حسين علي الزعبي
يُخيم الحزن على حياة ملك طه من سكان محافظة درعا جنوبي سوريا، وهي ترى توأمها خالد وخلدون البالغين من العمر ستة أعوام، وهما يكبران أمام أعينها، ولا تستطيع فعل شيء يضمن لهما حقوقهما في حيازة أوراق تثبت نسبهم أو تمنحهم حقي التعلًم والملكية. ملك لم تتمكن من تسجيل ابنيها ضمن السجلات الرسمية التابعة للحكومة السورية، وهو ما دفعها لإن تخشى عليهما من لقب “مجهول النسب”.
ملك، أنجبت طفليها اللذين لا يزالان دون وثائق تثبت نسبهم، بعد زواجها من وليد أحد عناصر الجيش الحر المنشقين عن قوات الأمن السوري، عام 2016. واختفى وليد بعد سيطرة النظام على محافظة درعا عام 2018، وتحديدا أثناء ذهابه للعاصمة دمشق لتسوية أوضاعه للعودة لوظيفته.
تقول ملك التي تتشارك القصة ذاتها مع نسوة أخريات في ريف درعا إن ما فاقم مشكلتها هو عدم امتلاكها لوثائق تعريف رسمية (هوية وطنية) لزوجها الذي لم يستطع تسجيل زواجهما في السجل المدني خلال سنوات الحرب وتشتت العائلات بين مناطق سيطرة مختلف الأطراف المتصارعة في سوريا.
أعداد الأطفال “المجهولي النسب” و”المكتومي القيد” غير الحاصلين على أوراق رسمية تثبت نسبهم ارتفعت لعدم تثبيت عمليات الزواج والولادات لدى السجلات الحكومية. ويعود ذلك لأسباب عديدة يتعلق أحدها بانقسام مناطق السيطرة، إذ تعامل النظام مع السوريين من منطلق المعارضة والموالاة، وعمد إلى حرمان المناطق التي خرجت عن سيطرته من جميع خدمات الحكومة، بما فيها خدمات السجل المدني والمحاكم وغيرها.
كما أفضت المتغيرات الاجتماعية والعسكرية التي عاشتها البلاد، إلى تزايد أعداد الأطفال “مجهولي النسب” في تلك المناطق، بسبب زواج سوريات من مقاتلين أجانب لم تُعرف هويتهم أو من مقاتلين محليين قُتلوا لاحقا وتعذر الحصول على وثائقهم أو تسجيل واقعات زواجهم نتيجة فقدان الوثائق أو وفاة الأبوين كليهما.
وبحسب تحقيق نشره موقع “الجمهورية” منتصف عام 2019، فقد تم توثيق 1826 طفلاً مجهول النسب في إدلب وريفي حماة الشمالي والغربي، ضمن حملة “مين زوجِك“. وقد جاء هؤلاء الأطفال نتيجة 1124 واقعة زواج.
أما في أرياف حلب الشمالي والشرقي والغربي، فقد وثّق التحقيق أكثر من ألفي طفل غير معلوم النسب، بالإضافة إلى وجود 350 حالة في أحد المخيمات المقامة في خربة الجوز. وقدّر التحقيق أن ما يزيد عن 8000 حالة لأطفال مجهولي النسب في 3 مخيمات تخضع لسيطرة الإدارة الذاتية شرقي سوريا.
مجهول النسب في القانون
يعرّف القانون السوري مجهول النسب بأنه “كل مولود لم يثبت نسبه أو لم يُعرف والده، إضافة إلى الأطفال الذين لا يوجد معيل لهم، ولم يثبت نسبهم ولا يملكون القدرة على السؤال عن ذويهم لصغر سنهم؛ والمولود من علاقة غير شرعية، حتى لو كانت والدته معروفة”.
أما “من كان والده أو والداه مسجلين في القيود المدنية السورية، أو ينتمي بأصله للجمهورية العربية السورية، ولم يُسجل ضمن المدة المحددة للتسجيل في قيود السجل المدني، أي خلال 30 يومًا من حدوث واقعة الولادة، فيُعرفه قانون الأحوال المدنية الصادر بالمرسوم التشريعي رقم 26 لعام 2007، بأنه ’مكتوم القيد‘”.
أسباب متعددة وحلول منقوصة
يُرجع باحثو “مركز حرمون للدراسات المعاصرة”، انتشار ظاهرة الأطفال “مجهولي النسب” في سوريا إلى “زواج بعض السوريات من مقاتلين أجانب مجهولي الهوية، أو الزواج من مقاتلين محليين قُتلوا لاحقاً وتعذر تسجيل وقائع زواجهم بسبب فقدان الوثائق، أو موت الأبوين كليها”، أو تغيير أسماء الجهاديين بكنيات إسلامية.
لكن المحامية سلوى نجار ترى في تصريح لـ “فنك” أن ما يسمونه بـ “زواج البراني”، وفقدان الأوراق الثبوتية للعائلات، من بين أهم الأسباب التي أدت إلى انتشار الظاهرة، خصوصاً في فترة الحرب.
ويتم “زواج البراني” في سوريا، بطريقة صحيحة إسلامياً، بحضور شيخ وولي الزوجة، ومهر، وإيجاب وقبول على سُنّة الله ورسوله لكن دون توثيق رسمي لدى الدوائر الحكومية الرسمية.
وتقول نجار التي عملت في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام خلال الحرب، إنهم تمكنوا خلال تلك السنوات من تثبيت كثير من الزيجات التي تمت بـ “كتاب براني”، لتأخذ هذه الزيجات شكلاً قانونياً في حال كان الزوجين سوريين، وفي حال كانا معروفَين، ولديهما أوراقهم الثبوتية.
أما في حالة الزيجات التي اختفى فيها الزوج وهو سوري الجنسية ولم تعرف الزوجة حتى اسمه الحقيقي، بحكم النزوح والتهجير، تشير نجار إلى أنه يمكن بهذه الحالة منح الأطفال نسب أمهم فقط عبر دعوى تثبيت أمومة، مع بقاء خانة الأب فارغة. وعلى هذا الأساس، يبقى هؤلاء الأطفال مجهولي النسب من طرف الوالد، ويتم التعامل معهم بحسب القانون السوري كبقية الأطفال مجهولي النسب.
وبخصوص الزيجات من أجانب سواء إن كانت الأم سورية أو الوالدان أجنبيين وأنجبا أطفالاً في الأراضي السورية فهو ملف خاص. ويعامل هؤلاء الأطفال معاملة الأجانب ويتواصل الجانب مع دولهم ليتم تسلمهم، حسبما ذكرت المحامية.
وبحسب منظمات حقوقية، فإن أغلب المهاجرين من أعضاء “داعش” كانوا يتزوجون سوريات في المناطق الخاضعة لسيطرة التنظيم، بعقود زواج ينظمها القاضي الشرعي للتنظيم، وتُغفل تلك العقود الاسم الحقيقي للزوج، ويتم الاكتفاء باسم الشهرة المستعار.
عائلات دون وثائق رسمية
تواجه العديد من الأسر السورية تحديات ضخمة جراء فقدان الوثائق الثبوتية أو وعدم قدرتها على تسجيل جميع الواقعات في السجلات الرسمية، التي طرأت على سجلهم المدني خلال النزوح أو التهجير القسري، وخروج العديد من المناطق عن سيطرة النظام، وتدمير أو إغلاق دوائر السجلات المدنية والمحاكم، وحصرها في حيز نطاق سيطرة النظام.
في هذا السياق، ذكر “المجلس النرويجي للاجئين”، في تقرير استقصائي له، إن 70% من اللاجئين يفتقرون إلى وثائق التعريف الرسمية (الهوية الوطنية). ومن أصل 734 أسرة نازحة داخليًا في خمس مناطق تابعة لمحافظتي درعا والقنيطرة، أفاد أكثر من نصف المستجيبين بأنهم “فقدوا شهادة زواجهم أو تمت مصادرتها أو إتلافها أو تركوها خلفهم عند نزوحهم”.
ومن عيّنة الدراسة الاستقصائية نفسها، فإن ربع أفراد الأسرة، من الذين بلغت أعمارهم 14 عامًا فما فوق، والذين يحق لهم الحصول على الهوية الوطنية لا يحملونها. يضاف إلى ذلك 304 أطفال من أصل 675 طفلًا تحت سن الخامسة، غير مسجلين في دفتر العائلة الخاص بتلك الأسر والذي يعد سجلًا رئيسًا للحصول على وثائق أخرى.
وتفيد الدراسة أيضًا، بأن 195 طفلًا تحت سن الخامسة من أصل 675 طفلًا ليس لديهم بيان ولادة رسمي، سوى ما صدر عن سلطات الأمر الواقع، التي لا تعترف بها الدوائر الرسمية.
حال اللاجئين السوريين في بلدان الجوار لا يختلف كثيرا، إذ تشير أرقام المجلس إلى أن أكثر من نصف المتزوجين السوريين في لبنان، لا يملكون وثائق زواج، وأن معظم الأطفال دون سن الخامسة، غير مدرجين في دفاتر عائلاتهم.
كما تشير إحصائيات المفوضية العليا للّاجئين، إلى أنّ 69% من اللاجئين السوريين في لبنان، لم يستطيعوا متابعة الإجراءات القانونية، لتسجيل ولاداتهم في سجل الأجانب. وترتفع هذه النسبة لتصل إلى 86% مع العائلات التي لم تستطع الحصول على إثباتاتٍ، كدفتر العائلة، أو إخراج القيد العائلي.
“شكل مختلف” بمناطق النظام
ظاهرة الأطفال “مجهولي النسب” أخذت شكلا مختلفا في المناطق الخاضعة لسيطرة للحكومة السورية، إذ تزايدت حالات رمي الأطفال الرضع في شوارع العاصمة دمشق وغيرها من المدن، لتصبح تلك الظاهرة اعتيادية بعد أن كانت غريبة قبل العام 2011.
مديرة مجمع “لحن الحياة” لرعاية الطفولة الكائن في دمشق “ندى الغبرة”، كشفت لوسائل إعلام موالية، عن وجود 3 حالات تقريباً لأطفال “مجهولي النسب” تأتي بشكل شهري إلى المجمع وحده. وتشير الغبرة إلى تواجد هؤلاء الأطفال في المجمع الذي يقوم، بعد استلام الطفل، بإرسال الوثائق للسجل المدني لتسجيله ويتم فتح إضبارة له.
وبحسب الغبرة، فإن عدد الأطفال الذين تخلّى أهلهم عنهم منذ بداية عام 2022 يزيد عن عشرة، في حين بلغ عددهم في العام الماضي 50 طفلا.
وكان مصدر قضائي أفاد صحيفة “الوطن” السورية عام 2018، بأن عدد مجهولي النسب المسجلين منذ عام 2011 بلغ نحو 300 طفلاً، مشيرا إلى تسجيل دائرة العدلية في دمشق حالة من هذا النوع كل شهرين.
كما وثقت منظمة “سوريون من أجل الحقيقة والعدالة” في تقرير لها عام 2020 ما لا يقل عن 43 حالة لأطفال حديثي الولادة تخلى عنهم ذووهم خلال النصف الثاني من عام 2019، والنصف الأول من عام 2020.
ومع تزايد أعداد الأطفال مجهولي النسب في المناطق الخاضعة لسيطرة النظام، أعلنت الحكومة السورية، مطلع العام الجاري، عزمها تشكيل لجنة خاصة لإعداد مشروع قانون خاص بمجهولي النسب، بالاشتراك مع عدة وزارات منها العدل والداخلية.
وفي هذا الصدد، قال وزير الشؤون الاجتماعية والعمل محمد سيف الدين لصحيفة “الوطن” إنه “سيتم تشكيل لجنة خاصة لإعداد مشروع قانون خاص بمجهولي النسب، مشيرا إلى أن “هذا المشروع قديم حديث باعتبار أنه تم عرضه على مجلس الشعب في عام 2018 إلا أن المجلس رفضه حينئذ”. وزعم أن “أعداد مجهولي النسب قليلة ولا تذكر”.