسبب ارتفاع تكلفة الكهرباء الحكومية، والاعتماد فقط على الخدمة الحكومية التي تدوم لبضع ساعات فقط في اليوم.
وقالت حياة لفنك: “تقدم لي عائلتي بعض المساعدات المادية، وأُضطر إلى إعطاء الأولوية للطعام والدواء. فماذا عساي أن أفعل سوى استخدام الكهرباء لتشغيل الغسالة؟ “.
وأشار عازار إلى أن سعر الخبز قد بدأ يرتفع بالفعل، لكن سوء إدارة الحكومة لاحتياطيات البلاد من القمح قد يؤدي إلى تفاقم الوضع.
تحدي القمح
تحاول الحكومة السيطرة على الوضع من أجل تأمين مخزون من القمح في حالة الطوارئ، ويبحث وزير الاقتصاد والتجارة حاليًا كل الخيارات الدولية المتاحة. فقد أمسى تخزين القمح صعبًا منذ انفجار مرفأ بيروت، إذ دُمرت كليًّا الصوامع التي تحتوي مخزون البلاد من الحبوب لمدة تصل إلى خمسة أشهر.
تبحث البلاد حاليًا عن مانحين لتوفير القمح، وتجري الآن محادثات مع الولايات المتحدة وذلك لتوفير شحنات قمح بقيمة 20 مليون دولار. وبحسب الوزير، فإن تلك الواردات ستبقى في دول المصدر مؤقتًا حتى تعثر الحكومة على منشآت جديدة للتخزين.
لكن عازار يرى في خطاب الوزير الخاص بهذه القضية في وسائل الإعلام مشكلة يدّعي أنها “تزيد الطين بلة”.
فبحسب رأيه “إذا خرجت على شاشة التلفاز محذرًا الناس من احتمال نفاد إمدادات القمح، فلا تتوقع شيئًا سوى الهلع والذعر، وبالتالي سيذهب الناس لشراء الخبز لتقع الأزمة قبل أوانها”.
وبالفعل، أسرع الناس إلى المتاجر الكبرى بعد تصريحات الوزير لشراء المواد الغذائية الأساسية مثل السكر والخبز والمعكرونة. ورغم أن هذه السلع متوفرة بكميات طبيعية، يخشى الناس أن يعمد التجار إلى تخزينها ثم عرضها للبيع مع ارتفاع الأسعار فيما بعد.
وجاء رد وزارة الاقتصاد والتجارة بالإعلان عن تدابير وقائية مثل عمليات التفتيش على أصحاب المحال التجارية للتأكد من بيع السلع المخزّنة بالأسعار العادية.
ويرى الخبير المالي أن دعم الحكومة للقمح يضع ضغوطًا على البنك المركزي لتوفير المزيد من الدولارات لمستوردي القمح.
علاوة على ذلك، فإن سعر صرف الدولار مقابل الليرة اللبنانية قد ازداد منذ عام 2019، وارتفع من 20 ألف ليرة إلى 23 ألف ليرة في يوم واحد. وبحسب عازار، يرجع ذلك إلى خوف الناس من بيع دولاراتهم تحسبًا لارتفاع الأسعار، فضلًا عن حاجة التجار إلى مزيد من الدولارات لتمويل الواردات.
وأضاف عازار: “يجب على البنك المركزي ضخ المزيد من الدولارات في السوق تلبيةً للطلب المتزايد حتى يستقر سعر الصرف، وإلا فسيستمر سعر الصرف في الارتفاع، وهو ما يعني انخفاض استهلاك الناس للديزل، أو ربما يحدث مزيج من كل هذه التداعيات”.