دانا حوراني
وافت المنيّة الشيخ يوسف القرضاوي المصّري المقيم في قطر، والمرشد الروحي لجماعة الإخوان المسلمين يوم 26 سبتمبر الماضي عن عمر ناهز 96 عامًا.
وكانت اجتهادات القرضاوي الدينية من أهم أسباب صعود فكر الإخوان المسلمين ونفوذهم السياسي. وقد خلّف الداعية إرثًا مثيرًا للجدل يتجاوز 100 كتاب، وأربك الجماهير العربية على مدار حياته.
فقد أشاد بعضهم بمنهجه “المعتدل“، واتهمه البعض الآخر بإذكاء الفتن الطائفية ودعم التطرف في المنطقة. ووصفه المسؤول السابق في مكافحة الإرهاب في مكتب التحقيقات الفيدرالي، ماثيو ليفيت، بأنّه “أحد أكثر الشّخصيات العامة بروزًا في الجناح المتطرف لجماعة الإخوان المسلمين” بحسب موقع قناة العربية.
وقد انضم القرضاوي إلى الإخوان المسلمين في سن مبكرة. ورغم أنه يكنّ احترمًا وتوقيرًا لمؤسسها حسن البنا، فإنّه رفض قيادتها حتى يكرس عمله للدعوة والعلم ويتجاوز بدعوته الجماعة.
ويرى أستاذ علم الاجتماع في جامعة القاهرة سعيد صادق أن القرضاوي استطاع أن يجمع حوله كثيرًا من خارج الإخوان المسلمين. وذلك ليس بفضل دعوته الدينية فحسب، بل لتناوله مواضيع ينأى بقية الدعاة بنفسهم عنها.
وقال صادق لفنك: “كان القرضاوي يعلّق على القضايا السياسية دون مواربة، على عكس ‘الوعَّاظ’ الذين يركزون على الحياة اليومية فقط. ولم يكن محسوبًا على أي سلطة، لكنه نال حماية أمير قطر تميم بن حمد آل ثاني”.
ومنح البرنامج الأسبوعي “الشّريعة والحياة” الذي كان يظهر فيه القرضاوي منذ عام 1996 على قناة الجزيرة الشيخ قاعدة جماهيرية عريضة. فضلًا عن موقعه الإلكتروني وموقع إسلام أون لاين اللذيْن قدّم فيهما نصائحه وفتاويه للمتدينين والمسلمين الجدد على حد سواء.
لكن أشار خبراء إلى أن الإسلاميين في العالم العربي قد بالغوا في تقدير شعبيته وتأثيره، وأن موته يطوي صفحة الإسلام السّياسي في المنطقة.
المسيرة والنفوذ
وُلد القرضاوي عام 1926 في قرية من قرى دلتا مصر إبان الاستعمار البريطاني. ثم درس في جامعة الأزهر في القاهرة، محافظًا على صلته الوثيقة بجماعة الأخوان المسلمين.
وقد غذّت الجماعة أفكاره وشكّلت رؤيته للإسلام باعتباره فقهًا يشمل جميع جوانب الحياة الفردية والاجتماعية والسياسية. وأدت علاقته بها إلى اعتقاله في الأربعينيات والخمسينيات، حيث تعرّض للتعذيب بحسب موقع الجزيرة.
وبعد إطلاق سراحه، ألّف كتابات إسلامية عدة أنكرت العنف غير المشروع وانتقدت السلوك المتطرف. كما أدان هجمات 11 سبتمبر التي شنّها تنظيم القاعدة، فذاع صيته داعيةً وسطيًا.
وساهمت لغته العادية وكتاباته البسيطة الموجزة في نمو شعبيته، لا سيما من قبل الجماهير الغربية والمسلمين الجدد. فقد كتبت إيفون ريدلي في نعيه في ميدل إيست مونيتور: “لقد كان مدركًا التحديات الفريدة التي تواجه المسلمين بتنوع أعراقهم في الغرب، على عكس بعض كبار العلماء المسلمين اليوم. ومنحنا نحن المبتدئون بحكمته ومعرفته الشجاعة حتى نواجه الانتقادات وندافع عن الإسلام”.
كما نمت شهرته إبان ثورات الرّبيع العربي عام 2011 التي دعمها بكل قوة حتى إنه سافر إلى مصر وخطب في المتظاهرين في ميدان التحرير. وقد أثار ذلك عاصفة من المخاوف عن طموحاته وتطلّعات الإخوان المسلمين السياسية بحسب سعيد صادق.
وقال صادق: “حسبنا أننا أمام سيناريو جديد للخميني، إذ يحتكر شخص أو جماعة السلطة ويقود البلاد حتى تصبح دولة إسلامية”.
لكن لم يُعمر حكم الإخوان المسلمين طويلًا. فبعد صعودهم إلى السّلطة عام 2012 بعد تنحية حسنى مبارك المستبد، قوبلوا بانقلابٍ عسكريّ عام 2013، جاء بالرئيس الحالي عبد الفتاح السيسي إلى سدة الحكم.
التطرف والمعاصرة
قال القرضاوي عام 2014 بعد تولي السيسي الرئاسة: “مهمة الأمة أن تقاوم المستبدين وكبح أيديهم وإسكات ألسنتهم”.
وما لبث أن حكمت محكمة مصرية عليه غيابيًا بالإعدام عام 2015. لكن انتقاداته لم تتوقف عند حدود بلده، فقد ندد بحكومتي الإمارات والسعودية، وزادت تصريحاته التوترات بين البلدين وقطر.
وأشار صادق إلى تحريض القرضاوي على العنف داخل مصر وضد جيشها الذي اعتبره من “الخوارج” الذين مرقوا عن أهل السنة في القرن السابع الميلادي، ما أفقده الدعم والشرعية في الداخل. كما تغافلت مؤسسة الأزهر العريقة بالقاهرة وشيخها الشيخ أحمد الطيب عن التعزية بوفاته لأسباب غير معلنة.
كما أشار الكاتب المصري كريم الجمَّال إلى أن المصريين من خارج الإخوان المسلمين والدوائر الإسلامية فقدوا اهتمامهم بالقرضاوي منذ عام 2010.
وقال الجمَّال لفنك: “لم يعد المواطنون العاديون يأخذون فتاويه بعين الاعتبار. فبعد عام 2010، أصبح الشيخ رجلًا مختلفًا بحيثُ أظهر تأثيرًا سياسيًّا غير مستقر لا سيما قبل الصّراع السّوري وبعده”.
وذكر موقع جريدة الوطن المصرية أن القرضاوي كان يقف في صف الرئيس السوري بشار الأسد ونظامه. كما كان معجبًا بحزب الله الشّيعي اللّبناني خلال العدوان الإسرائيلي على لبنان عام 2006. لكن موقفه منهما تغير بعد اندلاع الصّراع في سوريا.
ففي مؤتمر نصرة سوريا، دعا القرضاوي إلى الجهاد فيها ضد نظام الأسد، ووصف حزب الله بأنّه حزب الشّيطان، واعتبر الحركة الشّيعية اللّبنانية عميلة لإيران ومتآمرة معها “لإجراء مذابح متواصلة في حق السنّة”.
وقال الجمَّال: “لا يمكن أن يأخذ المجتمع المصّري تلك التصريحات السياسية بهذه القوة بعد أن صدرت في خطبة الجمعة بصورة عفوية على محمل الجد. وهذه واحدة من أعراض إشكالية خلط الدين بالسياسة في منطقتنا”.
هل هي نهاية الإسلام السياسي؟
أضاف الجمَّال أن ما ينتج عن خلط تعاليم دينية ثابتة جاءت من نصوصٍ قديمةٍ مع عالم السياسة المضطرب هو أبعد ما يكون عن النفع.
وقال: “من المهم أن نجدد التعاليم الدينية لتتلاءم مع تطورات المجتمع. فإذا نظرنا إلى الخلفاء، وجدنا أن لكل منهم طريقة حكم مختلفة وأنهم طرحوا مفاهيم جديدة. أما أن يكون عندنا حكم ديني يستخدم الدين للحفاظ على المصالح السياسية، فهذا احتيال”.
واعتبر الجمَّال أن هذا ما فعله القرضاوي لخدمة فكر الإخوان المسلمين، وهذا ما قضى على مصداقيته وجعله يبدو كأنه أداة للدعاية السّياسية.
ويضيف صادق أن رؤية القرضاوي “لمصر الجديدة” التي يحكمها الإسلاميون تعثرت عام 2013، ونتج عن هذا التعثر بداية سقوط الإسلام السياسي في دول عربية أخرى.
وقال: “شهدنا في العقد الماضي تراجع في سلطة الإسلاميين بعد الإطاحة بالرئيس المصّري محمد مرسي، وصعود الرئيس التونسي قيس سعيِّد. كما خسر الإسلاميون الانتخابات في المغرب. واليوم نرى احتجاجات ضد الحكم الديني في إيران”.
فقد نزلت الإيرانيات في شوارع إيران للاحتجاج ضد الحجاب الإلزامي بعد مقتل الشابة مهسا أميني البالغة من العمر 22 عامًا على أيدي شرطة الأخلاق.
وأضاف صادق: “حتى لو تمكَّن النّظام الإيراني من قمع الاحتجاجات، فإنَّ فكرة الإسلام السياسي تعرضت لضربة قاتلة لا يمكن إصلاحها. “.
أما القرضاوي المثير للجدل، فقد رافقته أوصاف من قبيل “مفتي الإرهاب” و”مفتي الناتو” و”الإسلامي المعتدل” طوال حياته الممتدة 96 عامًا بين النقد والافتتان.
واختتم الجمَّال قائلًا: “لا بد من فحص إنتاجه ودراسته بعناية. فلا ينبغي تبني كلّ شيء ولا تركه كله. فإرثه ككل شيء في الحياة، مركب ومعقد ولا يمكن اختصاره في بضعة أسطرٍ”.