وقائع الشرق الأوسط وشمال إفريقيا

الهجرة عبر المتوسط: هل حان وقت محاكمة قادة أوروبا؟

Translation- migration
مهاجرون يتم إنزالهم من السفينة الحربية الأيرلندية “Naimh” لدى وصولهم إلى ميناء مدينة باليرمو يوم ٦ أغسطس ٢٠١٥، حيث كان على متن هذه السفينة ٣٦٧ من الناجين و٢٥ نعشاً، وذلك في أعقاب عملية إنقاذ بحرية من مركب كان يحمل على متنه ما يزيد عن ٦٠٠ مهاجر عبروا البحر المتوسط من الشواطئ الليبية. المصدر: AFP / Marcello Paternostro.

نشر موقع “The Conversation” مقالةً سلطت الضوء على الوضع الإشكالي الذي قد تواجهه المحكمة الجنائية الدولية أثناء التعامل مع ما قام الاتحاد الأوروبي بتطبيقه خلال العقد الأخير من سياسات على مستوى الهجرة. وتستهلّ كيرستين كارلسون، أستاذة القانون الدولي المشاركة في جامعة جنوب الدنمارك، مقالتها بنبأ تقدّم محاميين بدعوى إلى المحكمة الجنائية الدولية للمطالبة باعتبار سياسات الهجرة الأوروبية جرائم بحقّ الإنسانية. وتستعرض كارلسون أبرز الاتفاقات التي عقدتها دول الاتحاد الأوروبي مع دول مثل ليبيا وتركيا لمنع وصول اللاجئين إلى شواطئ أوروبا، بالإضافة إلى إلغاء تراخيص المنظمات غير الحكومية الناشطة في مجال إنقاذ اللاجئين. وترى صاحبة المقالة أن هذه القضية فرصة مهمة للمحكمة الجنائية الدولية لنفي تهمة استعمالها كأداة استعمارية جديدة بملاحقتها الأفارقة فحسب.

وشهد يونيو من العام الجاري تقدّم محاميين بشكوى إلى المحكمة الجنائية الدولية اعتبرا فيها أن سياسات الهجرة الخاصة بدول الاتحاد الأوروبي في البحر المتوسط جرائم بحقّ الإنسانية.

ويعني هذا الأمر أن فاتو بنسودة، المدعي العام للمحكمة، مطالبةٌ بتحديد إذا ما كانت ترغب بفتح تحقيق أولي للنظر في هذا الادعاء وما إذا كان يعد جريمةً أم لا.

وكتب المحاميان خوان برانكو وعمر شاتز وثيقة الادعاء في 245 صفحة، علماً بأنهما محاميان وناشطان يعملان ويقومان بتدريس الحقوق في العاصمة الفرنسية باريس. ويرى المحاميان أن سياسة الاتحاد الأوروبي للهجرة تم بناؤها على أساس الردع، ناهيك عن اعتبارهما لغرق المهاجرين كأحد العناصر المدروسة في هذه السياسة. ويرى المحاميان أنه تم انتهاك القانون الدولي المتعلق بالجرائم المرتبكة بحقّ الإنسانية، علماً بأن هذا القانون يسري على ممارسات الدول حتى وإن تمّ اقتراف هذه الجرائم دون وجود الصراعات المسلحة.

وترى كارلسون أنه في مقدور المحكمة الجنائية الدولية المضي قدماً في هذا الإجراء بحسب ما تتبعه من قواعد قانونية ومبادئ. إلا أن السير في هذا الاتجاه يطرح تساؤلاً سياسياً حول مدى قدرة هذه المحكمة على محاكمة مؤسسيها على أرضهم، ناهيك عن طرح تساؤلٍ آخر حول مدى وجوب توجه المحكمة في هذا الاتجاه.

وبحسب صاحبة المقالة، فإن لدى المحكمة الجنائية الدولية سببين قاطعين يدفعانها للمضي قدماً في هذه القضية. ويكمن السبب الأول في ارتباط هذه الشكوى بأزمةٍ حقوقية يشهدها الاتحاد الأوروبي. ويمكن للمحكمة الجنائية الدولية أن تؤدي دورها القضائي كملاذٍ أخير للتعامل مع هذه القضية، خاصةً وأن هذه المحكمة تعمل ضمن نطاقٍ يصعب على المؤسسات القضائية العابرة للدول مجاراتها. أما السبب الثاني فيتمثل في دحض المحكمة الجنائية الدولية للاتهامات الموجهة لها طيلة العقد الماضي بممارستها لنوعٍ جديد من الاستعمار في إفريقيا إذا ما وجّهت أنظارها إلى مؤسسيها (ومموليها).

شرعية المحكمة

تعتبر المحكمة الجنائية الدولية أولى المحاكم الجنائية التي يتم تكوينها على المستوى الدولي للعمل بصورةٍ دائمة. وتضم المحكمة في صفوفها حالياً ١٢٢ دولة، علماً بأنه تم العمل على تأسيسها في عام 2002.

ولم تقم المحكمة حتى هذه اللحظة إلا بمقاضاة الأفارقة. وأدى هذا الأمر إلى صدور انتقاداتٍ مستمرة تم اعتبارها فيها كمؤسسةٍ استعمارية جديدة “تطارد الأفارقة فقط” ولا تحاكم سوى الثوار والمتمردين. ولهذا السبب، فقد قامت جهاتٌ فاعلة كالاتحاد الإفريقي بإحباط ما تقوم به المحكمة الجنائية الدولية من جهود، إذ حثّ الاتحاد أعضاؤه على الانسحاب من عضوية المحكمة.

وكانت بوروندي أولى الدول التي انسحبت من المحكمة الجنائية الدولية في عام ٢٠١٧، لتحذو الفيليبين حذو هذه الدولة الإفريقية في مارس من العام نفسه. ويخضع البلدان حالياً لتحقيق المحكمة الجنائية الدولية على خلفية اتهام هاتين الدولتين باقتراف عددٍ من الجرائم. كما هددت جنوب إفريقيا بحسب عضويتها من المحكمة، لتتراجع بعد ذلك عن هذه الفكرة.
وعلى ضوء ذلك، رحب كثيرون بنبأ مطالبة المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بإجراء تحقيقٍ في عام ٢٠١٧ حول ما تم ارتكابه من جرائم في أفغانستان. وتخضع أفغانستان لسلطة المحكمة بصفتها عضواً فيها. وتضمن التحقيق الفظائع التي ارتكبتها حركة طالبان والقوات العسكرية الأجنبية الموجودة في أفغانستان، بما في ذلك أفراد من القوات المسلحة الأمريكية.

وتوجه الولايات المتحدة الأمريكية، التي لم تنضم إلى عضوية المحكمة، معارضةً شديدة لأي محاولة تهدف إلى توجيه أي اتهام للأفراد العاملين في قواتها المسلحة. وكانت المحكمة قد أعلنت في إبريل من عام ٢٠١٩ إغلاق إحدى دوائر المحاكمة التمهيدية لعملية التحقيق لأن المعارضة الأمريكية جعلت استكمال التحقيق أمراً مستحيلاً، ما أثار إحباط واشمئزاز مراقبي عمل المحكمة.

الهجرة إلى الاتحاد الأوروبي

Translation- migration
عبد الله كردي يجلس مقدمة سفينة إنقاذ من طراز “Sea-Eye” وتم تسميتها على اسم ابنه آلان كردي أثناء تدشين هذه السفينة بلدة بالما دي مايوركا يوم ١٠ فبراير ٢٠١٩. المصدر: AFP / Jaime Reina.

شهدت العقود الثلاثة الأخيرة غرق ما يقدّر بنحو ٣٠ ألف مهاجر في البحر الأبيض المتوسط. وحظيت محنة هؤلاء باهتمامٍ عالمي خلال موجة الهجرة التي شهدها عام 2015، حيث انتشرت على نطاقٍ عالمي صورة الطفل آلان كردي بعد مفارقته للحياة قبالة أحد الشواطئ التركية. ودخل في ذاك العام ما يزيد عن مليون شخص إلى أوروبا، وهو ما دفع الاتحاد الأوروبي وأعضاؤه إلى إغلاق الحدود البرية والبحرية في الشرق عن طريق إقامة الأسوار، فضلاً عن استكمال صفقةٍ بقيمة 3 مليارات يورو مع تركيا لإبقاء المهاجرين فيها. وبعد ذلك، قام الاتحاد بنشر سفنٍ تابعة لحلف الناتو في منطقة بحر إيجة بهدف القبض على المهاجرين وإعادتهم من حيث أتوا.

كما حلّت مشروعات حراسة الحدود محل مشاريع إنقاذ المهاجرين، مثل عملية “ماري نوستروم” الإيطالية التي أنقذت ١٥٠ ألف مهاجر في عامي ٢٠١٣ و٢٠١٤. وأسفر الضغط السياسي الرامي للحد من عدد المهاجرين إلى الشواطئ الأوروبية عن إلغاء وعدم تجديد تراخيص القوارب التابعة لمنظماتٍ غير حكومية تسعى لإنقاذ المهاجرين في البحر. وأدى هذا الأمر إلى الوضع الحالي الذي نعايشه الآن، إذ لم يبق في البحر المتوسط كله إلا قاربٍ وحيد تمكن مهمته في خفر السواحل.

وقام الاتحاد الأوروبي بتسليم مهام البحث والإنقاذ إلى خفر السواحل الليبي الذي اتُهم مراراً بارتكاب فظائع بحق المهاجرين. وتجري الدول الأوروبية حالياً مفاوضاتٍ حول استقبال المهاجرين من منطقة البحر المتوسط استناداً إلى وضع كل حالة على حدة.

مأزق حقوقي

ينطبق القانون الدولي وفوق الدولي على المهاجرين، إلا أن هذا القانون لم يقدّم لهم الحماية الكافية حتى هذه اللحظة. ويفرض قانون البحار على السفن مساعدة من هم في حاجة إلى العون. إلا أن هذا المبدأ الدولي يواجه تحدّياً حقيقياً وسط سلسلةٍ من حالات رفض السماح للسفن بإنزال من قامت بجمعه من مهاجرين.

وتشرف محكمة العدل في الاتحاد الأوروبي على سياسات الهجرة واللاجئين. وتتضمن هذه الرقابة الآن صفقة عقدت منذ سنتين مع ليبيا يرى بعض المتابعين أنها بمثابة “حكمٌ بالإعدام على المهاجرين”.

وترى كارلسون أن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أثبتت انعدام “صداقتها للمهاجرين”. وعلى الرغم من الاحتفال بقرار المحكمة الصادر في عام 2012 في قضية “هيرسي” لكونه موقفاً تقدمياً تجاه حقوق المهاجرين بحراً، فإن الغموض يعتري كيفية تطبيق هذا الحكم على نطاقٍ واسع.

وعلى الرغم من اللجوء إلى المحاكم الأوروبية للحصول على الأحكام منها، إلا أن رحلة المهاجرين لم تزدد إلا بؤساً وخطراً على مدار الأعوام القليلة الماضية. ويمكن القول إن الآليات والسياسات الأوروبية الحالية والالتزامات الدولية بالحقوق لا تتحلى بالقدرة على تحقيق أي تغيير في هذا الجانب. ويعني هذا الأمر وجود أزمةٍ حقوقية تتطلب بالضرورة نموذجاً قضائياً جديداً.

قيام المحكمة بدورها

يعتبر الدور المكمّل عنصراً أساسياً في عمل المحكمة الجنائية الدولية. ويعني هذا الأمر عدم أحقية المحكمة في التدخل إلا في حال عدم قدرة الدول على التصرف أو عدم رغبة هذه الأخيرة بالقيام بذلك.

ولعب الدور المكمّل دوراً محورياً غير متوقع في القضايا التي تنظرها المحكمة، إذ قدّمت الدول الإفريقية متهمين إلى المحكمة مدّعيةً أنها لا تملك الموارد اللازمة لمحاكمتهم بنفسها. وساهم هذا الأمر إلى حدٍّ كبير في الفشل السياسي للمحكمة في إفريقيا، حيث قامت الحكومات المنتهكة لحقوق الإنسان بتسليم خصومها السياسيين إلى المحكمة لمقاضاتهم بسوء نية متعمد. وعلى هذا النحو، بات في مقدور هذه الحكومات التمتع بفضاءٍ سياسي محلي خالٍ من الخصوم السياسيين، ما يتزامن مع شكوى هذه الحكومات بالذات من تدخّل المحكمة الجنائية الدولية في شؤونها المحلية.

وترى كارلسون أنه لم يكن من المفترض على الدور المكمّل العمل على هذا النحو.

ويُظهر المأزق الحقوقي الحالي في ملف الهجرة بالاتحاد الأوروبي السبب الحقيقي الذي وُضع مبدأ التكاملية لأجله، وهو ترجيح كفة سيادة الدول على إنفاذ القانون، وأن يقتصر تدخل المحكمة في حال انتهاك الدول للقانون الإنساني ورفضها التصرف حيال هذه الانتهاكات. وأدى تناغم العقد الماضي من حالات الهجرة المميتة مع سياسة اللجوء الجائزة التي طبقتها أوروبا إلى ما نعيشه من مأزقٍ حالي.

ولا يحظى المهاجرون بالقدرة على الانتخاب أو التمتع بتمثيلٍ سياسي في الاتحاد الأوروبي، ما يجعل مسالة حماية اللاجئين رهناً بمعايير حقوق الإنسان، والالتزامات الدولية التي تنص على تلك الحقوق. إلا أنّ هذه المعايير لا يجري تطبيقها، ويرجع ذلك بصفةٍ جزئية إلى بقاء قضيتي المواطنة وأمن الحدود إلى حد كبير ضمن مجالٍ يمس سيادة الدول نفسها. وتتسبب تلك السياسات في وقوع جريمة مستمرة بحقّ الإنسانية.

وتختم كارلسون مقالها بالتالي: “قد تكون المحكمة الجنائية الدولية المؤسسة الوحيدة القادرة على حل الأزمة الحالية بتهديدها بمحاكمة قادة الدول الأوروبية جنائياً. وهذا هو عمل مؤسسات الملاذ الأخير التي تم تصميم القانون الدولي من أجلها. وعلى هذا النحو، ينبغي على المحكمة الالتزام بالمُثل التقدمية التي أُسست عليها، ناهيك عن التدخّل لحل هذه الأزمة”.