غسان عقله
على اعتبار أن الثقافة [1] هي “طريقة حياة تميّز كل مجموعة بشرية عن مجموعة أخرى”، تنقّلت المجتمعات البشرية عبر العديد من الثقافات الخاصة والمتنوعة على مر العصور، فكان لكل عصرٍ ولكل شعبٍ خصوصيته الثقافية التي عكست هويّته وأبرزت قِيمه. في العصور الحديثة، أخذت خصوصية الثقافات وتنوعها بالتراجع بصورةٍ بطيئة، وذلك نتيجة اتصال الجماعات فيما بينها بشكل مباشر في عمليّةٍ اصطُلح على تسميتها “الانصهار الثقافي” [2]، من ذلك الحالة الثقافية التي فرضها ظهور الاستعمار الحديث. اليوم وفي عصر العولمة، شكّلت القفزات التكنولوجية الهائلة (وما نتج عنها من وسائل إعلام واتصال) ركيزة “الثقافة الإلكترونية” المميزة لروح هذا العصر، ربما لا زالت هذه الثقافة تحمل شيئاً من سمات العصور الحديثة المتمثلة بـ”الانصهار الثقافي”. إلا أن هذا الانصهار أصبح ذوباناً وتنميطاً ثقافيّاً يروج للقيم الفردانية والاستهلاكية والنفعية. وإن كانت أبرز شروط “الانصهار الثقافي” توافر الزمن الطويل والاتصال المباشر، فإن “الثقافة الإلكترونية” ونتيجة ارتكازها على العامل التكنولوجي أسقطت هذين الشرطين. فالتذويب والتنميط الثقافي يحصل بصورةٍ متسارعة وفجّة، ودون أي اتصال مباشر بين الشعوب.
وتعتبر فئة الأطفال والمراهقين أكثر الفئات استهدافاً في “الثقافة الإلكترونية” لعصر العولمة. وبحسب تقرير منظمة الـ”يونيسف” عام 2017 والذي حمل عنوان: “الأطفال في عالم رقمي”، فإن الأطفال والمراهقين دون 18 عاما يشكّلون ثلث مستخدمي الإنترنت في مختلف أنحاء العالم [3]. والاستهداف هذا يختلف من الناحية الوظيفية عن استهداف باقي الشرائح العمرية. فعلى سبيل المثال، وبصرف النظر عن كون “الثقافة الإلكترونية” تروّج للقيم الفردانية على حساب “المثل العليا”، إلا أن لها بالمحصلة وظيفةً مباشرة مع الفئات العمرية الأكبر من 25 عاماً.
وهذه الوظيفة قد تكون خدميةً، أو تسويقيةً.. إلخ. أما وظيفتها مع فئة الأطفال فتقتصر على الدور البنائي الصرف. هي تتعمد بناء وتكوين شخصية الطفل بما يتلاءم ومعطيات الحاضر وتوقعات المستقبل. وهنا بالتحديد تكمن خطورتها وتتجلى طبيعتها الحقيقية بوصفها ثقافة تذويب وتنميط ثقافي.
وإن كانت مشكلة “الثقافة الإلكترونية” بالنسبة للأطفال مشكلة عالمية، بمعنى أن تأثيرها السلبي يطال مختلف المجتمعات في كافة أنحاء العالم، – بالمناسبة قد يخلط البعض بين الثقافة الغربية والثقافة الإلكترونية، فيعتقد أن العالم اليوم يعيش في ظل الثقافة الغربية، هنا لا بد من التأكيد أن الثقافة الغربية هي جزء من الثقافة الإلكترونية وليست كلها – إلا أن أطفال العالم العربي يتأثرون بشكلٍ خاص بهذه الثقافة، لدرجة يمكننا معها أن نقول: إننا على مسافة جيلين أو ثلاثة على الأكثر من اختفاء شبه كامل لأسس ومقومات الثقافة العربية.
وليس غرض هذا المقال بطبيعة الحال تعداد مخاطر “الثقافة الإلكترونية” على الأطفال في العالم العربي، فالمواقع التربوية المتخصصة ملأى بشروحات وافية عن تلك السلبيات، كما – وهو الأهم – ليس غرضه الدفاع عن الثقافة العربية بعينها والقول إنها “ثقافة القيم المثلى التي تُحارب لترسيخ قيم الإنحلال والفجور مكانها…”، أبداً! نحن، وكما ورد في الأعلى، أمام مشكلة عالمية، والحديث هنا عن الخصوصية الثقافية لشعبٍ ما بوصفها إحدى تجليات هُويّته وعنصر هام من عناصر توازنه الذاتي. وعلى أيّة حال، كل ثقافةٍ في العالم تنطوي على الإيجابي والسلبي معاً، والثقافة العربية ليست الاستثناء في هذا التعميم.
لنحاول الآن الوقوف على أسباب تأثر أطفال العالم العربي الكبير بـ”الثقافة الإلكترونية”، لدرجةٍ قد نشهد معها انقراض الثقافة العربية برمّتها. في الحقيقة، نحن أمام مشكلتين رئيسيتين تتفرع عنهما العديد من المشكلات الأخرى:
الأولى، للعرب تأثير ثقافي شبه معدوم: العرب توقفوا عن الإنتاج الثقافي منذ قرون طويلة، ولا زالوا حتى اليوم يلوكون أمجاد ذلك الماضي البعيد بملل، دون أن ينتبهوا أن أكثر من 400 مليون عربي اليوم عاجزون تماماً عن إنتاج ورقة بحثية ذات قيمة، أو برمجة تطبيق ذكي له وزن يجول هواتف سكان الأرض. أكثر من ذلك، حتى على مستوى الترفيه وصناعته يتراجع العرب إلى مستويات مخيّبة، ففي تقريرٍ أعدّته مؤسسة (U.S. News & World Report) للدول العشر الأكثر تأثيراً ثقافياً في العالم [4]، لم تفلح أي دولة عربية بشغل أي مركز في تلك القائمة، رغم أن معايير التقييم كانت بسيطة إلى حد بعيد (المكانة، الترفيه، الموضة، المعاصرة، الحداثة، السعادة والتأثير الثقافي العام)!
دون شك فإنّ شعباً لا يملك قوّةً ثقافيّةً تكون ندّاً، ولو بالحد الأدنى، للثقافات الأخرى بحيث تدخل معها بعملية تأثير متبادل، لا يمكنه لوم أبنائه إن هجروا تلك الثقافة، أو إن أفلحت ثقافة عصر العولمة الإلكترونية باستلابهم دون جهدٍ يذكر منها!
الثانية، العرب غير مواكبين مطلقاً لهذه “الثقافة الإلكترونية”: وهو أمر لا تصعب ملاحظته، أنظر مثلاً لأفلام الكرتون التي يتابعها أطفال العرب، كلّها نتاج ثقافات الشعوب الأخرى، كلّها تتحدث عن أبطال غرائبيين (بوكيمون، نينجا، تايتينز..). العرب اليوم لا يستطيعون إنتاج بطل عربي واحد يقدموه لأطفالهم! حتى بعض المحاولات العربية لإنتاج مثل هذا البطل، هي محاولاتٌ خجولة ولا تحمل أثراً، وبقصص محورها من الفكر الغربي وبتقنيات غربية كذلك (أنظر مثلاً المسلسل الكرتوني “منصور”، وهو من إنتاج إماراتي).
إن غياب البطل العربي ليس أمراً سيّئاً بذاته لو أن الأمر اقتصر عليه وحده، إنما المشكلة أن ذاك البطل الافتراضي يغيب ويغيب معه دور الأسرة ودور المدرسة التربويان، أي ينقطع تماماً “التوريث الثقافي” للطفل. ينقطع فتحضر مكانه “الثقافة الإلكترونية”، لتقدم منفردةً قيماً متهالكة بعيدة كل البعد عن القيم الأخلاقية الرفيعة، هذا من ناحية. ومن ناحية أخرى، تصوّر تلك الثقافة لهذا الطفل – وسواه – الإنسان العربي على أنه رجلٌ شرير متعطّش لإهانة المرأة ولسفك الدماء.. ولا بد للبطل الخارق من هزيمته في النهاية. إن أطفال العرب ينشؤون مهزومين دون إدراك، فكيف ينتمون إلى ثقافة تسببت بهزيمتهم؟!
قصارى القول: قد يحمي العرب أطفالهم من بعض سلبيات “الثقافة الإلكترونية” مثلهم في ذلك مثل جميع المجتمعات الأخرى. يحجبون عنهم مشاهدة محتوى جنسي باستخدام بعض التطبيقات. يمنعون استغلالهم أو الإتجار بهم.. إلخ. لكنهم وبكل تأكيد عاجزون عن حمايتهم كليّاً منها. لن يستطيعوا منعها من بناء شخصيتهم، من تكوينهم، من تنميطهم في قوالب فارغة من أي مضمون قيمي. إيقافُ هذه السلبيات منوط فقط بحل أسباب استسلامنا المطلق لتلك الثقافة. دون ذلك، فإن مقولة “اندثار الثقافة العربية” ليست تطيّراً ولا تنجيماً، إنما هي مسألة وقت قبل أن تصبح حقيقةً معاشة!
[2] الانصهار الثقافي:
[3] تقرير اليونيسف: https://www.unicef.org/publications/files/SOWC_2017_Summary_Ar_Web.pdf
[4] الدول الأكثر تأثيراً ثقافيا: https://alqabas.com/article/5710547-10
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.