علي نورالدين
منذ بداية العام، بات من الواضح أنّ السودان في طريقه إلى إحدى أسوأ الأزمات الإنسانيّة التي يشهدها العالم في الوقت الراهن. فبرنامج الأغذية العالمي التابع للأمم المتحدة، حذّر منذ بداية هذا العام من معاناة ثلث سكّان البلاد من “انعدام حاد في الأمن الغذائي”. وانعدام الأمن الغذائي بالنسبة إلى هذه الفئة من السكّان، يعني من الناحية العمليّة وضع هذه الشرائح الاجتماعيّة على حافّة المجاعة، وهو ما يؤدّي في العادة إلى تفاقم الاضطرابات الاجتماعيّة والأمنيّة بشكل تلقائي.
ومنذ بداية العام أيضًا، بادر عدد كبير من الاقتصاديين إلى التحذير من تزايد معدلات الفقر، التي تجاوزت في شهر كانون الثاني الماضي حدود 80%، بعد تنامي نسب البطالة وتراجع معدلات الانتاج وانخفاض قيمة الأجور نتيجة تراجع سعر صرف العملة المحليّة، بالإضافة إلى تزايد معدلات التضخّم إلى مستويات خياليّة. وحين نتحدّث عن تنامي الفقر، بأبعاده المتعددة، فالمقصود هنا يتجاوز حدود الافتقار إلى الموارد الماليّة المستدامة، ليطال الجوع وانحسار الولوج إلى الخدمات التعليميّة والصحيّة، وصولًا إلى تراجع نوعيّة شبكات الحماية الاجتماعيّة المتوفّرة.
أثر الأزمة على النساء والأطفال
إلا أنّ أخطر ما في الأزمة الإنسانيّة التي تتعرّض لها السودان بات يتعلّق اليوم بالفئات الأكثر هشاشة، وخصوصًا النساء والأطفال. فبحسب أرقام اليونيسف، سيحتاج ما يقارب ال14.3 مليون شخص في جميع أنحاء السودان إلى مساعدات إنسانيّة عاجلة، منهم نحو 8.2 مليون شخص من النساء والفتيات. كما قدّرت الوكالة معاناة ثلاثة ملايين طفل دون سن الخامسة من سوء التغذية الحاد، منهم 650 ألف طفل يعانون من سوء التغذية الحاد الشديد (أي أقصى درجات سوء التغذية، التي تهدد حياة الإنسان في بعض المراحل). أمّا أخطر ما تكشفه الأرقام المتوفّرة لدى اليونيسف، فهو وفاة 78 ألف طفل كلّ عام لأسباب صحيّة يمكن الوقاية منها، في حال توفّر شبكات الحماية الصحيّة.
بالإضافة إلى كل هذا، تكشف معطيات المنظمات الحقوقيّة التي نشرتها اليونيسف أنّ الفقر المدقع بات أحد أسباب ارتفاع نسب عمالة الأطفال، التي تجاوزت حدود ال25%، ما يعني انخراط نحو ربع أطفال السودان في سوق العمل بدل تلقّي العلم في عمر مبكر. مع الإشارة إلى أنّ هذه النسب ترتفع إلى حدود ال49.4%، أي النصف تقريبًا، في بعض الولايات كدارفور الشرقيّة، ما يشير إلى فداحة الأزمة. أما بالنسبة إلى المخاطر التي يسببها الفقر والحرمان للنساء تحديدًا، فالأرقام تشير أيضًا إلى تفشّي ظاهرة زواج القاصرات في السودان، كنتيجة لانعدام فرص التعليم والعمل والانخراط في الاقتصاد المحلّي، إذ ترتفع نسبة الفتيات اللّواتي يتم تزويجهن قبل بلوغ سن ال18 إلى نحو 38%، فيما ترتفع نسبة الفتيات اللّواتي يتم تزويجهن قبل سن ال15 سنة إلى نحو 12%.
مع الإشارة إلى أنّ الإحصاءات نفسها تدل إلى وجود أكثر من 2.2 مليون شخص من الذين تم تهجيرهم داخل البلاد، نتيجة الفقر وانعدام فرص العمل وارتفاع نسب البطالة، وهو ما أدّى إلى فصل نسبة كبيرة من الأطفال عن عائلاتهم الأصليّة، وإجبارهم على العمل في أسواق بعيدة عن أهاليهم، تحت وطأة ظروف قاسية ومجحفة. ولهذا السبب بالتحديد، عانى نحو 64% من أطفال السودان من أشكال مختلفة من العنف وسوء المعاملة، بما فيها الإكراه على الانخراط في النزاعات المسلّحة. مع العلم أن نسبة الأطفال الذين يعيشون حاليًّا مع عائلاتهم الأصليّة تنحسر بنحو 82% فقط، ما يعني أن 18% من أطفال السودان يعيشون خارج الإطار العائلي التقليدي. وفوق كل هذه الظروف المأساويّة، تبرز إشكاليّة عدم تسجيل أكثر من ثلث أطفال السودان ضمن سجلّات الدولة الرسميّة، نتيجة الفوضى والفقر، وهو ما سيصعّب في المستقبل مهمّة تسجيلهم في المدارس، أو التحقق من بلوغ الفتيات منهم العمر القانوني للزواج.
أثر برنامج صندوق النقد وشروطه الموجعة
منذ أن دخل السودان برنامج صندوق النقد الدولي عام 2021، فُرض على البلاد مجموعة من الاصلاحات القاسية على المستوى المجتمعي، وفي طليعتها تحرير الأسواق ورفع الدعم وتعويم سعر صرف الجينيه السوداني. مع الإشارة إلى أنّ اتجاه السودان نحو برنامج الصندوق جاء في ذلك مدفوعًا بسعي الحكومة لإعادة هيكلة ديونها، وتخفيضها إلى مستويات مستدامة، وتخفيض كلفة خدمة هذه الديون على الميزانيّة العامّة. كما رغبت الحكومة من خلال هذا البرنامج بالعودة إلى أسواق المال الدوليّة، واستقطاب المزيد من الدعم الخارجي، المدفوع بالثقة التي تعطيها في العادة برامج صندوق النقد الصارمة.
إلا أنّ هذه الشروط القاسية المرتبطة ببرنامج الصندوق، نتج عنها إجراءات مؤلمة بحق الفئات المحدودة الدخل، ومنها على سبيل المثال الارتفاع الكبير في أسعار الوقود بعد رفع الدعم عنه، ومن ثم زيادة تعرفة الكهرباء كنتيجة لارتفاع أسعار المحروقات، والانخفاض السريع في سعر صرف العملة المحليّة بعد تعويمها. كما شملت الإجراءات المطلوبة من السودان مجموعة من التصحيحات الضريبيّة الموجعة اجتماعيًّا، من قبيل تعديل سعر الصرف المعتمد لاحتساب الرسوم الجمركيّة، وفرض رسوم ضريبيّة جديدة، بالإضافة إلى انسحاب الدولة من بعض الأنشطة الاقتصاديّة التي كانت تقوم بها.
وبمجرّد تعويم الجينيه السوداني، قفز سعر صرف الدولار في السوق السودانيّة إلى نحو سبعة أضعاف المستوى السابق قبل التعويم دفعة واحدة، ما أجّج نتيجة لهذا الواقع موجة من الارتفاعات المتتالية في أسعار السوق. ومع اعتماد الأجور محليًّا على العملة المحليّة، أدّى هذا التطوّر إلى انخفاض سريع ومتواصل منذ ذلك في قيمة الأجور الشرائيّة، وهو ما انعكس لاحقًا في الارتفاع الذي نشهده في معدلات الفقر المدقع وسوء التغذية. مع العلم أن الناتج المحلّي السوداني انخفض من نحو 108 مليارات دولار في شباط/فبراير 2021، إلى نحو 13 مليار دولار فقط اليوم، كنتيجة للانهيار السريع في سعر الصرف، وموجة إقفال المؤسسات والشركات الخاصّة بعد الاضطرابات الاقتصاديّة الأخيرة. وكنتيجة لهذا الواقع، تراجع متوسّط دخل الفرد في العام إلى 314 دولار فقط حاليًّا، بعد أن تجاوز حدود ال2500 دولار في السابق.
وهكذا، أدت الشروط التي تم التفاهم عليها مع صندوق النقد إلى ارتطام مالي ونقدي سريعين، وهو ما أثّر على الفئات المحدودة الدخل. لكن الارتطام الأقسى حصل لاحقًا، في تشرين الأوّل/أكتوبر من العام الماضي، حين نفّذ الجيش السوداني انقلابًا عسكريًّا اعتقل خلاله كبار المسؤولين في البلاد، ووضع يده بعدها على السلطة بشكل رسمي. ومنذ ذلك الوقت، بدأت المساعدات الدوليّة بالإنحسار، وعادت الدولة السودانيّة لتشهد العزلة العالميّة على المستوى المالي. وبذلك، وبعد أن تورّطت السودان في البداية بمشروع صندوق النقد، أملًا بالانفتاح على المجتمع الدولي وأسواق المال، وبعد أن تكبّدت كلفة هذا الأمر على شكل شروط قاسية اجتماعيًّا، عادت البلاد إلى وضعيّة الانفصال عن الاقتصاد العالمي.
ومنذ حصول الانقلاب، بدأت الأسر السودانيّة تعاني نتيجة توقّف المساعدات، فيما اضطرّت الحكومة السودانيّة إلى إيقاف آخر أشكال الدعم التي استندت على التمويل الخارجي. وبذلك، تفاقمت معدلات التضخم بشكل إضافي، وهو ما فاقم من معدلات الفقر وزاد من أزمة سوء التغذية، إلى أن بدأت المنظمات الدولية تقرع ناقوس الخطر خلال الفترة الماضية. مع العلم أن حالة الحرب في أوكرانيا، وارتفاع أسعار المواد الأساسيّة على مستوى العالم بأسره، فاقم من أثر الأزمة في السودان، نتيجة ارتفاع كلفة الاستيراد، ما عنى ارتفاع كلفة هذه المواد بشكل إضافي في السوق المحلّي.
تداعيات أخرى
وكما جرت العادة في الأزمات الاقتصاديّة، تداعت المشاكل في كل قطاع على حدة، نتيجة الاضطرابات النقديّة والماليّة التي نتجت عن الأزمة. ومن هذه التداعيات على سبيل المثال، أزمة انقطاع الدواء، التي بدأت بمجرّد تعويم الجينيه السوداني، ومن ثم حصول الارتفاع السريع في أسعار الدواء في الصيدليات. وللسبب نفسه، عادت خلال مراحل عديدة طوابيرلتظهر أمام المحطات والأفران، كما بدأت قطاعات زراعيّة مختلفة بالضمور، وهو ما زاد من اعتماد البلاد على الاستيراد لتأمين حاجات السكان الغذائيّة. وهكذا، باتت السودان اليوم تستورد ما يقارب ال90% من حاجتها للحبوب، بالرغم من امتلاكها لمساحات زراعيّة شاسعة تكفي لجعلها خزّانًا غذائيًّا على المستوى العالمي.
باختصار، تشبه السودان حالة الكثير من دول المنطقة، حين تتقاطع عوامل سوء الإدارة العامّة، مع الاضطرابات السياسيّة والتأثيرات الخارجيّة، بالإضافة إلى عوامل الهشاشة الداخليّة التاريخيّة وتراكماتها. وفي خلاصة الأمر، تكون النتيجة اختلالات اقتصاديّة بنيويّة قاسية، وشروط أجنبيّة مؤلمة كتلك التي يفرضها على السودان اليوم صندوق النقد، وهو ما يُترك أثره على شكل ارتفاع في معدلات الفقر والحرمان. فالمشكلة الأساسيّة اليوم، تكمن في استمرار الاضطرابات السياسيّة حتّى اللحظة ، وهو ما يحول دون استعادة الدولة لدورها في حماية الفئات الأكثر هشاشة، ناهيك عن استعادة قدرتها على لعب دور في دعم القطاعات الإنتاجيّة.