يفترض ألّا تكون الذكرى السنوية لتأسيس حركة فتح مجرد ذكرى للاحتفال، وإنّما مناسبة لمراجعة التجربة، وتقييمها، ونقدها، واستنباط الدروس منها.
ماجد كيالي
يفترض ألّا تكون الذكرى السنوية لتأسيس حركة فتح مجرد ذكرى للاحتفال، وإنّما مناسبة لمراجعة التجربة، وتقييمها، ونقدها، واستنباط الدروس منها.
فهذه الحركة أسهمت في استنهاض شعب فلسطين، وبلورة هويته الوطنية. كما أنها قادت كفاحه الوطني، وطبعته بطابعها حتى الآن. وكان ذلك من موقعها في قيادة منظمة التحرير، منذ عام 1969، وقيادة السلطة الوطنية، منذ نشوئها في عام 1994.
في هذا الإطار، من المفيد تفحّص مآلات الفكر السياسي لفتح، التي تمحورت حول المبادئ الأساسية للحركة. ومن أبرز هذه المبادئ المادة الثانية التي تنص على وحدة الشعب الفلسطيني، باعتباره “صاحب الحقّ في تقرير مصيره والسيادة على جميع أراضيه”.
كما تنص المادة الـ12 على “تحرير فلسطين تحريراً كاملاً وتصفية الكيان الصهيوني اقتصادياً وسياسياً وعسكرياً وثقافياً”. أما المادة 13، فتنص على “إقامة دولة فلسطينية ديمقراطية… على كامل التراب الفلسطيني تحفظ للمواطنين حقوقهم…على أساس العدل والمساواة من دون تمييز بسبب العنصر أو الدين أو العقيدة”.
هكذا، وبصرف النظر عن رأينا، فإنّ هذه الأفكار شكّلت هوية فتح وميّزتها عن غيرها. كما أنها ساهمت في تعزيز شعبية الحركة، في بيئةٍ كانت تعجّ بالأيديولوجيات والطروحات القومية واليسارية والإسلامية.
هذه المبادئ لم تبق على حالها، إذ تحوّلت فتح عن هدف التحرير إلى إقامة سلطة أو دولة في أي جزء يجرى «تحريره». وكان ذلك منذ تبني ما بات يعرف بـ «البرنامج المرحلي» في عام 1974. ومن الأسباب التي تفسّر ذلك التحول الكبير هو أنّ فتح لم تكن تولي اهتماماً مناسباً لفكرها السياسي.
يضاف إلى ذلك تحكّم الطبقة القيادية لهذه الحركة بتقرير الخيارات الكبرى. وهنا، لا بد من الإشارة إلى أن الديمقراطية لا تشتغل جيداً في الحقل السياسي لفصائل الفلسطينيين. وبهذه الطريقة، وعبر مفاوضات سريّة، تم تمرير اتفاق أوسلو في عام 1993.
ليس القصد هنا نفي شرعية التغيير في التفكير السياسي للحركات والأحزاب، فهذا أمر محمود. بيد أنّ هذا التغيير لا بدّ وأن يأتي نتيجة لتفاعلٍ داخلي، وكمحصلة عمليّة ديمقراطية، وفي سياق الإغناء والتطوير.
كما أن التغيير ينبغي أن يأتي مع المحافظة على الهدف الأساس، أو الروح التي شكّلت هذه الحركة أو الحزب. وفيما يتعلق بفتح، فإنّ هذا الأساس يتمثل في تعزيز هويّة الفلسطينيين وكيانيتهم السياسية، واستمرار كفاحهم لتقويض المشروع الصهيوني الاستعماري والعنصري.
وخلاصة القول، تحوّلت فتح من حركة تحرّر إلى سلطة، ومن سردية نكبة 1948 إلى سردية احتلال 1967. وبطبيعة الحال، فقد انعكس هذا التحوّل سلباً على إدراك الفلسطينيين هويتهم التي باتت عرضة للتمزّق. كما أنّه أثّر على إجماعاتهم التي باتت متباينة. وينحسب الأمر كذلك على كيانيتهم الرمزية الموحّدة المتمثلة في منظمة التحرير، التي أضحت مهمّشة، لمصلحة السلطة الفلسطينية.
الأنكى أن التخلّي عن سردية النكبة، أو تغييبها، بدعوى الواقعية، أخرج اللاجئين من المعادلات السياسية. هذا التخلّي طرح علامات شكّ حول مفهوم الشعب، مع اختزال الهدف بإقامة دولة على جزء من الأرض لجزء من الشعب. وبات تعريف الفلسطينيين، عملياً يقتصر على فلسطينيي الضفة والقطاع. وفي حال مأسسة وشرعنة هذا الوضع، فإنه قد يؤدي تقويض الهوية الفلسطينية.
قد يعتقد البعض أن الواقعية والظروف والتحديات الصعبة والمعقدة التي اختبرتها الحركة الفلسطينية اضطرّتها إلى التغيير. لكن تفحّص الخيارات السياسية، والطريقة التي أدير بها العمل الفلسطيني، يبيّنان الدور الكبير للعامل الذاتي في تطويع هذه الحركة وحرف مسارها.
وأعني بالعامل الذاتي هشاشة البنية المؤسّسية، وضعف الحراك الديمقراطي، والتعويل على العمل الاستعراضي والخارجي. وبطبيعة الحال، فإنّ هذا العامل الذاتي يشمل فيما يشمل تحكّم طبقة سياسية محدّدة بالعمل السياسي منذ نصف قرن.
في المحصلة، أضحت الأمور معكوسة. وبدلاً من أن تكرّس فتح وغيرها من الفصائل الفلسطينية نفسها لاستعادة حقوق الشعب، بات الحفاظ على وجودها هو الهدف. وبدلاً من أن تغيّر الحركة الوطنية الواقع الاستعماري والعنصري في فلسطين، قامت هي بتغيير أو مواءمة ذاتها مع هذا الواقع.
على أية حال، كان بإمكان فتح الحفاظ على جوهر فكرتها كحركة تكافح ضد الصهيونية الاستعمارية الاستيطانية والعنصرية، بتطوير فكرتها عن “الدولة الديمقراطية الواحدة”.
فهذا الهدف ينطوي على أفكار واقعية أيضاً، باعتباره ينطلق من الواقع الناشئ في فلسطين الكاملة. كما أنه يعالج المسألتين الفلسطينية والإسرائيلية، بطريقة تتجاوب مع القيم الإنسانية العالمية، أي قيم الحرية والمساواة والحقيقة والعدالة والديمقراطية.
ثمة جوانب أخرى تفاقم إشكاليات فتح التي بات عمرها قرابة ستة عقود، دون أن تنجز أهدافها، لأسباب ذاتية وموضوعية. ومن هذه الإشكاليات افتقاد الحركة للحراكات الداخلية، وتكلّس بناها، وشيخوخة قيادتها.
ولنلاحظ مثلا أنّ الحركة لم تعقد منذ إقامة السلطة سوى مؤتمرين عامّين لها كانا في عامي 2009 و2016. كما أن محمود عبّاس، زعيم الحركة، يجمع إلى جانب منصبه ذلك رئاسته لمنظمة التحرير والسلطة الفلسطينية. وكما هو معروف، فإن عبّاس في أواخر الثمانينيات من عمره، ولا يوجد نائب له. وليس هناك موعد لأي انتخابات، مع العلم بأن عبّاس يترأس المنظمة والسلطة منذ 18 عاما فقط!
ملاحظة
الأفكار الواردة في هذه التدوينة هي آراء المدوّن الخاص بنا ولا تعبّر بالضرورة عن آراء أو وجهات نظر فنك أو مجلس تحريرها.